سياسة مجتمع منشورات

في ذكرى استشهاد المعلم كمال جنبلاط : تغييبه مدخل وأد مشروع الاصلاح السياسي

فالمشروع الوطني وقواه واجها خطورة نهج يقوم على محاولة فصل لبنان عن محيطه والانسحاب من ميدان الصراع القومي. وعلى الصعيد الاقتصادي حصد لبنان نتيجة إعاقة استمرار تطوره الاقتصادي،

في ذكرى السادس عشر من آذار يعود الوطنيون والديموقراطيون اللبنانيون لاستذكار واسترجاع قائد مسيرتهم وحامل مشروعهم للتغيير القائد الشهيد كمال جنبلاط. يجري هذا في زمن يبدو فيه وطنهم منكشفاً أشد الانكشاف على الخارجيْن العربي والدولي. وما يجري ليس سوى نتيجه حتمية لمثل هيمنة هذه الطبقة السياسية الحاكمة بمختلف مكوناتها. الطبقة السياسية نفسها التي ثار عليها وواجهها كمال جنبلاط وحركته الوطنية بصلابة الموقف ووضوح الأهداف، وذهب بصراعه معها إلى حدود الاستشهاد. مواجهاً بقامته المديدة ورؤياه البعيدة محاولات وأد مشروع التقدم والحداثة من جانب “السجن العربي الكبير” وزبانيه الذين ذبحوا شعوبهم متشدقين بشعارات قومية مزيفة. والأفدح الآن هو  نزع هذه الطبقة بمختلف قواها بوابات وطنهم أمام الاميركي والروسي والفرنسي والايراني والتركي … حتى يبدو هذا الوطن وكأن لا استقلال أو حدود له ولا حياض أو سيادة، مجرد ساحة أو صندوقة بريد لإيصال الرسائل الدامية.. كل هذا ولم نتحدث عن مآلات الاقتصاد اللبناني نتيجة الديون ومنوعات النهب والتشبيح على مؤسساته، واعتبارها مجرد ملكيات موقوفة لهذه الطائفة وتلك الجماعة.

يستذكر الوطنيون والديموقراطيون اللبنانيون قائد مسيرتهم في هذا الزمن الصعب والعصيب، وهم يواجهون أفدح المخاطر على وطنهم ومستقبل شعبهم وسط غابة التكالب عليه دوراً وموقعاً. ويتأكد اللبنانيون في هذا الوقت بالذات على الأهمية الاستثائية الخاصة لإعلان برنامج الاصلاح الديمقراطي للنظام السياسي على صعيد لبنان وفي محيطه العربي. وعلى تواضع البرنامج الذي سمي حينها “بالبرنامج المرحلي للحركة الوطنية اللينانية” الا أنه كان يمثل نهجاً جديداً غير مقبول من السلطة اللبنانية والقوى الطائفية المكونة لها، ولا من قوى المحيط العربي. فالسلطة ترفضه للاستمرار بنهجها الانغلاقي ورفضاً للاصلاح. وكذلك قوى المحيط العربي، لانه يؤسس لنهج في العمل السياسي يرسي الشراكة الشعبية ويحمل تطلعاً إلى حداثة عصرية و خروجاً عن استئثار فئة قليلة محددة ومحدودة بالحكم. ثم هناك مداه القومي الذي يفيض عن قدرة هذه الأنظمة ويقطع على طموحها بالمساومة مع الكيان الصهيوني واميركا.

لمثل هذا كانت المواجهة شرسة مع قوى التخلف والطائفية والقمع والتبعية من الداخل اللبناني وبدعم من الخارج الاستبدادي. كانت الأحداث المتتابعة انطلاقاً من استشهاد المناضل الوطني معروف سعد، مروراً بمجزرة عين الرمانة في 13 نيسان 1975، التعبير الصارخ عن بلوغ الأزمة طوراً يفرض المعالجة التى تتجاوز الظاهر إلى العوامل الكامنة وراءه، ومن هنا جاء البرنامج الوطني للاصلاح السياسي. فالمشروع الوطني وقواه واجها خطورة نهج يقوم على محاولة فصل لبنان عن محيطه والانسحاب من ميدان الصراع القومي. وعلى الصعيد الاقتصادي حصد لبنان نتيجة إعاقة استمرار تطوره الاقتصادي، المحكوم من نظام رأسمالي بات مصدراً للفوضى وللأزمات المتكررة ومركزاً للاحتكارات مع كل ما يرافقها من غلاء ومن تشويه وإعاقة لنمو الاقتصاد اللبناني على حساب القطاعات الانتاجية الزراعية والصناعية وسواها. اما على المستوى الاجتماعي فقد تركزت الامتيازات والثروة الوطنية بين ايدي قلة ضئيلة بينما تعيش الاكثرية والطبقة والوسطى تدهورا وخراباً مستمرين.

