سياسة مجتمع

القائد محسن ابراهيم في ذكرى رحيله الثانية: ألف وردة ووردة لالتزامك قضايا الحرية والتقدم

زهير هواري

في مثل هذه الأيام قبل عامين رحل عنا الأمين العام لمنظمتنا، منظمة العمل الشيوعي في لبنان سابقاً، منظمة العمل اليساري الديموقراطي العلماني حالياً، المناضل الوطني والقومي والأممي محسن ابراهيم. أودعنا همومه وأدلج في ليل الغياب، وترك لنا، نحن أبناء مدرسته تراثاً نغرف منه كلما شعرنا بالظمأ إلى حضوره الرؤيوي ـ النهضوي، الذي اتسع ليطال تحولات العالم الواسع بقواه ومراكزه المتقدمة والنامية على حد سواء، وكذلك تقويمه لحركة اليسار بما لها وما عليها. ومع تراثه الغني نكتشف دوماً مدى حاجتنا، وحاجة حركة التحرر الوطني العربية، كي  نغرف من فكره المتجدد، الذي طالما تمتع به لقراءة وتحليل المعطيات، واستشراف الأفق المتاحة للتغيير، دون المغامرة بخوض معارك غير محسوبة وخاسرة سلفاً. رحل بعيداً بعد أن قال كلاماً كثيراً وكبيراً، ولم يمش حتى حُمل على نعش الموت. ليس سوى الموت، والموت وحده، كان فقط ما يثنيه عن متابعة ما بدأه في اطار منظمته، ومع جمال عبد الناصر وكمال جنبلاط وياسر عرفات في اطار نضالهم ضمن مواقع اشتباك حركة التحرر العربية مع قوى الاستبداد والاستعمار. والاربعة رحلوا في غمرة عطائهم وإيمانهم بقضايا شعوبهم و المنطقة. ومعهم تلك القوافل الكبرى التي ضمت عشرات ألوف المناضلين الذين قادوهم في طريق الجلجلة ورحلة المغالبة القاسية.  كأنه، كان يقدم لنا نحن الباقين من رفاق هذه المسيرة آخر وصاياه، وما تتضمنه من اصرار على ضرورة متابعة السير في مغامرة التغيير الواجبة الوجود، مهما تلاطمت أمواج الانهيار، وتعاظم مد التفكك، وغاصت بلادنا بشعوبها حتى الرُكب، في مطحنة ومستنقع الحروب الأهلية والطائفية المحلية، والاقليمية والمدارة دولياً. وهو ما يدفع بالعديدين إلى اعلان اليأس ورفع راية الاستسلام البيضاء.

من الصعب، بل من المستحيل، إعادة تقديم مسيرة الراحل في عطاءاته خلال حوالي السبعين عاماً من العمر بعد يفاعته، أمضاها في معمعة ومعترك النضال الوطني والقومي والاجتماعي. فكلام من هذا النوع، وكي يستوفي الرجل حقه وحقوقه، يحتاج للاضطلاع  بمثل هذه المهمة إلى مجلدات، ومراجعة لكل ما قدمه لنا من فكر وثقافة سياسية وممارسة نضالية، تتجاوز الفكري والمحلي – الوطني إلى القومي – العربي إلى الأممي. سيظل ذلك كله بمثابة وديعة وأمانة لدى أجيال جديدة تأتي للنهوض بمهمة جليلة على هذا النحو، تكرم من خلالها كل تلك الجهود والدماء التي سالت، والجراح التي حملتها أوسمة على أجسادها، وحبات العرق التي انحدرت من الجبين، والدموع التي سفحتها العيون، في سبيل انتزاع المستقبل من بين براثن الحاضر الكالح. مع ذلك يجب أن نسجل للرجل، من باب الوفاء والعهد، بعض يسير مما قدمه لهذه الارض وقضايا الانسان العربي في المفاصل التي مرت عليه، وطبعت تاريخه وحاضره، التي عاشها، والتي وإن تعددت وتطورت وتدرجت مقارباته لها، إلا أنها كانت محكومة دوماً، إلى جانب النزاهة، بالوعي الثاقب والإستنارة في رصد ورؤية الاوضاع والتحولات، التي تُلقي بأحمالها على كل الحالمين، من أن الليل سينجلي، والقيود ستنكسر، وأن السجون ستفتح، ويخرج منها سجناء الرأي، والمتهمون بارتكاب جرائم المعارضة للسلطات، ورفع الصوت جهيراً في مواجهة الاستبداد وأجهزته وأقبيته وجلاوزته. وعليه لم يكن محسن ابراهيم عرَّافاً بين منجمين وقارئي فنجان ، كما لم يكن متنبئاً تنكشف عن رؤيته الحُجُب، فيقول ما قاله انطلاقاً من فردانيته، وظهور عالم الغيب المخفي عن سواه من الرواد. كما ذكرنا، من الصعب مقاربة الراحل بشمولية ما هزَّه من أفكار ومقولات، وما أصر عليه من رؤى ورؤيا، الا أننا سنتوقف عند بعض العناوين التي طبعت مسيرته لمواكبة التطور البياني لرحلته:

