سياسة صحف وآراء

إسرائيل تسعى لضمان مصالحها لليوم التالي في سورية

*حيفا – امطانس شحادة

لم تتوقع إسرائيل سقوط نظام بشار الأسد في هذه المرحلة وفي هذه السرعة. بل إن سقوط النظام شكّل، مرة أخرى، مفاجأة جديدة لأجهزة المخابرات الإسرائيلية، على الأقل وفقاً للتصريحات الرسمية والتحليلات الإعلامية، التي بررت ذلك بانشغال أجهزة المخابرات الإسرائيلية بساحات أخرى أكثر إلحاحاً وأهمية، وبأن كافة أجهزة المخابرات الجدية في العالم فشلت أيضاً في توقع سقوط نظام الأسد في سورية. على سبيل المثال كتب المحلل السياسي إيال نداف في موقع صحيفة يديعوت أحرونوت، في الثامن من ديسمبر/كانون الأول الحالي، أن “التطورات الأخيرة في سورية، حيث أعلنت المعارضة إسقاط نظام الأسد بعد 54 عاماً من الحكم، شكلت مفاجأة كبيرة في الساحة الدولية. تركيا التي تدعم الجهة الرئيسية في المعارضة السورية لم تتوقع هذا التقدم السريع وسقوط النظام. كذلك في إيران وروسيا لم تكن هناك توقعات بهذه التطورات السريعة. والأهم من كل ذلك، أن المخابرات الإسرائيلية، بما في ذلك جهاز أمان (المخابرات العسكرية) والموساد، لم يتنبأوا بهذه الأحداث. كان من المتوقع أن تكون التقديرات الإسرائيلية أكثر دقة وعمقاً نظراً لمكانتها وقدراتها”

فشل المخابرات الإسرائيلية

كذلك أوضح رونين برغمان المحلل العسكري في موقع “يديعوت أحرونوت” وصحيفة نيويورك تايمز الأميركية في التاسع من ديسمبر الحالي، حقيقة أن “عدم توقع أجهزة المخابرات الإسرائيلية مسبقاً هجوم المعارضة ونجاحها الباهر، يُعد فشلاً جسيماً”. وأضاف برغمان أن ما حدث في سورية “الذي يُعتبر، على الأقل حتى الآن، التغيير الأكثر أهمية بين جميع الزلازل السياسية التي شهدتها المنطقة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، هو نتيجة مباشرة لانتصار ساحق لأجهزة الاستخبارات الإسرائيلية، مع ذراعها التنفيذية القاتلة، سلاح الجو الإسرائيلي، على العناصر الرئيسية في محور المقاومة، وهي إيران وحزب الله”.

وختم برغمان مقاله معتبراً أن فشل المخابرات الإسرائيلية بتوقع الأحداث في سورية يجب أن يكون درساً في تقييم الأوضاع في سورية في المستقبل. من المبكر الآن التكهن كيفية تطور الأوضاع في الفترة الانتقالية في سورية، وكيفية طبيعة النظام ودوره في المنطقة. ومن المتوقع أن تكون القضايا الداخلية وإعادة الإعمار وترميم البنى التحتية والعلاقات الداخلية، وتوحيد المجتمع المفكك والجريح نتيجة 14 عاماً من الاقتتال الداخلي، الشغل الشاغل للنظام الجديد. على الرغم من ذلك فإن المؤسسة الأمنية والسياسية في إسرائيل، تبدي مخاوف مما يمكن أن تؤول إليه الأوضاع في سورية.

