مجتمع

وسائل التواصل واكتساح الخصوصية وعمومية الممارسة السياسية

بول طبر 

من المساهمات المميزة التي قدمها ماركس في تفكيكه للنظام الرأسمالي وآلية عمله، كان تحليله للسلعة والتسْليع. تسْليع الإنتاج بما هو تجسيد للعمل المبذول لإنتاج السلعة. وفي سياق هذا التحليل، أظهر ماركس ببراعة مصدر إنتاج القيمة، والقيمة الفائضة كأساس لما أطلق عليه تعبير الإستغلال. إستغلال العمال من قبل مستخدميهم، أي أصحاب الرساميل ومنها وسائل الإنتاج. إلا أن تحليله هذا لم يتوقف عند هذا الحد مما يجري في النظام الرأسمالي. فقد أظهر أيضاً كيف أن التسليع والإستغلال الملازم له، يقوم على نزع سيطرة المنتج ليس فقط على قوة عمله، وإنما على عمله بالذات. بذلك يصبح العامل أو المنتج غريباً عن الوقت الذي يمضيه، وعن النشاط الإنتاجي الذي يقوم به، وعن المنتَج الذي ينتجه. صحيح أن السلع المنتجة تلبي الحد الأدنى من متطلبات العيش لدى عامة الناس ومن بينهم المنتجين والمنتجات. إلا أن الشعور الدائم بالفقد لدى المستهلكين من مختلف الفئات والطبقات الإجتماعية، يبقى الشرط الضروري لبقاء النظام الرأسمالي وانتعاشه الدائم. من دونه يتوقف الطلب على السلع المتجددة دوماً. هذا أمر يضاعف من مشكلة الإغتراب، وهي متأتية مباشرة من الإستهلاك، وليس من عملية الإنتاج كما سبقت الإشارة إليه.

هذا هو ما يفعله تسليع قوة العمل والإنتاج في النظام الرأسمالي، فما بالنا عندما يكتسح التسليع (أي تحويل الشيء أو الفعل الإنساني إلى سلعة) في الجوانب الأخرى من حياة ونشاط البشر؟ تسليع السياسة والفكر والثقافة والفن والعلاقات الحميمية والتفاعل بين الأفراد والجماعات في مختلف المجالات، إلخ.

يؤدي كل ذلك إلى تعميق الشعور بالإغتراب لدى الإنسان المعاصر، وتعميمه ليشمل مختلف جوانب حياته العامة والخاصة. هذا ما نشهده الآن في مختلف المجتمعات وإن بدرجات وبأشكال مختلفة. وفي هذه الحالة تسود القيم النفعية والعقلانية الوسائلية التي تتماشى مع منطق السوق والسلع وتحقيق الربحية. والربحية أو التربح في هذا السياق متحدر من عملية تسليع مصادره، أكانت هذه المصادر عملية إنتاج الثروة المادية أم الرمزية (الربح المرجو من إنتاج القيم الرمزية هو الإعتراف بالذات من أصحاب الشأن والسلطة في مختلف المجالات غير الإقتصادية بالمعنى الحصري للكلمة). وبالقدر نفسه يقوم التربُّح في تغذية إنعاش عملية التسليع (المادي والخدماتي والرمزي) عن طريق الإنخراط في عملية الإستحواذ عليه وتصريفه.

بكلام موجز، يصبح الإنسان المعاصر أسيراً لقوى ودوافع لا يتحكم بها، ولا تصدر عن ذاتٍ متحررة وممتلئة (التحرر هنا لا يعني الفردانية المطلقة بل الفردانية المحققة عبر احترام فردانية وكرامة الإنسان الآخر). وبذلك تفقد الأفعال والقيم والدوافع بُعدها الإنساني المكثف، وتغدو سطحية وعابرة، شأنها شأن السلع المادية في السوق الرأسمالي.

وللتدليل على ما أسوقه، سوف أتناول جانبين من جوانب نشاط الإنسان المعاصر وسوف أبين تأثير عملية التسْليع عليهما. ألأول ذو طابع خاص وحميمي، والثاني عام وعلني. وفي الجانب الأول نتساءل عما يحدث للعلاقات الحميمة بصورة عامة، من علاقات عاطفية وصداقة، وحتى علاقات عائلية بين الأبوين والأولاد وفيما بين الأولاد. وسوف أحصر النقاش في موضوع تأثير وسائل الإتصال الإجتماعي على تلك العلاقات (والشيء نفسه ينطبق على نقاش النشاط السياسي العام فيما بعد).

بداية يصح أن يتساءل القاريء عن علاقة وسائل الإتصال الإجتماعي بعملية تسليع العلاقات الحميمية المشار إليها. بالطبع بدأت عملية التسليع قبل بروز وانتشار وسائل الإتصال الإجتماعي، إلا أن بروز هذه الوسائل وانتشارها الواسع سهَّل وسرَّع هذه العملية وعمقها. أولاً أدت العلاقات الرأسمالية وانتشار ثقافة السوق والتربح إلى اكتساحها تدريجياً لمجالات العلاقات الحميمية بطرق مختلفة. فكانت النتيجة تحويل الجنس أو العلاقات الجنسية إلى سلعة معروضة للبيع، يتم بموجبها نزع البُعد العاطفي والإنساني عن الفعل الجنسي، ويختزله إلى وظيفته البيولوجية البحتة. وتحت تأثير انتشار العلاقات والقيم الرأسمالية، بدأ مفهوم الحب والصداقة والجيرة والحس بالانتماء إلى الجماعة، بدأت جميعها بالتحول إلى علاقات تتحكم بها النفعية والمصلحة الفردية، وهي قيم مستمدة من علاقات السوق الرأسمالي (يصف علماء الإجتماع العلاقات الجنسية، أو الجنسوية، بأنها بلاستيكية، ويضيفون أن مفهوم الحب الرومانسي، قد تراجع لصالح مفهوم الحب الذي يرفض فكرة الإرتباط الدائم لصالح الإرتباط المشروط بشعور كل طرف بالرضى من الطرف الشريك). كذلك نلاحظ تراجع الروابط العائلية وتقدم الفردانية والمصلحة الخاصة لكل فرد عائلي على حساب تلك الروابط.