  • في مجال الفكر السياسي لا بد وأن يسجل لمحسن ابراهيم تلك الحيوية الفكرية، التي وإن كانت قد ظهرت طلائعها منذ أيام حركة القوميين العرب و”شباب الثأر”، الا أن هذه كانت مجرد محطة، وخطوة قصيرة على طريق طويل من المجال القومي العربي والحركة الناصرية ومدخله فلسطين وقضيتها، إلى الفكر الشيوعي ماركسيا – لينييناً، مع انفتاح على تجارب الشعوب في الهند الصينية والصين وكوبا وغيرها. بالطبع لم يقف محسن ابراهيم ويحافظ على هذه الرؤيا والتوجهات متكلساً مع انهيار المعسكر الاشتراكي في مركزه واطرافه، بل إنه ربما الوحيد بين قادة الاحزاب الشيوعية العربية والعالمية، من أعمل مبضعه في نقد فلسفة الماركسية، والخيارات التي جرى الالتزام بها خلال تلك العقود الطويلة المنصرمة، وصولاً إلى نقض هذه النظرية وما شابهها من نظريات، بما عبرت عنه من حتميات وأحكام قطعية تنتهي كما قالت، ببناء دولة البروليتاريا، فتتحلل الدولة وتفقد مبررات وجودها، كمحطة نهائية وطريق خلاص وحيد للانسان على هذه الأرض، على صعد الحياة الديمقراطية والاقتصاد والسياسة والثقافة وبناء المجتمعات ومؤسساتها. هذا النقد الصارم للماركسية من منابعها ومصادرها الأصلية كما قال بها صاحبها، لم يغفل معها، ما في هذا الفكر من فتوحات على صعد صراع الطبقات، وتكوّن رأس المال وآليات سيطرته ونهبه للمجتمعات، متقدمة ومتخلفة على حد سواء. هذا النقد الذي عبر عنه في مداخلاته حول الاشتراكية والرأسمالية إنطلق منه نحو بناء نظرية قوامها أهمية النضال من أجل إعادة الاعتبار لدور وأهمية الديمقراطية في الصراع من أجل التحرر والتقدم، باعتبارها سبيلاً لمساهمة المجتمعات في ارتياد مسار الحداثة والتسويات التي تفتح تباعاً على تسويات أكثر تقدماُ وثباتا. إذ البديل عنها ليس سوى الاستبداد والقمع العاري، والصراعات المنفلتة من عقالها مع ما تقود إليه من مضاعفة المعضلات التي تعانيها المجتمعات البشرية، خصوصاً في الدول التي ما تزال تحمل معها أثقال الماضي، وبُناه الفائتة على إحتمال سلوك سبل التقدم والتطور والحداثة، وبالتالي اللحاق بالعصر والشروع في حل المشكلات التي تعانيه مجتمعاتها.
  • أوصلت التجربة والممارسة القومية محسن ابراهيم، إلى  مصر عبد الناصر في اعقاب ثورة 23 يوليو تموز من العام 1952، وما شهدته رسوخاً من خطوات تمثلت في فتح أبواب مصر لحركات التحرر الأفرو – آسيوية، والدور الرائد في حركة الحياد الإيجابي وعدم الإنحياز، والقيام بتأميم قناة السويس وبناء السد العالي، وتوزيع الأرض على الفلاحين، والشروع في عملية التصنيع، وفتح أبواب التعليم للفئات الفقيرة وغيرها. وهي المواكبة التي لم تمنعه- رغم علاقته الشخصية بالرئيس عبد الناصر –  من معاينة عناصر الخلل في تلك التجربة، وتبيان أعطابها التي كشفت النقاب عنها هزيمة حزيران العام 1967، التي أظهرت مدى هشاشة المجتمعات العربية في أقوى حلقاتها عن مواجهة الهجمة الاستعمارية العاتية، التي تعرضت لها وأدت إلى هزيمتها. لقد وجه محسن ابراهيم  سهام نقده على مكامن الخلل في هذه التجربة، التي وإن اصابت المؤسسة العسكرية في المقام الأول، الا أن حقيقتها تتجاوزها لتشمل البناء السياسي- الاجتماعي الذي أشادته الناصرية خلال سنوات قيادتها لتلك التجربة، وعطلت بموجبها آليات الحياة الديمقراطية وحيوية المجتمع المصري، وقواه الحديثة وحجزتها عن القيام بدورها، حيث هيمنت المخابرات على الحياة السياسية والاجتماعية، وصادرت بموجبه حرية العمل البرلماني والحزبي والاعلامي. وستشهد هذه المرحلة  من محسن ابراهيم لاحقاً، مراجعة لهذه