على الرغم من أن سقوط نظام الأسد سيؤدي، وفقاً للتحليلات الإسرائيلية، إلى إضعاف المحور الإيراني في المنطقة، خصوصاً أن البنى التحتية الإيرانية في سورية تعرضت لأضرار كبيرة وسقطت في يد المعارضة، بحسب الباحثة كرميت فالنسي من مركز أبحاث الأمن القومي في جامعة تل أبيب، في التاسع من ديسمبر الماضي، هناك مخاوف من سيطرة جهات إسلامية جهادية على مواقع عسكرية استراتيجية في سورية، مما يمكن أن يشكل تهديداً محتملاً لأمن إسرائيل في المستقبل. الوضع في سورية يتطور بسرعة وفقاً لفالنسي، وإسرائيل مطالبة بمتابعة التغيرات عن كثب، وأن تقيم تأثيرها على الأمن القومي، واتخاذ الإجراءات اللازمة لحماية مصالحها في المنطقة. إسرائيل المتفاجئة من التطورات في سورية وسرعتها، تعاملت فعلاً وكأن التغيير الحاصل في سورية يمكن أن يشكل تهديداً أمنياً مستقبلياً، وبادرت إلى التحرك العسكري وضرب القدرات العسكرية المتآكلة للجيش السوري، وإلى ما تسميه قدرات استراتيجية، منها قواعد صواريخ بعيدة المدى، والمطارات والطائرات، ومنشآت عسكرية استراتيجية، ومراكز أبحاث عسكرية. إسرائيل تقول إنها نجحت بالقضاء على قرابة 80% من قدرات الجيش السوري.

صحيح أن الجيش السوري لم يشكل مصدر تهديد لإسرائيل في العقود الأخيرة، إلا أن إسرائيل تستغل الفترة الانتقالية والانشغال السوري بالحالة الداخلية لخلق أمر واقع جديد ولتحقيق عدة أهداف، عبر الضربات العسكرية والتوغل البري واحتلال مناطق إضافية في الجانب السوري من الجولان وجبل الشيخ. تهدف إسرائيل بذلك، أولاً إلى إغلاق حسابات مع الجيش السوري والدولة السورية، بسبب دورها السابق بالسماح بتطوير قدرات حزب الله العسكرية ونقل الأسلحة عبر سورية إلى حزب الله.

إسرائيل تتصرف مثل “بلطجي الحي” الذي لا يريد أن يتطور أي تهديد مستقبلي على حدوده الشمالية في السنوات المقبلة، وتُقدم على ضربات استباقية لتدمير قدرات الجيش السوري، كي لا يتحول إلى جهة يمكن أن تهدد مستقبلاً، ولو نظرياً، الحدود السورية الإسرائيلية، أو أن تنتج الحالة المستقبلية في سورية طرفاً يمكن أن يطالب باستعادة الجولان المحتل. إسرائيل توضح أن تصرفها بعد السابع من أكتوبر 2023، لن يكون كما كان قبل ذلك التاريخ. هجوم “حماس” على معسكرات الجيش والبلدات الإسرائيلية أوضح فشل العقيدة الأمنية الإسرائيلية، خصوصاً فشل قدرة الردع على منع هجوم مؤلم على إسرائيل، وفشل كافة قدرات الإنذار المبكر من توفير تحذير للجيش والحكومة الإسرائيلية.

كما نجحت “حماس” بنقل المعركة إلى الجبهة الداخلية في إسرائيل، على عكس العقيدة الأمنية الأساسية. لذلك تقول إسرائيل إنها لا تستطيع الاستناد إلى العقيدة الأمنية السابقة، وإنها ستقدم على توجيه ضربات استباقية لمنع أي إمكانية، مهما تكن ضئيلة أو نظرية، لتطور تهديد عسكري مستقبلي، ذلك أن إسرائيل لا تتحمل أي فشل عسكري إضافي في المستقبل. إسرائيل استغلت الحالة الراهنة الناشئة بعد تدمير قسم كبير من قدرات حزب الله العسكرية والتنظيمية والسياسية، وتدمير قدرات حركة حماس، للاستمرار بضرب ما يسمى محور الممانعة، أي الاستمرار في إضعاف المحور الإيراني، على الرغم من أن المعارضة السورية غير مصنفة في هذا المحور.

