اقتصاد سياسة مجتمع منشورات

عهد العجز وصراعات حكومة إدارة الإنهيار

سرعة قياسية انفجر الخلاف حول شعاري العودة الطوعية الفورية والعودة الآمنة المشروطة بالحل السياسي، وسط تجاهل لمعاناة النازحين ولإصرار النظام السوري على استخدامهم  وسيلة ضغط  لفرض التعامل معه. انتقل خلاف الوزراء إلى طاولة الحكومة في جلستها الأولى

      سريعاً تبددت آمال الذين راهنوا على تشكيل الحكومة، كمؤشر لولوج مرحلة جديدة تنقذ البلد مما فيها من مصاعب وأزمات، استُغلت لتبادل الضغوط  بين مختلف أطراف الداخل والخارج، من أجل توزيع الحصص والفوز بالوزارات واقتطاع الوازن منها في الإنفاق المالي الموعود وفق مقررات المؤتمرات الدولية لمساعدة لبنان.

لم يشكل البيان الوزاري الذي تمت صياغته بسرعة قياسية، مصدر اطمئنان للبنانيين كما للخارج، نظراً لمضمونه الذي لا يخرج عن إطار التوافق اللغوي المشرّع على شتى الإلتباسات في مقاربة القضايا الرئيسية والخلافات التي تأسر البلد وتهدد مستقبله. كذلك فإن الثقة النيابية الوازنة لم تضمن الحد الأدنى من التضامن الوزاري، لأن الألغام والأفخاخ التي انطوت عليها مسارات تشكيل الحكومة ونتائجها، جاهزة دوماً للتفجير من قبل أطراف الداخل المستجيبة طوعاً لضغوط الخارج.

وبما أن قوى السلطة تتقاسم مؤسسات الحكم والسلطة والوزارات والإدارة وأجهزة الدولة. فإنها أيضاً تتوزع الملفات العائدة لها على شكل إقطاعات خاصة، وفق صيغ تجعل كل طائفة أو طرف صاحب ملكية حصرية يكاد يمتنع على الآخرين الاقتراب منها. أما العلاقات مع الخارج عداءً وولاءً وإدارة، فهي مسؤولية يتوزعها جميع المسؤولين من أهل الحكم والأطراف، كل من الموقع الذي يتموضع فيه والمحور الدولي أو الإقليمي الذي يدين له بالولاء، أو يستمد منه القوة، مقابل إلتزام  سياساته ومصالحه، لأن كلاً منهم بات مندوباً سامياً أو وكيلاً شرعياً أو ناطقاً رسمياً لجهة ما، أما دوائر الدولة ومؤسساتها والمقرات الحزبية فهي شبه سفارات ومراكز عمل لا  تكتفي بتنظيم جداول أعمال موفدي الخارج. 

 لذلك وبسرعة قياسية كان اللبنانيون على موعد مع انفجار الأزمات على أكثر من صعيد وميدان.  فما إن انتهت جلسات منح الثقة لحكومة “الوفاق الوطني” وينطق رئيسها بشعار “إلى العمل”، حتى بدا الأمر وكأنه كلمة السر لإطلاق العمليات الهجومية من جميع الفرقاء وفي شتى الاتجاهات داخلياً وخارجاً. فقبل تحديد موعد انعقاد جلسة مجلس الوزراء الرسمية الاولى، عمد رئيس الحكومة إلى دعوة ممثلي الدول والجهات  المانحة المعنية بمقررات مؤتمر “سيدر”، لاستطلاع إمكانيات وضعها قيد التنفيذ، في أعقاب تكاثر الإنذارات والإشارات السلبية بشأنها. لتواجه إطلالة المندوب الفرنسي المكلف التذكير بالإصلاحات والشروط المطلوبة، بسيل من الإدانات والردود الرافضة لها.

في المقابل لم يتأخر وزراء الممانعة عن إطلاق اعلانات إلتزامهم مصالح وسياسات النظام السوري، والعمل كممثلين له وناطقين باسمه، سواء لطلب التطبيع معه حول ملف النازحين، أو لإعلاء راية المطالبة بعودته إلى الحاضنة العربية المهترئة.  بسرعة قياسية انفجر الخلاف حول شعاري العودة الطوعية الفورية والعودة الآمنة المشروطة بالحل السياسي، وسط تجاهل لمعاناة النازحين ولإصرار النظام السوري على استخدامهم  وسيلة ضغط  لفرض التعامل معه. انتقل خلاف الوزراء إلى طاولة الحكومة في جلستها الأولى، ليتحول صراعاً على الصلاحيات، ويعلن رئيس الجمهورية أنه المعني الوحيد بتحديد السياسات، ويرفع الجلسة وسط صمت رئيس الحكومة. غير أن مضاعفات ما قيل  فجرت جولة جديدة من الردح الطائفي المتبادل حول الصلاحيات بين الرئيسين. ومع استحضار الدعم السعودي، انفجر الخلاف حول المسؤولية عن تشكيل وفد الحكومة إلى مؤتمر بروكسل الخاص بالنازحين ومن يضم في عداده، وارتفعت منابر اطلاق التحديات،  لينتهي الأمر برئيس الحكومة إلى الاعتكاف في باريس بانتظار هدوء العاصفة وايجاد المخارج  للأزمة وما رافقها من عنتريات.