وجاء بروز وانتشار وسائل الإتصال الإجتماعي ليعزز ليس فقط مثل هذه القيم، وإنما أيضاً لتسريع هذه الإنتشارعن طريق قدرة هذه الوسائل على تجاوز حواجز المكان والزمان، من أمام إنتشار هذه القيم والممارسات الملازمة لها. والأهم في هذا المجال هو مساهمة وسائل الإتصال الإجتماعي على استكمال عملية نزع الجانب الشعوري والاجتماعي (بغض النظر عن ضرورة إخضاع هذا الجانب للنقد باتجاه جعله أكثر إنسانية ويقوم على احترم حرية الفرد وكرامته) للعلاقات الحميمية، والدفع أكثر لتحويلها إلى علاقات نفعية وفردانية، ومجرد علاقات بيولوجية في إطار العلاقات الجنسوية. لا شك أن لوسائل الاتصال الاجتماعي فوائد عدة ليس المجال هنا لذكرها. إلا أنها لديها العديد من العواقب المدمرة للبُعد الانساني والإجتماعي للعلاقات الحميمية بتحويرها لها الى علاقات آلية ، رقمية. وفي هذا السياق، يصبح الدخول في علاقة حب بين شخصين  سهل ونزق ورقمي، كما الخروج من هذه العلاقة. زيغمين بومين اطلق على هذه الظاهرة تعبير “علاقات جيب القميص”، علاقة يسهل سحبها (تفعيلها) وإرجاعها الى الجيب كما يحلو للفرد المعني.

ننتقل الآن الى موضوع وسائل الاتصال الاجتماعي وتأثير استخدامها على العمل السياسي: توفر منصات هذه الوسائل الانضمام الى مجموعة سياسية ما من دون التعرف الشخصي على افرادها. فالانضمام لا يأتي بالضرورة نتيجة المعرفة الشخصية باعضاء هذه المجموعة، والاحتكاك مع بعضهم البعض، والنضال المطلبي المشترك، والاطلاع على الطرح السياسي والمطالب السياسية التي يدعون العموم اليها. يكفي ان يتعرف الملتحق عبر منصة الفايسبوك على الافكار السياسية للمجموعة أو التنظيم المعني، لكي يقرر الالتحاق والالتزام او عدمه. ويتبع ذلك صنوف عديدة من المشاركة في “العمل السياسي” تتراوح بين اشهار الموقف من قضية ما، أو وضع إشارة إعجاب تعليقاُ على بوست أو رسالة معينة، أو الدخول في سجال مع الخصوم وأصحاب الرأي المغاير على المنصات المختلفة أو المفضلة لديه بين سائر وسائل الاتصال الاجتماعي، أو التداعي إلى مظاهرة أو اعتصام، الخ. وأخيراً، قد يختار الفرد أن يترك الفريق السياسي ويقطع علاقته معه، لسبب لا يقل كونه منفصلاً عن إطاره الإجتماعي الفعلي، كما في الحالة الأسباب التي دفعته في الأساس إلى الإلتزام بهذا الفريق، وهكذا دواليك.

وفي هذا المجال، نلاحظ أيضاً الدور الأساسي الذي تقوم به وسائل الإتصال الإجتماعي في تحوير العمل السياسي العام،  وجعل العديد من جوانبه شبيهة بما أصاب من قبله للنشاط الإقتصادي للمنتجين. هنا أيضاً يتم إلى حد ما سلْعنة الخيار السياسي عن طريق استعراضه على منصات وسائل التواصل الإجتماعي، ويجري أيضاً تجريده وتجريد الممارسة السياسية الملازمة له، من إطارها الإجتماعي الفعلي، والممتلئة بكثافة الحدث والنشاط السياسي الفعلي. هذا هو القاسم المشترك لجميع الأنشطة السياسية التي تتوسط وسائل التواصل الإجتماعي، والفاقدة لكثافة الواقع الفعلي الذي ترمز إليه: غياب التعرف على المجموعة عبر اللقاء الفعلي مع افرادها، والإطلاع على الطرح السياسي الذي يحملونه، غياب المشاركة الفعلية في النضالات المطلبية والسياسية، التعرف على طرحهم عبر الكتب، أو عبر أي نوع من أنواع المنشورات الورقية، افتقاد الانتظام في اجتماعات دورية مع اشخاص فعليين، وفي اماكن فعلية لنقاش كافة المواضيع المتعلقة بالعمل السياسي واتخاذ القرارات المناسبة، إلخ. باختصار يفتقد هذا النوع من العمل السياسي لكثافة التجربة المعاشة، وبذلك تصبح الممارسة السياسية “رقيقةً” ومنزوعة جميع الابعاد الوجودية والشعورية المتحدرة من تزاوج المكان والزمان ووجود الفاعل السياسي في وسطهما.

وسائل الاتصال الاجتماعي تسطِّح مفهوم العمل السياسي، وما يلازمه من كثافة الالتزام والتضحية والنضال. وبذلك يتم الالتزام السياسي بالخفة ذاتها التي يتم فيها الانسحاب منه.

Leave a Comment