مجتمع منشورات

إسلامويّة حوار أم مخادعة وإرهاب؟

طردت شوارع الجزائر أشكالاً من الإسلامويّة، لكن أشكالاً اخرى حاضرة فيها. وتحدّت الأمازيغية مجدداً التخشّب والخروج من التاريخ الذي يرين على معظم خطاب إسلامويي الجزائر.

بين هزيمتها المدويّة في إسطنبول وإعلانها عن مرحلة جديدة في القاهرة، هل يبرز تفكير جديد فعلاً في صفوف الإسلامويّة المعاصرة أم إنّها نبرة جديدة تحمل في ثناياها الصوت نفسه مع ما حمله طويلاً من مراوغة ومخادعة، خصوصاً في سؤال الدولة المدنيّة الحديثة، والعلاقة مع إرهاب متسربل براياتها، ومولود من رحم أيديولوجيتها، وفتاوى فقهائها وتيارات تكفيرياتها؟

أحياناً، يبدو إيقاع الحوادث كأنه يخفي في ظلاله أشياء اخرى، ويُذكِّرْ بصعوبة أصيلة في قراءة الأزمنة والمسارات. ثمة حركة تراجع في مسار الإسلامويّة المعاصرة يمكن تلمّسها محطات عدّة (العراق، سورية، السودان…)، ربما تبرر التفكير في ربط ذلك التراجع مع التغيّر في خطاب الإسلامويّة، وطرح سؤال عن سعيها إلى التأقلم مع “هزيمة ما” تعانيها حاضراً.

مثل؟ يصعب عدم الربط بين الهزيمة المدوّية التي لقيها القائد- الرمز لتنظيم “الإخوان المسلمين” في إسطنبول (مع تحفّظ واجب بشأن المعطيات التركيّة العميقة فيه)، وبين إعلان “الإخوان المسلمين” في مصر عن الانتقال إلى مرحلة جديدة من العمل (ما تزال ملامحه “الفقهيّة” غير واضحة) بعد وفاة الرئيس السابق محمد مرسي.

في المقابل، ثمة ما يستوجب شيئاً من “الفرملة”. في السودان، يصعد تدريجياً موقع رئيس الوزراء السابق الصادق المهدي وحزبه الذي يمتلك وزناً مهماً في “الحرية والتغيير”، ويتبنّى خطاباً يصف نفسه بالوسطية والاعتدال، والأهم أنه لا يدّعى احتكار تمثيل الناس أو الدين، وهو أمر طالما استسهلته الإسلامويّة المعاصرة. يأتي المهدي من صوفيّة طالما تصادم “الإخوان” معها، وقد أطيح به من رئاسة الوزارة بانقلاب قاده عمر البشير في 1989 بدعم “إخواني”، فأنهى حقبة من الحكم المدني استمرت 3 أعوام.

ويبدو “المجلس العسكري الانتقالي” كأنه يحرص على حفظ وزن ما لـ”الإخوان” في السلطة. ولعله مقبولٌ السعي إلى النأي عن الإقصاء والتهميش، لكن هل لدى “إخوان” السودان خطابٌ للانخراط في صنع دولة مدنيّة بأفق ديمقراطي حداثي تستند إلى المواطنة والدستور، ولا تكون سلطة دينية، ولا سلطة “فقه” ديني معين، بل تُحَفِّز على تجديد الخطاب الديني بفقه ينسجم مع التعدديّة والتنوّع والمعاصرة؟ الأرجح أنّ الإسلامويّة في السودان أمام تحدٍ أساسي، الأرجح أن خطابها الحاضر يصعب أن يجيب عليه.

الأمازيغ وسؤال صعب

في الجزائر، أعادت جنازة عباس مدني القائد السابق لـ”الجبهة الإسلامية للإنقاذ” إلى الشارع والأذهان، أن إسلامويّة الجزائر ما زالت حاضرة، على رغم أنها تعاني بشدّة في شوارع قررت أن تسير بثبات صوب حلم الدولة المدنيّة بالمواطنية والدستور. طردت شوارع الجزائر أشكالاً من الإسلامويّة، لكن أشكالاً اخرى حاضرة فيها. وتحدّت الأمازيغية مجدداً التخشّب والخروج من التاريخ الذي يرين على معظم خطاب إسلامويي الجزائر. هل لديهم من يجدد رؤيتهم (للأسف، نقول أيضاً “فقههم”) بشأن تاريخ شعب الجزائر ومكوناته وتجاربه التاريخيّة المتنوّعة؟ هل من صيغة اخرى ممكنة غير “الإسلام هو الحل”، بعد أن ثبت أنه لم يكن حلاً؟

