زهير هواري
بيروت 16 تشرين الاول 2023 ـ بيروت الحرية
لا تستطيع عبارات من نوع الديمقراطية وحقوق الانسان واتفاقيات جنيف وما شابه من مصطلحات وردت في الوثائق الدولية والأممية أن تستر عري الفاشية التي تظهر على حقيقتها بين فينة وأخرى إزاء شعوب العالم الثالث، ولكنها لمناسبة ما شهدته غزة وقطاعها وما سبقها من هجوم ومقتلة ظهرت دون حد أدنى يغطي عورتها. لم تعد ورقة توت أو تين أو ما شابه من أوراق قديمة قادرة على إخفاء ما جرى التستر عليه سنوات وعقود طويلة. لقد نفذت تلك البضاعة التي لطالما روَّجت لها الدول الغربية في بازار البيع والشراء، واستعملتها على نحو فج، عندما وجدت فيها ضالتها التي تلجأ إليها كلما أعوزتها الحيلة. تشدقت أنها هي صاحبتها الأصلية وأن الحق الحصري لها وحدها تستعمله متى تشاء، وتتخلى عنه عندما تريد.
لنبدأ من البداية. عملية طوفان الأقصى هي عملية حربية تستهدف أساساً المؤسسة العسكرية والأمنية والمستوطنات الإسرائيلية، على أرض لا أحد من أبناء غزة سواء كان من المكان قبل قيام دولة إسرائيل أو ممن لجأ إليه بعدها، يتذكر أنه كان ملكاً لهؤلاء الذين يحملون جنسيات متعددة، اثنان في العادة وربما ثلاثة، واحدة أميركية أو فرنسية أو. .. وثانية اسرائيلية. ما سمي بالفشل الاستخباراتي المدوي سببه كان تلك الثقة المفرطة بالنفس، وبالقدرة الجوفاء على استمرار ممارسة قهر المنطقة والانسان العربي بالمزيد من الحروب. حيث يكتب فيها النصر دوماً “للجندي الإسرائيلي الذي لا يقهر”. بينما الجندي العربي هو المهزوم دوماً وفي وقت قصير قياسياً، ساعات أو أيام. ليس المهم أن يكون هذا الجندي عنصراً في جيوش مصر وسوريا والأردن أو فدائيا في فتح أو حماس. النتيجة واحدة، فالمتفوق متفوق دوماً ومهمته صناعة النصر دون كبير عناء. هذه المرة انقلب المشهد رأساً على عقب، فقد جرى تمريغ جبين الجندي الاسرائيلي هذا بالرمل، واُنتزع من دبابته وتحصيناته وأُسر وأُقتيد إلى حيث شاء المهاجمون. كنا دوماً نردد أن إسرائيل عبارة عن مخفر أمامي غربي مهمته إبقاء البلاد العربية وشعوبها تحت جزمة الغرب الاقتصادية والعلمية والصناعية والعسكرية، ممثلاُ بهذا الموقع الذي أنشأ ورعى وحمى منذ العام 1917 وما قبله وإلى اليوم. وعليه لم يبخل عليه بما يمتلكه من موارد بشرية وتكنولوجيا وخبرات ومقدرات مالية وإعلامية وغيرها.
عندما انقلب السحر على الساحر، عادت إسرائيل لتلعب دور الضحية، لكنها لم تجد في أدبياتها عن المحرقة أي إشارة عربية. استعملت ذاكرة الهولوكوست في تصريحات مسؤوليها واعلامها لوقت قصير، ثم ما لبثت أن تخلت عنه باعتباره نتاج الغرب الرأسمالي الاستعماري، وليس الشرق العربي أو الإسلامي. بعده رُبطت حماس مباشرة بداعش. دون أن يكلف أحد نفسه، رغم القضاء على الأخيرة منذ سنوات، أن يدقق في العوامل التي أنتجت داعش وغذتها وأطلقتها كوحش ضار، ومدى التدمير الذي أحدثته في الذات العربية قبل سواها. قالها الرئيس الأميركي وتبعه من تبعه باستعمال العبارة نفسها من قادة الغرب وإسرائيل. وبدا من السياق أن هناك من يمهد لقيام تحالف غربي يتولى استعمال كل ما لديه من سكاكين للانتقام من ضحايا المؤسسة العسكرية والاستيطانية الإسرائيلية الذين تجرأوا عليها. المسؤولون الاميركيون بمن فيهم الرئيس بايدن ووزير الخارجية أثبتوا صلة دم بالمحرقة. الإسرائيليون من وزراء وغيرهم أخرجوا من ذاكرتهم كل ما هو مخبوء من وقائع طالما ظلت حاضرة. فعلوا ذلك لتبرير حنينهم لممارسة الانتقام، وتكرار فعل أيديهم للجريمة التي تعرضوا لها في بولندا وألمانيا وغيرهما من دول الغرب خلال الحقبة النازية وما قبلها وما بعدها، في معسكرات الاعتقال والمحارق التي لم تقتصر عليهم بل شملت الكثير من الشعوب التي لا أحد يشير إليها بأصبع.
