مجتمع

الانهيار يطلق الهجرة التي تفقد المجتمع شبابه وقدرته على التغيير

محمد قدوح

الهجرة إلى الخارج ظاهرة اجتماعية رافقت المجتمع اللبناني منذ ما قبل إنشاء الكيان وإستقلاله، وذلك بسبب الاضطرابات السياسية والصراعات الاهلية وما نتج عنهما من أزمات اقصادية واجتماعية، ولا تزال هذه الاضطربات تتوالى فصولاً حتى الآن، حيث يمكن القول إن لبنان لم يكن يوما حتى في مرحلة ازدهاره بلداً نموذجياً لإحتضان أبنائه.

لم تتوقف موجات الهجرة منذ ثورة الفلاحين بقيادة طانيوس شاهين ضد الاقطاع والتجار، وأحداث عام 1860 و1864، وقد حصل اكبر هذه الموجات في العام 1915، اثر المجاعة التي شهدها لبنان بسبب موجات الجراد والاحتكارات والحصار خلال الحرب العالمية الاولى، وكانت حصيلتها مع الموجات السابقة لها 330.000 مهاجر. وقد وصف باحثون اجتماعيون درسوا ظاهرة الهجرة في لبنان بالهجرة الكبرى الاولى.

وقد تواصلت الهجرة بعد ذلك، بمعدل 4000 مهاجر سنوياً خلال الفترة ما بين عامي 1920 و1938، وبمعدل 3500 مهاجر سنوياً خلال الفترة ما بين عامي 1949 و1959، وقد بلغ مجموع المهاجرين خلال الفترة ما بين عامي 1860 و1959 حوالي 1.215.000 مهاجراً.

أما الهجرة الكبرى الثانية بحسب هؤلاء الباحثين، فقد حصلت خلال الحرب الاهلية التي شهدها لبنان خلال الفترة ما بين عامي 1975و1990، وقدر عدد المهاجرين خلال هذه الفترة بحوالي 990.000 مهاجر، واستمرت الهجرة بعد ذلك بوتيرة أخف، حيث بلغ عدد المهاجرين خلال الفترة ما بين عامي 1975و2001، حوالي 1.150.000 مهاجراً.

الانهيار الاقتصادي والهجرة الكبرى الثالثة

لا تتوافر إحصاءات دقيقة حول أعداد المهاجرين منذ العام 2001، ولكن الهجرة استمرت بمستويات متفاوتة، تبعاً لتصاعد الازمات السياسية والاقتصادية التي تعصف بلبنان منذ العام 2005، والتي بفعل ممارسات منظومة السلطة الحاكمة قادت إلى تفكك وتحلل مؤسسات الدولة الأساسية والخدماتية، ونهب المال العام والخاص، وبالتالي حصول الانهيار الاقتصادي والمالي الذي لا تزال تتوالى فصوله منذ العام 2005. وبناء عليه، يتوقع أن يستمرر تصاعد حركة الهجرة إلى الخارج في ظل هذا الانهيار الذي قاد إلى إفقار غالبية اللبنانيين. ومن أهم المؤشرات التي تؤكد على تصاعد الهجرة التالي:

اولاً: إرتفاع عدد العاطلين عن العمل بشكل مضطرد، حيث اشارت دراسة اجراها البنك الدولي عام 2010 حول سوق العمل في لبنان إلى أن عدد العاطلين عن العمل يقدر بحوالي 50.000 شخص سنوياً، في المقابل فإن الاقتصاد اللبناني يوفر 3000 فرصة عمل سنوياً، بسبب عدم وجود نمو اقتصادي، يستهدف خلق فرص عمل جديدة، وعدم وجود نمو نوعي يسمح بالارتكاز عليه لتطوير القطاعات الانتاجية. وقد بلغ عدد العاطلين عن العمل في لبنان عام 2018ـ2019 بحسب دراسة اجرتها ادارة الاحصاء المركزي 203.000 شخص، 35% منهم من خريجي الجامعات.

