سياسة مجتمع منشورات

“جعجعة” السلطات بمواجهة الفساد تتراجع لصالح الانهيار المقيم

وسبب هذا العجز يعود إلى الهدر في الشبكات والسرقة والفساد المستشري داخل القطاع. ومن يطلع على وثائق شركة الكهرباء يكتشف الأهوال عن أسماء النافذين الممتنعين عن سداد ما عليهم من بدلات ومنذ سنوات طويلة، عدا التوظيفات العشوائية وما تحصل عليه شركات الخدمات من أرباح على حساب المكلفين.

“الجعجعة” التي تصاعدت من جانب أصحاب السلطات في الأسابيع الماضية حول محاربة الفساد، هدأت من دون أي قدر من الطحين بالطبع، إذ طالت بعض الموظفين المدنيين والعسكريين في هذه الدائرة أو تلك الوزارة. وبالتأكيد دخلت الكثير من الوقائع التي أُعلنت في محفوظات لجنة الإدارة والعدل وغيرها من الأجهزة المعنية. باعتبار أن موضوعة الفساد ترتبط بما هو خارج المتداول والممكن، بما هو الإصلاح المؤجل الذي يتطلب قراراً سياسياً ليس في وارد مكونات السلطات اللبنانية، بما فيه أولئك الذين أعلنوا حربهم عليه ثم تراجعوا مع سواهم، لأن الكل متورط في وقائعه بالجملة والمفرق. فمنظومة الفساد في المقام الأول هي منظومة سياسية وليست إدارية مرتبطة بمالآت النظام وعمل تشكيلاته على استثمار الدولة ومواردها في تعزيز مواقعه الطائفية السياسية. لذلك ارتفعت حمّى التوظيف مع اقتراب الانتخابات الأخيرة رغم القوانين النافذة، ومن جانب كل قوى السلطة دون استثناء. وهكذا تراجع الاهتمام، بل قد حدث العكس عندما عادت مشاريع الصفقات تطل برأسها. وهنا يتواتر الحديث عن العديد من الخطط والمشاريع التي تفوح منها روائح الصفقات والسمسرات.

وعليه، يمكن القول إن عملية مكافحة الفساد التي تصاعد الحديث عنها، ثم لم يلبث أن تراجع ، ليست سوى محاولة إرضاء لأطراف مؤتمر سيدر التي اشترطت على الحكومة اللبنانية مقابل القروض والمساعدات، القيام بالعديد من الإصلاحات التي إلتزمت بتنفيذها، للحصول على تمويل خاص للمشاريع الحيوية، من الدول المانحة. وهكذا يمكن القول إن “الشطارة ” اللبنانية عادت لتطل برأسها من خلال حديث الفساد بوصفه عملية تمويه ريثما تهدأ عاصفة الشروط المفروضة. فمثلاً وفق قائمة الإصلاحات التي جرى الوعد بها ورد أولاً إصلاح الجمارك بحراً وبراً وجواً. أي المرافئ والمطار والمنافذ البرية مع سورية، وما يحدث الآن في الجمارك يؤشر إلى هدر وتلاعب يدفع ثمنه المواطن اللبناني من خلال عائدات هذا القطاع التي تذهب مزاريب هدر إلى أكثر من جهة نافذة وذات وزن راجح في التركيبة اللبنانية، وبعضها يتبجح بمحاربة الفساد والجزم بالانتصار عليه. وكذلك ضرورة تحسين إدارة الاستثمار العام، وتعزيز المساءلة في إدارة المالية العامة، لضمان نمو الاقتصاد اللبناني، وتقليص العجز في الناتج المحلي. وبالرغم من هذه الوعود، لا يزال لبنان يحتل المركز 138 من أصل 180  في قائمة مؤشر الفساد في العالم.

