سياسة

متاهة منظومة السلطة الطوائفية والمصير المجهول للبلد

زكـي طـه

سريعاً إنتهت الصور التي جمعت الرؤساء الثلاثة معاً وذهبت إلى الأرشيف. لتضاف إلى الصور القليلة المشابهة طوال سنوات العهد، الذي تميز عما سبقه بامتداد مواسم التعطيل والشلل وحجم الكوارث والمآسي التي أصابت البلد على المستويات والصُعد كافة بشهادة التقارير الدولية. ورغم دخوله العام الأخير من ولايته لا زال العهد يبحث عن حكومته العتيدة. والصور المشار لها نُشرت بعد العرض العسكري الرمزي في وزارة الدفاع بمناسبة عيد الاستقلال، الذي لم يتبقَ منه سوى الذكرى. وفي أعقاب الخلوة التي جمعت الثلاثة في القصر الجمهوري، للتداول في إمكانية إيجاد مخرج لملء فراغ الحكم، ودعوة مجلس الوزراء إلى الانعقاد دون أن ينتهي باستقالة الحكومة، التي اصابها الشلل قبل أن يجف حبر مراسيم تشكيلها. وهي الحكومة التي استغرق العمل على ولادتها القصيرية، ما يزيد عن عام، عبر مفاوضات دولية وإقليمية عسيرة، وصراع داخلي كانت مضاعفاته كارثية لناحية شلل مؤسسات الحكم والدولة وأجهزتها، وسط الفوضى الاهلية والأمنية. وفي موازاة تصاعد الانهيار الاقتصادي المالي على نحو كارثي، بالتزامن مع احتدام الانقسام الطائفي والمذهبي، وارتفاع مستويات الفقر والبطالة والهجرة إلى أرقام قياسية عالمياً.

أما لقاء الرؤساء الثلاث وما رشح عنه أو تلاه من مواقف، فقد أعاد تأكيد رفضهم كما سواهم من قادة منظومة السلطة واركانها، تحمّل مسؤولياتهم عن معالجة ما تسببت به سياساتهم وممارساتهم من أزمات. والسبب في ذلك انعدام حس المسؤولية حيال المصلحة الوطنية وحقوق المواطنين. فالأولوية والهم الوحيد لدى أي منهم  يتعلق فقط بمواقعه في الحكم والسلطة، وما يقع في امتداد ذلك من منافع، حيث كل شيء مباح دون خجل أو مواربة. لأن اهداف السياسات المعتمدة من قبلهم باتت مكشوفة امام الملأ. والتقيَّة في عدم الافصاح عن الغايات منها فقدت مبرراتها، باعتبارها حق مكتسب لا بد من العمل على فرضها بقوة الأمر الواقع. ما يعني أن التلاعب بأوضاع البلد ومصيره اصبح على عينك يا شاطر.

ولذلك لم ينتظر اللبنانيون نتائج اللقاء أو الاتصالات، لأنها معروفة سلفاً من قبل الغالبية الساحقة منهم. وهي التي تواجه تحديات تأمين مقومات العيش. خصوصاً في ظل مفاعيل الانهيار ورفع الدعم عن أسعار الأدوية والمحروقات والسلع والخدمات الأساسية، والتي بات الحصول عليها أمراً صعب المنال إن لم يكن مستحيلاً. وعدم الانتظار مرده خيبة الأمل من منظومة سلطة راهنوا عليها واختبروها طويلاً، وصبروا عليها وأعطوها من الفرص دون حساب. والسبب عينه كان وراء انتفاضتهم قبل عامين، ونزولهم الى الساحات والشوارع للمطالبة برحيلها ومحاسبتها.  وهي التي اعتمدت القمع والتخوين لهم والتشكيك بمقاصدهم، كما لم تترك سلاحاً إلا ولجأت إليه لتيئيسهم وشل ارادتهم وتضليلهم، في سبيل اخضاعهم لتأبيد تسلطها عليهم وتحكمها بحياتهم ومستقبل ابنائهم، والدفع بهم نحو المجاعة وسط المجهول من خلال إلهائهم بصراعاتها ونزاعاتها ورهاناتها على الخارج وارتهانها له غير عابئة باوضاعهم المأساوية.