أما على الصعيد السياسي فقد كان لبنان يعيش خلف واجهة ديمقراطية براقة، ضمن واقع سياسي يضم أشد انواع التمييز اللاديمقراطي تخلفاً، ومؤسسات موروثة ترفض الخضوع لمقتضيات التحديث. هذه الأزمة لطالما برزت على صيغة مطالب حملتها فئات شعبية مثلت حينها أكثرية اللبنانيين. ولذلك وجدت الأحزاب والقوى الوطنية والتقدمية أن من واجبها أن تبادر إلى تسليح الحركة الشعبية الناهضة ببرنامج يحدد مطالبها الرئيسية، ويشكل دليل عملها الذي تهتدي به من أجل لبنان عربي وطني ديمقراطي متقدم، لأن تخلف النظام السياسي وعجزه بمختلف مؤسساته عن أن يشكل إطاراً لعملية التطور الديمقراطي المطلوب يفرض قضية الاصلاح الديمقراطي في النظام السياسي مدخلاً لطرح البرنامج. ولذلك فقد طرحت تلك القوى نهج الصراع السياسي الديمقراطي القائم على الاحتكام إلى إرادة الأكثرية الشعبية ” كي لا تنفجر الأزمة اللبنانية بشكل يتحول معه الصراع الاجتماعي والسياسي المشروع، إلى اقتتال داخلي متكرر وكي تنفتح أمام لبنان آفاق التطور باتجاه تلبية الحاجات الوطنية والاقتصادية والاجتماعية لغالبية ابنائه”، كما جاء في مقدمة البرنامج المرحلي.

وفي ظل الاحتدام الصراعي، وفي مثل هذه الاجواء واستناداً إلى حقائق الوضع طرحت الأحزاب والقوى الوطنية والتقدمية برنامجها الذي يقوم على إلغاء الطائفية السياسية، حيث يشكل نظام الامتيازات الطائفية موقعاً لا بد من تجاوزه شرطاً لكل تقدم، ونظراً  لأن الحل الديمقراطي العلماني المتمثل بإلغاء الأساس الطائفي للنظام اللبناني هو الخيار المنسجم مع تطلع الجماهير إلى نظام ديمقراطي وطني متقدم. واعتبار إلغاء الطائفية من النصوص الدستورية والتشريعية والنظامية أحد أهم الأهداف في سبيل الوصول إلى العلمنة الكاملة. وعلى أن يشكل إلغاء الطائفية السياسية على صعيد التمثيل الشعبي وفي الإدارة والقضاء والجيش الحد الأدنى المطلوب.

لذلك جرى استهداف المشروع الوطني، ولقطع الطريق على هذا الحلم صدر حكم “الاعدام” باغتيال قائده الرمز الأول والمحرك السياسي الأساس والحافظ للتوازن الدقيق في البنية اللبنانية باعتباره من أعمدتها. وعليه، لم يكن كمال جنبلاط قائداً عادياً يمكن ان تجود الأيام بمثله دوماً. كان اعدامه بمثابة اعدام للمشروع الذي مازال المؤمنون الوطنيون بمسيرة قائده يتقاطرون إلى دار المختارة على الموعد سنوياً يستذكرون فرصة اتيحت لهذا الوطن بقيادة كمال جنبلاط ومشروعه الوطني “البرنامج المرحلي” لإخراج لبنان من قمقمه الطائفي نحو رحابة الحداثة. لكن المتضررين في الداخل مستعينين بالنظام السوري وآلته القمعية، لم يسمحوا للبرنامج أن يرى النور وأُبقى على الوطن سجين قيوده الطائفية والعائلية  والمذهبية. وبقيت المنطقة بكل نُظمها وأنظمتها على منحى استبدادها، بل ووسّعت من إطاره ليتحول إلى مدى اقليمي من الخراب والتمزيق الشامل يستهدف البشر والحجر، حاضراً ومستقبلاً.

كمال جنبلاط شهيداً نتيجة تقاطع قاتليْن هما الطبقة السياسية التي شهرت بنادقها لمواجهة مشروعه، ودموية نظام الاستبداد العربي، لكنه يبقى الأمثولة والرمز والمثال. دمه شعلة الخروج من ظلمة وظلم أنظمة القهر والتبعية والاستبداد.

[author title=”محمد حسن” image=”http://”]كاتب لبناني[/author]