المراجعة بما يضع الشعارات التي نادت بها هي نفسها تحت ” الغربال” لفصل قمحها عن “زؤانها”، والخلوص إلى الدروس الممكنة والمستفادة. نقد الآخر ونقد الذات في الوقت نفسه، لبناء جدلية مختلفة عن المألوف والسائد في ثقافتنا السياسية وغير السياسية. ومحسن ابراهيم لم يجلس بين كتبه في ما يشبه الصومعة والبرج العاجي، يقرأ ويحلل معفياً نفسه من ضنك التعب في صياغة تلك المسيرة، بكل ما تمخضت عنه من إنجازات وترتب عليها من إخفاقات. وما مارسه محسن ابراهيم حينها لم يكن كما زعم البعض قفزاً من سفينة تجنح وتوشك على الغرق، بل كان محاولاً منع السفينة ثانية من أن تتعرض لما تعيشه من كارثة محدقة، من خلال البحث في الأسباب والعوامل والعناصر المتداخلة، ما هو داخلي بنيوي وخارجي دولي منها، توصلاً إلى تلافي أن تُلدغ شعوبنا ثانية، وتكرار الوصول إلى النتائج نفسها التي وصلت إليها قبلاً، والتي أدت إلى تلك الهزيمة المدوية، والحال المأساوية التي أطبقت عليها، وما تزال تعاني المنطقة من نتائجها إلى الآن على كل صعيد وميدان.
  • القضية الفلسطينية، وهنا مربط الفرس منذ انتسابه إلى صفوف حركة القوميين العرب مناضلاً وقائداً. فمنذ البداية كان يدرك محسن ابراهيم أن ما تعرضت له فلسطين من مشروع استعماري استيطاني اقتلاعي، لا حدود إدارية له ضمن خارطة البلاد التاريخية. كان دوماً على قناعة أن هذا المشروع بأصوله الاستعمارية القديمة والامبريالية المحدثة أبعد من استهداف أرض وشعب فلسطين. وأن طموحه الفعلي هو إخضاع المنطقة العربية برمتها لسيطرته وشبكة مصالحه. مستعيناً على ذلك بالروابط المتينة التي تجمعه مع أقوى مراكز قرارها وقوتها، بدءاً ببريطانيا وفرنسا، انتهاءاً بالولايات المتحدة الاميركية، بهدف واضح ومحدد هو تفكيك المنطقة وفرض سيطرتها عليها ، ونهب ثرواتها النفطية، والحكم عليها بالدوران في حلقة التخلف المفرغة، وبالتالي حجز مسيرتها، وإبقائها في مأزق العجز عن صياغة حداثتها، وبناء دول ومجتمعات قادرة على ردم الفجوة الحضارية التي تعيشها، بفعل قرون متلاحقة من التخلف والاستبداد. ليست وظيفة اسرائيل وجيشها الجرار وآلة حربها، “الدفاع” عن المشروع الاستيطاني الصهيوني العنصري بما انتزعه من مساحات على أرض فلسطين، بل إن وظيفته الفعلية، أن تكون هذه الارض، رأس جسر لاختراق الدواخل العربية، واذلال شعوبها ونهب خيراتها وتفكيك دولها ومجتمعاتها، وتهشيم محاولات التقدم التي تبذلها شعوبها. ولذا وقف محسن ابراهيم دوماً وأبداً إلى جانب أهل فلسطين وثورتهم، وعمل دون كلل أو ملل  في مراحل الصعود، كذلك في حالات الانحسار والتراجع، على المساهمة في دعمها لمواصلة مسيرتها، ودافع عن قرارها الوطني المستقل لدى محاولة مصادرة حقوق شعبها وقيادته في نيل حقوقهم السياسية والانسانية، وتحقيق مطالبهم من خلال حضورها السياسي والمؤسساتي . بهذا المعنى لم يَحِد محسن ابراهيم قيد أنملة عن رؤية هذا الاصطدام بين المشروعين الصهيوني والمشروع الوطني الفلسطيني العربي المناضل، سواء من خلال الحدود العربية المحيطة، أو من الداخل وجهاً لوجه ضد الاحتلال والحصار. وأدرك أبداً أن الشخصية الوطنية الفلسطينية التي جرى حفر مجراها بالدماء والسجون والمنافي، يجب الحفاظ عليها، وتعزيزها في مواجهة حال الشتات، ومحاولات التذويب وانتزاع الوكالة من شعبها، لطرح مصيره على طاولة الأنظمة العربية وغير العربية ( ايران وتركيا) التي وجدت في تلك القضية استثماراً يمكن توظيفه بالتفاوض مع الولايات المتحدة الاميركية، لتكريس نفوذها في المنطقة، وعلى حساب شعوبها بطبيعة الحال، وفي مقدمهم الشعب الفلسطيني. لكل بعض ما ورد كان محسن ابراهيم فلسطينيياً كما أنه كان لبنانياً صميماً.