وعليه بات الوضع اللبناني وكأنه عالمين يفصل بينهما جدار سميك أقامته منظومة الحكم، وهي تعمل على تحصينه باستمرار لحماية وجودها ومواقعها. وبينما أكثرية اللبنانيين متروكين لأمرهم في عالمهم، يتخبطون وسط الأزمات وفق ما هو متاح لديهم أو ما تبقى لهم من قدرة. يتابع أهل الحكم خوض معاركهم على مختلف الجبهات، بدءاً من جبهة الحكومة المعطلة بقرار من الثنائي الشيعي، الذي يستهدف طي ملف التحقيق العدلي بانفجار المرفأ، عبر المطالبة بقبع القاضي المعني. أما مضاعفات القرار  السلبية على أوضاع الحكومة والقضاء في آن، وعلى الصعيد الأمني والطيونة مثلاً، فالمسؤولية عنها تقع على عاتق الذين يرفضون الاستجابة لطلباتهما وتنفيذ قرارتهما.

أما أزمة العلاقة مع دول الخليج، وانعكاساتها  واحتمالات تطور مخاطرها على البلد واللبنانيين في السياسة والاقتصاد والاجتماع، فما على رئيس الحكومة إلا أن يتدبر أمره مع الجهة المعنية المطالَبة بالتراجع عن اجراءاتها والاعتذار للمسؤولين اللبنانيين كما يريد حزب الله. وهم الذين يعملون وفق حرية الرأي كما أعلن الرئيس، الذي لم يجد حرجاً في الذهاب إلى إمارة قطر علً أميرها يمنُّ علينا ببعض المساعدات، أو أن  يتوسط لنا مع زملائه قادة دول الخليج الذين أداروا ظهرهم بالكامل لأهل الحكم، جراء تخليهم عن مسؤولياتهم حيال مصالح لبنان الوطنية، وارتهنوا لإرادة حزب الله المتدخل في شؤون بلدانهم. في الوقت عينه يتابع رئيس الحكومة جولاته الفولوكلورية بين باريس واسكتلندة حيث انعقدت قمة المناخ مروراُ بالفاتيكان وانقرة والقاهرة، على أمل الحصول على فرصة لتقديم أوراق اعتماده في أي دولة خليجية علَّه يصنف زعيماً سنياً لوراثة زعامة الحريري المتهالكة.

في الوقت عينه ما زال ملف الانتخابات النيابية يتنقل في متاهة التجاذبات بين العهد وتياره من جهة، وأكثرية كتل المجلس النيابي ورئيسه من جهة اخرى. سواء تعلق الأمر بموعد إجرائها في ظل رفض رئيس الجمهورية التوقيع على مرسوم دعوة الهيئات الناخبة بعيداً عن شهر أيار القادم، ما يجعل موعد 27 آذار في حكم الملغى. أما تعديل القانون لناحية صيغة مشاركة المغتربين، فإن الأمر بات بعهدة المجلس الدستوري استناداً إلى طعن نواب التيار الحر، وسط تهديدات بتعطيل نصاب انعقاد جلساته. أما مصير الانتخابات ورغم تكرار تأكيدات حصولها على ألسنة المسؤولين، فإن احتمالات تأجيلها ومحاولة التمديد للمجلس الحالي، لا تزال المضمر الأرجح. خاصة بعد  الخوف من كثافة مشاركة المغتربين الذين يتمتعون بحرية التصويت بعيدا عن تحكم وهيمنة قوى السلطة، وتأثير ذلك على نتائج الانتخابات في العديد من الدوائر لغير مصلحة لوائحها.