ثانياً: تضاعف اعداد العاطلين عن العمل منذ بدء الانهيار الاقتصادي والمالي، وإقفال المؤسسات الاقتصادية على مختلف انواعها وانهيار القدرة الشرائية للأجور بنسبة 95%، بحيث يمكن القول بأن مقومات الحياة في لبنان لم تعد متوافرة لا في اللحظة الراهنة، ولا في المستقبل المنظور. وبالتالي لم يعد من خيار أمام اللبنانيين سوى اللجوء إلى الهجرة، وهو ما أظهرته دراسة أجريت في نيسان 2021، واشارت إلى أن 236 شخصاً يعمل من اصل 1023 شخصاً، وبأن 77% من العينة كان في طور تحضير مستندات السفر إلى الخارج.

كما أظهرت دراسة حديثة أجريت نهاية العام 2021، بأن 90% من الشباب الجامعي قرر الهجرة، وإلى أن 67.5% منهم يرغبون بالهجرة إلى الخارج بلا  عودة، وبأن 12% من اللبنانيين على استعداد للهجرة من دون وثائق سفر (هجرة غير شرعية).

ثالثاً: وقد طالت الهجرة غالبية اللبنانيين الذين يحملون جنسية دولة اجنبية، ومع أنه لا يوجد احصاء بشأن أعدادهم، لكنها بالتأكيد تشمل الآف الاشخاص لكونها تمثل هجرة أسر بكامل افرادها، ومن المعروف أن عدداً كبيراً من اللبنانيين يحملون جنسيات دول اجنبية بحكم الهجرات المتلاحقة والتي عمرها أجيال.

رابعاً: بلغ عدد المهاجرين خلال الاعوام 2018و2021، حوالي 215000 شخص تترواح اعمارهم ما بين 25 و40 عاماً، وتشير بعض المؤسسات (لابروا) إلى أن عدد اللبنانيين الذين هاجروا خلال الاشهر الاربعة الاولى من العام الحالي، يقدر بحوالي 400 الف شخص. قد يكون هذا الرقم دقيقاً بسبب عدد التمييز بين المسافر والمهاجر، الا أن غالبية الشباب اللبناني لن تتردد بالهجرة فيما لو توافرت لها فرصة الهجرة.

لا شك أن الهجرة التي نشهد فصولها راهناً، ستشكل الهجرة الكبرى الثالثة، والتي قد تكون أكبر من موجتي الهجرتين الاول والثانية، وبالتالي سيكون لها تداعيات خطيرة على مختلف الصعد:

1 –  هجرة غالبية الشباب  المتخرجين من الجامعات والمعاهد الفنية العالية، اي خسارة الاقتصاد اللبناني للكفاءات العلمية التي يحتاج إليها لإعادة بناء الاقتصاد وتطوير قطاعاته المختلفة. هذا اولاً. ما يعني أن المجتمع اللبناني سيفتقد حيويته وقدرته على احداث التغيير على مختلف الصعد. ومع المعدلات العمرية الشبابية للهجرة سيتحول المجتمع اللبناني خلال فترة قصيرة من مجتمع فتي (63%) من سكانه من فئة الشباب، الى مجتمع هرم يغلب عليه نسبة الراشدين الذين يميلون بطبعهم الى التقليد.

2 – ارتفاع متوسط سن الزواج لدى الشباب والشابات، وبالتالي تراجع الولادات، والذي سيتضاعف مع هجرة فئة الشباب، والتي من المرجح أن تكون هجرة دائمة. مما يعني أن لبنان مقبل على تراجع عدد الولادات، في مقابل ارتفاع نسبة الوفيات وفقاً لبعض التقارير الصحافية، ومما يعني أن لبنان قد يكون مقبل ايضاً على تراجع في عدد سكانه.

3 –  احتمال تكرار الكوارث الناتجة عن الهجرة غير الشرعية، كالتي حصلت في طرابلس قبل حوالي الشهر، لا سيما وان نسبة  12% من اللبنانيين يرغبون بالسفر عبر الوسائل غير الشرعية، ومن دون وثائق سفر نظامية.

خلاصة القول بناء على ما تقدم، إن لبنان مقبل على تغييرات خطيرة على كل الصعد السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية والديمغرافية، فهل يستدرك اللبنانيون الخطر قبل فوات الاوان؟

المراجع:

1ـ استطلاع اجراه البارومتر العربي

2ـ استطلاع للدولية للمعلومات

3ـ مرصد الأزمة التابع للجامعة الاميركية

4ـ دراسة اجرتها الدكتورة سوزان نعيم في معهد العلوم الاجتماعية – الجامعة اللبنانية.

Leave a Comment