 في الوقت عينه، كان حزب الله  يطلق معركة مكافحة الفساد، على أنها الوجه الآخر لمقاومة اسرائيل ومحاربة الارهاب في الداخل والخارج، لأن الخونة وحماة الارهابيين هم الفاسدون، موجهاً سهامه إلى أبرز خصومه السابقين في الحكم وأهم رموز الحريرية السياسية، لتنبري في مواجهته جبهة مذهبية  تستحضر معها جماعة 14 آذار المنتهية الصلاحية، وتنفتح معركة سجالات دفاعية وهجومية، وترسم  في سياقها الخطوط الحمر على ألسنة المرجعيات الدينية. أما رئيس لجنة الادارة والعدل النيابية أحد أركان التيار الحر، فيبادر إلى اعلان اكتشافه  جريمة التعيينات خلافاً للقانون، متناسياً أن  الجميع  شركاء فيها وأن محاسبة مرتكبيها من الوزراء أمر محال، فيتحول استعمالها وسيلة تغطية لتبرير عجز الخزينة تضاف إلى سلسلة الرتب والرواتب والنازحين. لذلك سارع المعنيون إلى  النفخ في ملفات بعض السماسرة والمرتشين في الأجهزة الأمنية والقضائية والإدارية، التي يمكن الإكتفاء بها لطي الحرب الكبرى لمكافحة الفساد، تمهيداً لإقفال الملف قبل هلال رمضان القادم كما وعد الرئيس. 

وإذا لم نكن في وارد تعداد الملفات المتفجرة وهي كثيرة، فإنه من العسير أن نتجاهل تكاثر المبادرات لتسليح الجيش ودعم الاقتصاد ورفع الحجر عن السفر إلى لبنان لتعزيز السياحة وإعادة النازحين وتأمين الكهرباء والقروض السكنية ومكافحة التلوث  وإطلاق وعود الازدهار والنمو والحد من العجز المالي والتهرب الضريبي ومكافحة التهريب والمخدرات. في وقت تتوالى فيه التصنيفات السلبية من المؤسسات العالمية لحالة الاقتصاد، وتتعدد اصوات التحذير من ارتفاع الإنفاق والعجز والدين، في ظل زحف المخاطر المالية إلى الحد الذي دفع بوزير المال وبالتنسيق مع المصرف المركزي، للطلب من مراقبي عقد النفقات وقف الحجز لمختلف أنواع الإنفاق، باستثناء الرواتب والأجور وتعويض النقل المؤقت، وذلك اعتباراً من تاريخ 22 آذار الجاري، إلى حين ابلاغهم تعليمات أخرى. مما يعني حصر الإنفاق بهذا البند الذي يستهلك 35% من المالية العامة، وأن  مؤسسات الدولة وقطاعاتها دخلت في مرحلة الشلل السريري، الأمر الذي يضع الوعود والالتزامات كافة في محطة الإنتظار.

  أما ماذا ينتظر اللبنانيون من أهل الحكم؟، فمن المؤكد أن وعود الإصلاح والنمو ومكافحة الفساد، ليست سوى شعارات  للاستهلاك ولا مكان لها في جداول أعمال مطلقيها، لأن ما أنتجته سياساتهم في الداخل وما ولّده إرتهانهم للخارج، من أزمات هي بالنسبة لهم ميادين الاستثمار المجدي لتكريس أدوارهم وحشد المضللين والمنتفعين حولهم. أما البلد والدولة ومؤسساتها  فإنهم لا يرون فيها سوى بقرة يتقاسمون حليبها ولحمها، ويتنازعون جلدها وعظامها. يبقى التحدي الذي يواجهه المعترضون ودعاة التغيير يتمثل في قدرتهم على اقناع المتضررين بالنزول إلى الشاع دفاعاً عن حقوقهم ومصالحهم بديلاً عن التكيف مع الإنهيار واليأس والعجز.

[author title=”زكي طه” image=”http://”]كاتب لبناني[/author]