في تركيا، بدت انتخابات إسطنبول كأنها وضعت نقطة على السطر لسرديّة التوافق بين الإسلامويّة المعاصرة وديمقراطية الدولة الحديثة التي روّج لها الرئيس رجب طيب إردوغان منذ انطلاق حزب “العدالة والتنمية” في 2001. كذلك، تجدّد بروز البعد التركي القومي في إسلامويّة حزب إردوغان، والأهم أنه أشّر على صعوبة تعانيها في الحوار حضارياً مع القوى المدنيّة في القرن 21. هناك أمور اخرى لا تحصى، لكن ثمة أسئلة ممكنة. كيف يمكن النظر إلى أحد أبرز تجارب الإسلامويّة المعاصرة في الدولة الحديثة التي تستند منذ بداياتها الأولى مع “معاهدة وستفاليا”، إلى أفق العمل المستمر على الفصل بين الفضائين الديني والمدني، فتكون الدولة حيادية بين أديانها، وتجهد قصاراها في إبعاد سلطة الدين كله عن سلطاتها وقوانينها ودستورها؟ ما مدى نجاح صيغة “العدالة والتنمية” في المسألة الكرديّة التي لم ينفع فيها حتى مبادرة اللحظة الأخيرة مع الزعيم- المعتقل أوجلان؟ كيف يمكن النظر إلى مقولات “العثمانية الجديدة” في ضوء التراجع القوي في شعبية “إخوان تركيا” الذي أبرزته إسطنبول؟

  أثواب جديدة- قديمة أم تجدد؟

مع تذكّر الموقع المحوري الذي يحتله إردوغان في التنظيم العالمي لـ”الإخوان”، يصعب عدم استحضار ظلال صناديق الاقتراع في إسطنبول (معطوفة على هزائم “داعش” والمآزق المتنوعة التي يعانيها تنظيم “القاعدة”)، في إعلان “الإخوان” في مصر، المؤثّر في التنظيم العالمي بأسره، عن مرحلة جديدة. ليس مجدياً الدخول في مناكفات سطحية مثل استحضار مصالحة الملك فاروق بعد مصرع مؤسس التنظيم الشيخ حسن البنا، ولا حتى ميل جناح من “الإخوان” لتأييد الناصرية بعد إعدام سيد قطب وحلّ التنظيم آنذاك.

هل يقدم “الإخوان” قراءة معمّقة لتجربتهم مع الدولة الحديثة في مصر، خصوصاً عندما وصلوا إلى أعلى الهرم فيها؟ عند قول “معمّقة”، يستحسن عدم المواربة في أن المعنى المقصود هو القراءة الفقهية، لأن أيديولوجيا “الإخوان” متسربلة بشدة بالفتاوى والمسارات الفقهية. واستطراداً، أحد المفاصل المهمة في حوار مجدٍ بين الحداثة والإسلامويّة يتمثّل في تلك النقطة الإشكالية (والملتبسة بطبيعتها) عن العلاقة بين الفقه والدولة. إذ يصعب الحديث عن دولة مدنيّة حديثة لا تكون مفصولة (بكونها دولة، ومؤسسة سياسية أساساً) عن سلطة الدين. في خطاب الإسلامويّة المعاصرة، لا يظهر خطٌّ واضح بين السلطة والدين، وهو أمر ثبت أنه جدار صلب. هناك صيغ متنوّعة لفصل مؤسسة الدولة عن التحوّل إلى سلطة دين. يُذكَر أن الرئيس الأميركي جيفري جيفرسون (المتعمق في قانونية الديمقراطية وإشكالتها) استخدم تعبير “الجدار الصلب” لوصف المسافة بين الدولة والدين. وتذكيراً أيضاً، كلمة دين لا تعني الإسلام حصراً في الدول العربية. هناك تاريخ حضاري مديد قبل الإسلام، والأهم هناك ثلاثة أديان سماوية (بكل تفرعاتها وتشعباتها وسردياتها التاريخية وذائقاتها الثقافية وغيرها) في الدول العربية. هل “الإخوان” مستعدون لتجديد الخطاب والدخول إلى التاريخ السيّال والمتغيّر، والخروج من التخشّب، وإعادة موضعة “الفقه” بداية من وضعه خارج الدولة؟ هل كثير طلب ألا يكون الإرهاب سلاحاً؟ 

[author title=”أحمد مغربي” image=”http://”]كاتب لبناني[/author]