سياسة مجتمع منشورات

اسئلة مستعادة من المراجعة النقدية

إن مراجعة التجربة ونقدها لا يتحققان عبر استعادة ما جرى وفق الوعي الذي كان مرافقاً للمشاركين فيها. كما إنه لا يتم من خلال تقديس أو تمجيد بطولاتهم وتضحياتهم، وهي خارج النقاش أو المراجعة لانها تتصل بالاهداف النبيلة التي يتجدد التزامها. بينما طرائق ووسائل واساليب الممارسة يجب، ومن الطبيعي،

إن كل نقاش أو حوار حول ما صدر ويصدر عن منظمتنا، منظمة العمل الشيوعي في لبنان، من وثائق وتقارير وبيانات ومواقف، هو أمر مرحب به على الدوام، وهو مطلوب ومرغوب، لأننا نرى فيه فائدة لها ولكل المهتمين بقضايا اليسار والبلد وشؤونه. خاصة أننا لا ولم ندعٍ امتلاك الحقيقة المطلقة حول هذه القضايا. وهي قضايا يجب أن تبقى دوماً موضع نقاش ومراجعة لدى الساعين لتعميق الوعي حولها، لأنها تتصل بمصائر لبنان والبلدان العربية، وكل ما يتعلق بمستقبلها كيانات ومجتمعات.

وعليه يجب أن تتم المراجعة للتجارب بعين ناقدة ومدققة، فردية أو جماعية، قادرة على مقاربة القضايا من مداخلها الأساسية وابوابها الواسعة. لا نقلل من أهمية أي رأي مهما كان جزئياً، لكنا ندعو الى وضعه في السياق الذي يستحقه. لقد استغرقت المراجعة التي قامت بها المنظمة سنوات طويلة، وعبرت محطات كثيرة كانت مترافقة مع انخراطها في ميدان الممارسة. أما نشر وثائقها وخلاصاتها فقد تّم تباعاً وعلى مراحل. علما أن المراجعة والنقد لم يغيبا عنها منذ النشأة والتأسيس، بالنظر لما لازمهما من اشكاليات فكرية وسياسية ونضالية وتنظيمية، كانت موضع سجال ومراجعة دائمين. والدليل كل ما رافقهما من أزمات تشكل بمجملها تاريخها المجيد. مما يعني أنها لم تكن يوماً أسيرة الجمود الفكري والسياسي والتنظيمي. كما أن تاريخ المنظمة وتجربتها ليسا ملكية خاصة لكل من انتسب لها وناضل تحت رايتها، إذ هو ملك البلد الذي ندعي النضال في سبيل تقدمه. والشهداء في هذا الاطار كما تضحيات الجميع ونضالاتهم هي ارثنا الثمين الذي لا يمكن التفريط به أو الاساءة له والمزايدة به. ونعتقد أن الوفاء والتكريم لهم لا يقتصر على تذكرهم والتذكير بهم، إنما عبر تجديد المحاولة لتحقيق الأهداف التي ناضلوا واستشهدوا من أجلها.

نعتقد ان تطور الوعي الفردي والجماعي لا يتقدم الا عبر مسار تراكمي تساهم التجارب في بلورته تباعاً، والاستفادة من دروسها هي ضمانة عدم تكرار الاخطاء، كي لا تُكرر فتكون مأساة مضاعفة. إن مراجعة التجربة ونقدها لا يتحققان عبر استعادة ما جرى وفق الوعي الذي كان مرافقاً للمشاركين فيها. كما إنه لا يتم من خلال تقديس أو تمجيد بطولاتهم وتضحياتهم، وهي خارج النقاش أو المراجعة لانها تتصل بالاهداف النبيلة التي يتجدد التزامها. بينما طرائق ووسائل واساليب الممارسة يجب، ومن الطبيعي، أن تبقى موضع مراجعة ونقد في ضوء النتائج، إذ لا يفيد في شيء استمرار الإدعاء بصحة النظرية والخط والبرنامج والممارسة وكل ما يتصل بذلك، فهذا شأن المؤمنين.