ودون الغوص في موضوع الجمارك ومسألة الآت الكشف على المستوعبات، والتباين حول صيانة القديم منها أو شراء الآت حديثة بالكلفة المقدرة للصيانة، يمكن القول أن الموضوع أشد خطورة، فالموضوع الأساس يتمثل في وضع الدين العام الذي يحرز نمواً سنوياً بمعدل 3%  تقريباً، مع غياب أي خطط فعلية للحد منه. فوفق بيانات وزارة المالية، يتبين أن إجمالي الدين العام في البلاد بلغ 83.8 مليار دولار في نهاية أيلول 2018، أي بزيادة نسبتها 5.4% عن المستوى الذي سجله في نهاية عام 2017. ووفق تقرير صادر عن “بنك عودة”، نمت ديون لبنان الخارجية بنسبة 16.6% من نهاية عام 2017 لتصل إلى حوالى 35.4 مليار دولار في نهاية أيلول 2018. لكن هذه الأرقام على فداحتها لا تكشف كل المستور في موضوع الدين العام، الذي يجب أن يضم إليه أيضاً المستحقات على الدولة اللبنانية للمستشفيات الحكومية والخاصة وهذه بالآف المليارات وديون الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، وكان من المفترض أن تسدد الدولة له نحو ألف مليار ليرة خلال الأعوام 2014 و2015 و2016. لكنها لم تسدد سوى 170 مليار ليرة. أما في العام 2017 فلم تسدد الدولة أي مبالغ. وبالنتيجة فإن للضمان مستحقات مالية تقدر بنحو 2300 مليار ليرة حتى العام 2017. وهناك مئات المليارات للمقاولين الذين لديهم إلتزامات طرقات ومشاريع بنية تحتية وجسور وغيرها. وهوما يرفع معدل الين العام إلى حوالي 120 مليار دولار كما يؤكد العديد من الخبراء الماليين.

ومن المتوقع أن ترتفع نسبة الدين العام وأرقامه بالنظر إلى مناخات المنازعة التي تدور في اجتماعات اللجنة الوزارية التي شكلها مجلس الوزراء مؤخراً برئاسة رئيس الحكومة لدراسة ملف الكهرباء، إذ عادت نغمة استئجار البواخر تطل برأسها ثانية، ما يعني المزيد من الهدر والتقنين، علماً أن عجز الكهرباء سجل منذ العام 1992 حتى نهاية العام 2017، ما مقداره 36  مليار دولار، أي حوالى 45% من اجمالي الدين العام. دون أن يقترب موعد الوعود التي سبق وقطعت حول عودة الكهرباء 24 ساعة يومياً وفي مختلف المناطق اللبنانية. وسبب هذا العجز يعود إلى الهدر في الشبكات والسرقة والفساد المستشري داخل القطاع. ومن يطلع على وثائق شركة الكهرباء يكتشف الأهوال عن أسماء النافذين الممتنعين عن سداد ما عليهم من بدلات ومنذ سنوات طويلة، عدا التوظيفات العشوائية وما تحصل عليه شركات الخدمات من أرباح على حساب المكلفين. وحسب تقارير صادرة عن وزارة الطاقة، تبلغ كلفة إنتاج الكيلووات الواحد 255 ليرة (63% فيول و37% للتوليد)، بينما يكلّف توليد الكهرباء في المعامل الحراريّة كمتوسّط عالمي 62 ليرة. وعليه، يتكلف المواطن سعر الكيلووات 4.1 مرّات مقارنة مع ما يتكلفه المواطنون في أغلب دول العالم. وعلينا هنا ألا ننسى أصحاب المولدات الذين هدأت ملاحقة رافضي تركيب العدادات منهم، جراء إرغام المئات من المواطنين على توقيع بيانات تعلن قبولهم الاشتراكات المقطوعة كأمر واقع مفروض.

يمكن التوقف لامتحان جدية السلطة عند المزيد من المسائل كالتهرب الضريبي الذي تبلغ قيمته السنوية من جانب شركات القطاع الخاص نحو 1.5 مليار دولار، وكذلك ما يخطط له في قطاع الاتصالات وإيجارات الأملاك البحرية وغيرها. اختصاراً لا يبدو في الأفق ما يبشر بالحد من مسار الانهيار الزاحف، أما الاصلاح فقضية أكبر من الذين يتشدقون أنهم أربابها. 

[author title=”عماد زهير” image=”http://”]كاتب لبناني[/author]