يبقى بيت القصيد بالنسبة للعهد، استحقاق انتخاب الرئيس القادم، وطموح توريث الموقع لصهره، باعتباره الأكثر تمثيلاً في طائفته وفق توازنات المجلس النيابي الحالي. ولذلك تتعدد المواقف الرئاسية بشأن هذا الاستحقاق، بدءاً من تحديد مواصفات الرئيس التي تنطبق على رئيس التيار حصراً. إلى الإعلان أنه لن يسلم الموقع إلى الفراغ، والمضمر في ذلك رغم النفي اللاحق هو الحكومة الحالية، كما كان الأمر مع حكومة تمام سلام عند نهاية ولاية الرئيس ميشال سليمان. انتهاءً بالإفصاح عن استعداده للبقاء في موقعه إذا قرر المجلس النيابي ذلك. ما يعني أن الخيارات لتمرير الاستحقاق محددة ومحدودة. أنا أو الصهر، وخلافهما الجحيم ضمن المجهول.

وعليه تتفرع متاهة صراعات أهل السلطة، بين خيارات العهد في التمديد أو التوريث، وسط تخبط رئيس الحكومة بحثاً عن مخرج لحكومته، ومأزق تيار المستقبل وأزمة رئيسه، وأوهام القوات في قلب موازين القوى والثأر لاتفاق معراب. وامام  أحلام الرئاسة الموزعة بين “الحكيم” وطموحات رئيسي التيار الحر وتيار المردة، في ظل قلق الزعامة الجنبلاطية، وإقامة رئيس المجلس النيابي وحركة أمل عند الامساك بعصي الملفات والعلاقات المفخخة بين سائر الاطراف من الوسط خشية دفع أثمان لا قبل له بها. في المقابل ينفرد حزب الله بعدم التردد في الافصاح عن سياساته وتوجهاته ومواقفه الهجومية والدفاعية في آن، حول جميع الملفات بما فيه موقفه المسبق من نتائج الانتخابات النيابية إن حصلت، وشكل الحكم والحكومة، وما هو مقبول ومرفوض في كل المجالات. مستنداً في ذلك كله، إلى فائض قوته في الداخل اللبناني وقدرته التعطيلية دون منازع، وسط تصاعد نيران الأزمات الاقليمية على رافعة مشاركته فيها. وهي الأزمات التي تشكل بالنسبة للنظام الايراني أوراقاً ثمينة في المفاوضات الدولية وقد استؤنفت حول الملف النووي، كما حول دوره الاقليمي وتدخلاته في أوضاع دول المنطقة وأزماتها الكيانية المتفجرة.

وفي الهامش فإن التشكيلات التي تتنافس على النطق باسم الانتفاضة على اختلاف منابتها وانتماءاتها ورهانتها، لا تزال تغرد في عالمها الخاص بمعزل عما يدور في ساحات منظومة الحكم والسلطة من منازعات بشأن مختلف القضايا والملفات. وبعيداً عن معاناة أكثرية اللبنانيين وأولوياتهم في تأمين الحد الادنى من حاجاتهم الأساسية. وبين أدعاءات النطق باسم الاكثرية وأوهام ثقتها، تتنافس تلك المجموعات على تسمية المرشحين وتشكيل اللوائح، والمبادرة في الإعلان عنها للفوز بقصب السبق عند التفاوض بينها إذا كان له مكان.

وما يدعو إلى القلق المضاعف وسط الانهيار أن القوى التي يفترض أنها معنية جدياً بالانتخابات من موقع المعارضة المستقلة عن قوى السلطة، تعيش الآن تحت وطأة ما جنته من عدم التحضير للانتخابات طوال السنوات التي تلت استحقاق 2018، كما كان يؤمَل في حينه. وحصاد مفاعيل أوهام التبسيط والاستسهال وما انتج من خيبات. وهي الاوهام التي سادت مع بدايات الانتفاضة حول انهيار النظام وسقوط منظومة السلطة والانشغال ببرامج التغيير وتحضير البدائل لاستلام السلطة بعيداً عن الناس وأولوياتها.

 

 

Leave a Comment