وبالعودة لما طرحه بعض الرفاق السابقين وغيرهم من ملاحظات، وبعضها يستحق الاهتمام والتوضيح، بالنظر لما رافق أكثرها من خلط بين الأهداف والخط والممارسة.  لذلك لا بد من التذكير ببعض المسائل التي لا تحتمل التأويل. وعند تسلسل القضايا، نذكّر أن الهوية الفكرية ـ المرجعية لمنظمتنا كانت الماركسية اللينينية، التي جرت مراجعتها في ضوء النتائج والانهيارات التي حلّت بكل التجارب التي اعتنقتها بما فيه تجربتنا على محدوديتها وحجمها. وعليه كان نص “في الاشتراكية” الذي اعاد الاعتبار للخيار الاشتراكي وانصف الماركسية، وحدّد ما هو ثمين يجب تجديد الأخذ به، وما ثبت عدم صوابه بات من الضروري صرف النظر عنه، أما الجديد فهو تحدٍ يواجه كل اليسار المأزوم في لبنان والعالم. وتبعاً لذلك نعتقد أن مساهمة المنظمة النقدية فريدة في عالم اليسار اللبناني والعربي، وتستحق الاضاءة عليها لقناعتنا بأهميتها.

وفي ميدان نقد التجربة نشير إلى أن المسألة القومية لم تكن ملحقاً بخط المنظمة منذ بديات التأسيس عام 1968.  لقد كانت الأساس الذي التزمته طرحاً وممارسة، وبموجبه اعتبرت القضية الفلسطينية الرافعة  التاريخية ليس لتحرير فلسطين، بل لتثوير الوضع العربي وتحقيق المشروع النهضوي التحرري. وعليه كان التزام القضية وكل موجبات النضال في سبيلها. وللتذكير فقد حمل تقرير اللجنة المركزية  حول الوضع العربي عام  1974 عنواناً هو: “فليتحول لبنان الحلقة الأقوى في الصراع العربي ـ الاسرائيلي”. وصولاً إلى القول من قبل أميننا العام للقيادة الفلسطينية المحاصرة عربياً في لبنان في 30 آذار 1976: “أرضنا أرضكم لن يبتزكم أحد بعد اليوم”.

لن نستعيد الوقائع ومسارات الاحداث وصولاً إلى الحرب الاسرائيلية صيف العام 1982، والصمت العربي، وخروج المقاومة الفلسطينية وانتهاء تجربة الكفاح المسلح من الخارج ومن لبنان تحديداً. ألآ تستحق التجربة بأكملها وخط المنظمة ضمنها التفكر مرة ومرات في ضوء مسلسل الوقائع الطويل. هل ثبت فعلاً ان القضية الفلسطينية هي رافعة تاريخية لتثوير الوضع العربي وأنها قضيته الرئيسية؟  وهل امكن تحويل لبنان الحلقة الأقوى؟ وهل تحميل لبنان بشكل شبه منفرد أعباء القضية والثورة المسلحة كان لمصلحتهما؟ ألم يشكل ذلك تجاوزاً على قدرات البلد وما تعرض له؟ هل ساهم الأمر في تثوير الوضع اللبناني؟ وكيف تحولت المقاومة “جيش المسلمين” وقوة استقواء لتعديل صيغة النظام الطائفي. وهل عالج ذلك كله أو فاقم الانقسام الطائفي الموروث والمزمن حول هوية الكيان الوطنية وصلته بالعروبة وبالقضية الفلسطينية؟. وفي هذا السياق ألم يكن صائباً قرار الخروج من الحرب الاهلية عام 1986، وقد سبقه كتاب “الحرب وتجربة الحركة الوطنية”، أواخر 1982  الذي شكل دعوة مبكرة للمراجعة.

