مجتمع

التحرش الجنسي في مجتمع لا يعترف بالحرية الجنسية

كتب غسان صليبي     

  النهار 28-11-2020

من 25 تشرين الثاني الى 10 كانون الاول من كل سنة، تُنظَم انشطة حول العالم، تحت شعار مناهضة العنف ضد للنساء. وقد شهدت سنة 2020 مزيدا من العنف ضد النساء نتيجة الحجر المنزلي الذي تسببت به جائحة #كورونا. هذه السنة هي مناسبة أيضا للنقابات والعمال لمطالبة الحكومات بالتصديق على الاتفاقية رقم 190 “بشأن القضاء على العنف والتحرش في عالم العمل”، التي صدرت عن منظمة العمل الدولية سنة 2019.

ما يهمني في هذا النص هو التطرق الى احد اشكال العنف ضد النساء، الا وهو #التحرش الجنسي، من خلال مقاربته في إطار المجتمعات التي لا تعترف بالحرية الجنسية، ومن بينها المجتمعات العربية.

بحكم عملي النقابي، نظمتُ العديد من الحصص التدريبية حول التحرش الجنسي في العمل. وكان يلفت انتباهي دائما عدم الاكتراث كثيرا للظاهرة وكأنها في الواقع غير منتشرة كفاية، بحسب النقابيات والنقابيين. وفي ظل قلة المعلومات حول الموضوع، كنت اعتبر ان المشاركات والمشاركين يتفادون الكلام عن القضية لحساسية المواضيع التي تتعلق بالجنس في الثقافة العربية.

مع الوقت بدأت أقارب الموضوع بطريقة مختلفة، طارحا على بساط البحث مفهوم “التحرش الجنسي” بحد ذاته، بالنسبة إلى المواطنين العرب بشكل عام.

فلنبدأ بمراجعة بعض التعريفات التي تُعطى للمفهوم عالميا.

في تعريف واسع، يُعتبر التحرش الجنسي انه “اي صيغة من الكلمات غير المرحب بها او الافعال ذات الطابع الجنسي والتي تنتهك جسد او خصوصية او مشاعر شخص ما وتجعله يشعر بعدم الارتياح، او التهديد، او عدم الامان، او الخوف، او عدم الاحترام، او الترويع، او الاهانة، او الاساءة، او الترهيب، او ان الشخص مجرد جسد.”

وفي تعريف آخر مختصر واكثر دقة، يُعتبر التحرش الجنسي، “تصرفا غير مرغوب وذا طابع جنسي، كلامي او جسدي، وخاصة من قبل شخص في موقع يعطيه سلطة على الشخص المُتحرَّش به( موقع صاحب العمل او المعلم مثلا).

يُعرّف التحرش الجنسي في العمل بانه” تلميح جنسي غير مرحب به او طلب خدمة جنسية او اي سلوك او قول، واضح او ضمني، له طبيعة جنسية ويؤثر على عمل الشخص ويتداخل بشكل غير مقبول في إدائه للعمل او يخلق جو عمل عدائيا ومخيفا.”

المشترك في هذه التعريفات الثلاثة، هو ان التحرش الجنسي تصرف ذو طابع جنسي غير مرغوب به او غير مرحب به من قبل الشخص الذي يطاله التحرش. والتعريفات لا تعتبر #المرأة المعنية الوحيدة بالتحرش الجنسي، بل اي شخص، ذكرا كان او انثى. مع العلم انه في الممارسة، يطال التحرش الجنسي النساء أكثر مما يطال الرجال.

المشكو منه، على ما يظهر في التعريفات، ليس التصرف الجنسي فحسب، بقدر ما هو هذا التصرف الذي يمارس بعكس إرادة الطرف الآخر. وهذا العنصر مهم جدا في البيئة التي انطلق منها مفهوم التحرش الجنسي، اي الغرب بشكل عام والولايات المتحدة بشكل خاص، في السبعينيات من القرن الماضي.

فهذه البيئة تعترف بالحرية الجنسية وتحترمها، طالما هي تعبير عن إرادة الشخصين. وما تدينه في الواقع هو الإكراه في الجنس وليس الجنس بحد ذاته. انه تمسك بجوهر الحرية الذي يقوم على إرادة الشخص.