كل ما قيل لم يكن عفو الخاطر أو بفعل نوبة غضب عارضة، بل كان بمثابة تمهيد لما يجري تدبيره لغزة ومخيمات القطاع. أن يجري قطع الماء والكهرباء والانترنت والدواء والغذاء عن أكثر من مليوني نسمة وتحذيرهم من البقاء في بيوتهم ومتاجرهم وزراعاتهم وعلى زوارق الصيد المتهالكة التي يمتلكونها وعلى أسرة مستشفياتهم بفعل الجراح الثخينة، فهذا لا يعطي هؤلاء البشر أي حق بالحياة، ولا يمنحهم الإفادة من المواثيق التي كرستها اتفاقيات جنيف وقوانين الحروب. وصف بنيامين نتنياهو القائمين بالهجوم على ثكنات جيشه بأنهم مجرد “وحوش أو حيوانات بشرية”. كثيرون لم يخرجوا عن المعادلة التي أرساها بايدن أو نتنياهو. داعش أم حيوانات ووحوش بشرية. لا فرق. كلاهما يؤدي المعنى نفسه والغرض ذاته. ما أن أطلق بايدن صرخة الحرب حتى تبعته كل من بريطانيا وفرنسا وإيطاليا وألمانيا. وجميعها وقَّعت على إدانة ما مارسته حماس من هجوم في محاولة لإخفاء ما يعد في غرف العمليات التي أحضرها معه وزير الدفاع الأميركي سريعاً، وما تتضمنه من خطط تدمير للقطاع على رؤوس أهله وقاطنيه، بعد أن سبقه وصول حاملات الطائرات والبوارج الحربية وشحنات الأسلحة التي لا تنقطع. أما ما مارسته إسرائيل من تصرفات عندما كانت مجرد مشروع تقوده عصابات مسلحة، وحتى اليوم فلا يستحق الإدانة أو الشجب، أو إرغامها على الاعتراف بالقرارات والقوانين الدولية. فقد كان حق الفيتو جاهز دوماً لحمايتها من أي قرار لا يتماشى مع أهدافها، أو يلجم جموحها إلى تدمير الشخصية الفلسطينية، تارة بعدم الاعتراف بوجودها أصلاً وطوراً بالقضاء عليها. الغريب الجديد الذي يلاحظه المرء أنه دوما كان هناك من يحاول من قادة الدول الأوروبية عدم التماهى مع الموقف الأميركي. وهو موضوع أشد انطباقاً على الموقف الفرنسي الذي انتظم مع الآخرين ونسي مباديء الثورة الفرنسية ودعوتها إلى الحرية والمساواة والإخاء بين كائنات الجنس البشري. لكن الجنس البشري كما ظهر، ليس على سوية واحدة. فهناك جنس بشري أفضل سوية من آخر، أو أكثر سوية من أقرانه على حد ما قاله جورج أورويل. لذلك لا يحق للفلسطيني أن يقاتل وأن يعد خطة محكمة وأن ينفذها بكفاءة عالية، وأن يعيد طرح ظلامته بالدم على الرأي العام. ظلامة عمرها قرابة قرن منها 75 عاماً تحت الاحتلال، وعقود متلاحقة من العيش في سجن غزة المفتوح كأكبر سجن في العالم كونه يضم 2 مليون نسمة وأكثر، أو المكان الذي لا إمكانية لعيش الجنس البشري فيه لفقدانه سائر مقومات الحياة الآدمية.