تتناسل الأسئلة حول فكر المنظمة، وهل كان فكر حرب أهلية أم فكر حركة نضال ديمقراطي؟ ألم تكن نظرية المنظمة للتغيير في لبنان تنطلق من التحالف مع المقاومة بحجة حماية ثورتها. ألم تكن المنظمة ضد الإصلاحية السياسية والاقتصادية انطلاقاً من خطها الجذري، الرافض لمقولات التغيير السلمي، والمساجل حول  حدود النضال النقابي والمشاركة في الانتخابات؟ ألم نقرأ الصعيد الاقتصادي وتوسع الطبقة الوسطى بصفته عامل تأخير للانفجار الثوري؟ هل كانت المنظمة متفرجاً على الاحداث أم طرفاً فاعلاً مؤثراً يتحضّر للحرب الزاحفة على البلد؟ ألم نقرأ صعود اليمين الفاشي الطائفي وتنامي إتساع قواعد اليسار وانفلات حركة الطوائف المحرومة، إحتشاداَ لقوى الحرب الاهلية التي يستعد لها الجميع؟ إلى ماذا انتهى مشروعنا لقلب الحرب الاهلية الطائفية دفاعاً عن النظام بقيادة المارونية السياسية وتحويلها حرباً طبقية لتغيير النظام تحت راية اصلاحه في حينه؟

في ضوء النتائج كم بقي من مقولات اليمين؟ وكم اتسعت صفوفه لتشمل كافة الطوائف؟ وماذا حل باليسار دوراً وقوى بعد هزيمة مشروعه وتحوله “جيشاً للمسلمين”؟ باستثناء الدور المجيد والبطولي في مقاومة الاحتلال الاسرائيلي والمناداة بالتحرير والتوحيد والديمقراطية، بديلاً عن الحرب الاهلية. كثيرة هي الاسئلة ومتفرعاتها، لا نسوقها من باب الندم فقد مارسنا قناعتنا وما كنا نراه في حينه، بل نؤمن أنه الصواب، ودفعنا مع الآخرين كما دفع البلد أكلاف ذلك كله. ولا نطرح ما ورد لإعدام التجربة وفيها الكثير مما يستحق التمجيد من نبل الأهداف التي التزمنا ولم نزل، إلى نزاهة المسلك والكثير من التحليل الصائب بصرف النظر عما ترتب عليه من شعارات وتوجهات تستحق النقد. كما لسنا ولا يمكن أن نتجاهل الاعداء والخصوم كما الحلفاء لأن كلاً منهم كان يقاتل من موقعه وفي سبيل التزاماته ومصالحه، بما فيه كل الخارج القريب والبعيد.

لقد طالت المراجعة التي خاضت المنظمة في رحابها كل الجوانب، ما لنا وما علينا، وخلاصاتها منشورة في كتاب “أوراق يسارية”. أما وثائق المؤتمر العام الرابع التي تتضمن المبادرة لتجديد اليسار،  فهي عميقة الصلة والنسب بالمراجعة ومضامينها والتي تشكل إنجازاً في عالم اليسار اللبناني والعربي، لمن يهمه شأن اليسار والمجتمعات العربية.  و”الاعتذار” الذي نقدمه في هذا السياق هو اعلان تحمل المسؤولية عما قمنا به، لأننا لم نُدع للمشاركة في الحرب الأهلية، بل كنا دعاتها وروادها، واعتبرناها ممراً إجبارياً للتغيير والخلاص من النظام الطائفي. بصرف النظر عن نِسب المسؤولية عن الحرب والنتائج، التي لم يصنعها طرف أو فريق واحد رغم اختلاف المواقع والمقاصد. و”الاعتذار” في هذا السياق، ليس تنكراً بل إنصافاً لتضحياتنا التي لم تحقق الأهداف المرجوة منها، والتي كنا ولم نزل نعتقد أنها تستحق النضال والتضحية من أجلها.

أما أكلاف المراجعة فلا يعرفها إلا من كابد أعباءها سواء من تنكب مسؤولية  المبادرة لها، وخاض غمارها من موقع المسؤول الاول عن التجربة ومحاولة التجديد بدأب وجلد نادرين، أو من قرر مواكبتها والتفاعل معها ودق باب إعادة  تأهيل ذاته كي يكون جسر عبور لأجيال جديدة مدعوة لاستلام الراية وتجديد المحاولة بعيداً عن أخطاء الماضي، بديلاً عن الإكتفاء بتمجيده والحنين والوقوف على أطلاله.

[author title=”زكي طه” image=”http://”]كاتب سياسي لبناني[/author]