وهذا ما يجعل مفهوم “التحرش الجنسي” ذا معنى خاص في البيئة العربية، حيث لا حرية جنسية الا في إطار الزواج وبشكل غير متساوٍ بين الجنسين. كما ان النظرة الى الجنس التي تسود، هي نظرة سلبية، تحقيرية، بشكل عام. في هذا السياق، يكتسب التحرش الجنسي مدلولا إضافيا عند البعض، الا وهو الاحتجاج اللاواعي على العنف الذي يمنع الحرية الجنسية او يحد منها. ويصبح التحرش الجنسي عندها، وسيلة ملتوية ومشوّهة للتعبير عن الرغبة في ممارسة الحرية الجنسية المُحرَّمَة. من هنا ربما “التسامح” معه إحيانا من المرأة او الرجل اللذين يمارس ضد إرادتهما. ومن هنا ربما أيضا، هذه “اللامبالاة” التي نلاحظها أحيانا أيضا عند معالجة الموضوع والعمل على التصدي له كممارسة عنفية يجب وقفها.

الموقف السلبي من الجنس بحد ذاته في مجتمعاتنا، ينعكس حتى على تعريفنا الخاص للتحرش الجنسي. فيُعرّف احد مراكز حقوق المرأة في بلد عربي التحرش الجنسي بأنه “كل سلوك غير لائق، له طبيعة جنسية، يضايق المرأة ويعطيها إحساسا بعدم الامان”. فلنلاحظ التعابير الاخلاقية من مثل “سلوك غير لائق”، ولنلاحظ ايضا خلو التعريف من اعتبار السلوك غير المرغوب به من الشخص الذي يطاله التحرش، وكأن هذه المسألة محسومة طالما ان السلوك “له طبيعة جنسية”.

في المقابل نرى بعض المعالجين النفسيين، يتبنون كليا المفهوم الغربي، متجاهلين الوضع الخاص في المجتمعات التي تفتقر الى الحرية الجنسية. فأقرأ مثلا لمعالجة نفسية عربية، أن اسباب التحرش الجنسي هي رغبة الشخص المتحرش بفرض سلطته على المرأة، ولا علاقة لها بالجنس، الذي هو مجرد حجة.

في مقاربتنا للتحرش الجنسي في مجتمعاتنا، يجب الا نغفل ايضا، مسألة علاقات العمل واللامساواة بين الجنسين. فقضية التحرش الجنسي طُرحت في الغرب، في موازاة تطور اتجاهين. الاتجاه الاول هو التحرر التدريجي للعمال من سطوة أصحاب العمل والحد من تسلطهم المطلق، من خلال ضغط النقابات والتشريعات المناسبة. اما الإتجاه الثاني فهو التقدم المحرز في مجال المساواة بين المرأة والرجل.

ذلك ان التحرش الجنسي في مجال العمل خاصة، يحمل في طياته نزعة جنسية – طبقية – ذكورية في آن واحد، خاصة عندما يكون صاحب العمل رجلا ويكون العامل امرأة.

هذا ما يجعل التحرش الجنسي في مجتمعاتنا، وبالمقارنة مع المجتمعات الغربية، ذا ابعاد جنسية وطبقية وذكورية حادة، في ظل غياب الحرية الجنسية وشيوع التسلط الطبقي وهيمنة النظام الذكوري. كما ان التصدي للتحرش الجنسي، لا يمكن ان يعطي نتائجه عندنا، الا إذا ترافق مع المطالبة بالحرية الجنسية من جهة، وبالحقوق العمالية والنسائية من جهة ثانية.

لا ادعو هنا الى تقليل أخطار التحرش الجنسي وخاصة على النساء، ولا الى التساهل معه، لكن ما أخشاه هو ان يؤدي التركيز على هذه المسألة، بدون طرح قضية الحرية الجنسية، الى ابتكار حجج إضافية لرجم هذه الاخيرة. فالعنف الممارس من خلال الكبت والقمع الجنسيين، له انعكاسات نفسية واجتماعية وسياسية، اخطر بكثير من عنف التحرش الجنسي.

لا بد من التعامل النقدي مع المفاهيم التي نستوردها من الغرب، ليس لرفضها كما يفعل الاصوليون والرجعيون، بل لإعطائها معنىً يكون مفهوما ومحسوسا بالنسبة للمعنيين. وهذا شرط اولي واساسي ليكون لها مفاعيل تغييرية في مجتمعاتنا.

Leave a Comment