إسرائيل تحاول سرقة أكبر مساحة ممكنة من الأراضي السورية في المنطقة الحدودية وقمم جبل الشيخ. وربما تتحول هذه السيطرة على الأراضي إلى حالة ثابتة في ظل عدم الاستقرار السياسي في سورية. ويمكن أن تقوم إسرائيل في المستقبل بمقايضة انسحابها من الأراضي المحتلة حديثا، بقبول سورية بشكل رسمي استمرار احتلال إسرائيل للجولان السوري. كما تعمل إسرائيل على إعادة ترتيب أو تنظيم الحالة الاستراتيجية لمنطقة الشرق الأوسط، ولم يعد اليوم التالي يقتصر على ترتيب الحالة في غزة وفقاً للمطامع والأهداف الإسرائيلية، أو على ترتيب اليوم التالي في لبنان، بل يطاول ترتيب اليوم التالي في المنطقة برمتها. من هنا تبادر إسرائيل لضربات استباقية لمنع نمو أي مخاطر مستقبلية. على ما يبدو سيتحول هذا إلى جزء ثابت من العقيدة العسكرية المستقبلية، ما دامت تنفذ ذلك من دون أثمان عسكرية أو دبلوماسية أو اقتصادية. إسرائيل تريد حسم أي معركة مستقبلية قبل بدايتها أصلاً.

إسرائيل والانسحاب من سورية

من غير المستبعد أن تقوم إسرائيل أيضاً، بمقايضة الانسحاب من الأراضي السورية المحتلة حديثاً، أو وقف الضربات العسكرية في العمق السوري، بقيام السلطة الجديدة في سورية بوظيفة حرس الحدود لدى إسرائيل، عبر العمل المباشر لمنع نقل أسلحة وعتاد عسكري عبر سورية إلى حزب الله، وأن تقوم السلطة السورية الجديدة بدور فعال لحماية مصالح إسرائيل، وإلا ستستمر إسرائيل باحتلال الأراضي السورية الجديدة والتدخل العسكري والأمني، وأيضاً عبر دعم عدم الاستقرار السياسي في سورية، كما قامت على مدار تاريخها بالتدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية، وزرع الفتن والتوترات الداخلية وعدم الاستقرار، بواسطة الأجهزة الأمنية والمخابرات. استقرار الدول العربية وتحولها نحو الديمقراطية والتعددية والاستقرار غير مرغوب به إسرائيلياً، خصوصاً في دول الطوق. هكذا كان تاريخياً، وبعد أحداث السابع من أكتوبر، من المتوقع أن تزداد وتيرة هذه التدخلات.

إسرائيل لم تحزن لسقوط نظام الأسد، وترى أن ذلك يشكل ضربة قوية وربما قاصمة لمحور إيران في الشرق الأوسط. وهي إسرائيل ذاتها التي ناقشت في الأسابيع الأخيرة إمكانية التعاون مع نظام الأسد ودعمه بغية إخراجه من هيمنة إيران ومحاصرة حزب الله، بشرط أن يقوم بمنع نقل الأسلحة عبر سورية إلى حزب الله. على الرغم من ذلك، حذّرت العديد من التحليلات الإسرائيلية من حالة عدم الاستقرار في سورية، ومن عدم اليقين حول كيفية تطور الأوضاع في سورية. في ظل هذه الحالة اختارت إسرائيل، مرة أخرى، استعمال العمل العسكري والقوة في محاولة لترتيب الحالة الاستراتيجية وفقاً لرغباتها ومصالحها، الحالية والمستقبلية. بذلك تقول إنه لا يمكن استبعاد إسرائيل من الترتيبات السياسية والأمنية المستقبلية في سورية، وأنها ستكون لاعبا مؤثرا وفاعلا في المشهد السوري المتشكل. فشلها في تحقيق ذلك يتعلق بالأساس بإرادة الشعب السوري وقيادته المستقبلية، وهو ليس بأمر مستحيل.

*نشرت في العربي الجديد يوم 12 ديسمبر 2024

Leave a Comment