أما على صعيد ما يُدبَّر لغزة، فتتماهى التصريحات الغربية تماماً مع تصريحات قادة الحكومة الأكثر تطرفاً في تاريخ الكيان الصهيوني، بما فيها تصريحات وردت على لسان عدد من مسؤولي بريطانيا وفرنسا التي لطالما عُرفت تاريخياً باختلافها مع واشنطن ولندن. مسؤولون في فرنسا وعدوا بتجريم كل من يحمل العلم الفلسطيني أو يتظاهر دعما لحقوقه. ورفض المسؤولون الترخيص لتظاهرات مؤيدة لفلسطين ومنددة بالعقاب الجماعي على غزة وأهل القطاع. وعطفوا على قوانين “معاداة السامية ” التي باتت مرادفة لتغطية السياسة الاسرائيلية مهما بلغت فداحة واجرامية ممارستها أيام السلم والحرب على حد سواء. وتشبيه حماس بداعش لم يمنع تشبيهها بالنازية على خلفية القول أن “طوفان الأقصى” هو الأخطر بعد الهولوكست. وإسرائيل أقامت متحفاً لمحرقة الهولوكوست. وكل من يزورها من مسؤولين دوليين لا بد وأن يضع أكليلاً في المكان. والهولوكوست أو المحرقة ليست صناعة شرقية، بل هي ابنة العنصرية الغربية التي يجري اليوم استحضار ذاكرتها، وإنما “ضد ضحايا غير يهود” مع نازيين جدد في العديد من البلدان، التي ينتعش فيها اليمين ويكتسح صناديق الانتخابات في اوروبا. ما يتوجب ذكره أن توعد نتنياهو الفلسطينيين بالإبادة كما فعل هتلر عندما استعمل تعبير الحيوانات البشرية نفسه ضد خصومه من اليهود وغيرهم، وكل من يقف في مواجهة المشروع النازي باعتبارهم مجرد حيوانات لا جريمة في القضاء عليها. و”حيونة” الآخر هو المقدمة اللازمة لإبادته ومحوه من الوجود، كما كان يمهد بايدن ونتنياهو وغيره من قادة المشروع الصهيوني وأعضاء حكومة الطوارئ أو الحرب.
ربما لا تكمن المشكلة فيما ذكره بايدن ونتنياهو، بل في ما انساقت إليه الصحافة والرأي العام الغربي تحت وطأة هذه الهيمنة الطاغية. والتي تراوحت بين ما ذكرناه عن إلصاق الداعشية بحماس، أو ربطها بإيران دون رؤية السياق الذي أنشأها وأوصلها إلى الارتباط بطهران ، والمسارات التي سلكتها أحداث المنطقة لجهة رفض الاعتراف بوجود صراع عربي وفلسطيني مع إسرائيل، وضرورة إيجاد الحل العادل والدائم وقيام الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس و… لا يستطيع بايدن أن يبرر نفسه بينما يتولى قيادة المعركة لإعادة إيقاف إسرائيل على رجليها بعد أن عجزت “ركبها” عن حمل جسمها المنهك. كل رئيس أميركي بمن فيه من يعلن تمسكه بحل الدولتين انتهى إلى دولة إسرائيلية واحدة و”حيوانات” من الفلسطينيين. مهما فعلت إسرائيل وأسقطت من وعود أميركية تبقى هي هي حاجة رئيسية لاستمرار الإمساك بالمنطقة وثرواتها. أما الغضب فيجب أن يصب على الشعب الفلسطيني ومؤسساته من منظمة التحرير إلى الاونروا وصولاُ إلى حماس والقطاع. خلال عقود متلاحقة قادت اميركا الوضع إلى ما وصل إليه في مراحله الأخيرة. بايدن أعلن أنه مع حل الدولتين، لكن جل نشاط إدارته كان يتجه نحو تحقيق المزيد من التطبيع مع الدول العربية لتطويق الموقع الفلسطيني من خارجه، بينما هو وفريقه يعلم أن الشغل الشاغل لإسرائيل هو الإطاحة بحل الدولتين، الذي بات بعيد المنال منذ سنوات وليس مع وصول اليمين الاسيتيطاني الأخير للحكم في تل ابيب. فقبل أكثر من خمس سنوات إقر الكنيست قانون يهودية الدولة الذي جعل من إسرائيل رسمياً دولة فصل عنصري، إذ نصّ في بنده الأول على أنها “الوطن التاريخي للأمة اليهودية”، وعلى أن “لليهود فقط الحق في تقرير المصير”. و… دولة ووطن للأمة اليهودية التي يحق لها وحدها تقرير المصير … ثم ينبري بايدن ليتحدث عن مهمة حشوده واساطيله في الدفاع عن “الدولة اليهودية الديموقراطية”!
Leave a Comment