  • لبنان وقضيته: لم يغادر محسن ابراهيم يوماً قناعته أن لبنان يكاد يضيع تحت “سنابك” الهجمة الاستعمارية من جانب اسرائيل ومشاريع الوصاية من الأنظمة العربية قريبة وبعيدة، وتصارع قواه الطائفية على الإمساك بزمام الأمور والهيمنة عليه. وأن مسؤولية بلوغ هذا الخطر الذي يتهدد الكيان والدولة ووحدة المجتمع يتحملها النظام والتركيبة الطائفية، التي تتركه معلقاً على قارعة التطورات الخارجية والتوازنات الطائفية الداخلية. لذلك عقد مع كمال جنبلاط تلك الشراكة التي انتجت برنامج الحركة الوطنية للتغيير الديمقراطي في لبنان، وقاتل مع منظمته وقوى التغييرالعريضة من أجل إقراره ونفاذه. صحيح أن محسن ابراهيم الوحيد الذي قدم نقداً قاسياً لتجربة الحركة الوطنية اللبنانية في إباحة لبنان للثورة الفلسطينية وسلاحها، وما حمَّلته فوق طاقته من أعباء، ما أدى إلى انفراط ما تحقق من وحدة مجتمعية، لكنه في الوقت ذاته ظل واعياً ليدرك على نحو حاسم ما يمثله المشروع الصهيوني على حدودنا الجنوبية من مخاطر متربصة بالكيان الوطني الذي اراده نقيضاً للمشروع الصهيوني، وقوانين عنصريته ويهوديته التي تفرز المقيمين على أرض فلسطين بين من يحملون الدماء اليهودية الصافية وبين “الأغيار” من خارج هذا الإنتماء. ومن هذه الزواية ومع رفيقه أمين عام الحزب الشيوعي اللبناني جورج حاوي، وفي ذروة الغزو واليأس، أطلقا في 16 أيلول 1982 نداء المقاومة الوطنية الأول، والذي انضوت في مضماره قوى وشخصيات وجموع قدمت شلالات من الدماء والتضحيات تصدياً لجحافل الجيش الصهيوني في العاصمة، وعلى معظم الأنحاء اللبنانية التي طالها الغزو. وكان يراهن أن ينجح مسار التحرير من الاحتلال في طي صفحة الحرب الأهلية وخنادقها الطائفية، ومن خلال ذلك يُعاد توحيد لبنان على أنقاض الكانتونات الطائفية، وتكريس الاحتكام إلى الديمقراطية في العلاقات بين مكوناته البشرية. صحيح أن محسن ابراهيم نظَّر بداية للتغيير بقوة السلاح والحرب الأهلية للخلاص من النظام الطائفي، وأفتى بالرافعة الفلسطينية، لكن الأصح أنه لم يقف عندها ووضع نقطة في آخر السطر، بل أكمل نقد هذه المطالعات الفكرية – السياسية، مؤكداً أن خيار اللبنانيين الوحيد بعد تجربة الحرب هو بناء نظام ديمقراطي علماني يخرجه من الترسيمات الطائفية، التي تهدد وحدة ومؤسسات كيانه ودولته، ناهيك بالمخاطر التي تتكالب عليه، وتدخله بين كل فينة وأخرى في حروب لا تبقي ولا تذر.

بهذا المعنى لم يبقَ محسن ابراهيم منظِّر حرب أهلية بين المكونات والجماعات اللبنانية، بل اختط طريقاً دفعه إلى التأكيد أن هذا الكيان مثيل باقي كيانات المنطقة نشوءاً وأزمات. وأن اتفاق الطائف ليس سوى تسوية طائفية لمشكلة طائفية يتطلب التحرر من أدرانها الخروج على قوالبها واستعصاءاتها. وأن هناك ضرورة لمواجهتها بخيار العلمنة والديمقراطية التي تحشد جموع اللبنانيين من مختلف المشارب والمناطق، واجتراح التسويات التي تحافظ على الكيان والدولة والهوية العربية الديمقراطية وتدفع به إلى حل الإشكاليات والمعضلات التي يعانيها عبر المؤسسات والأطر وصندوقة الاقتراع والنضال الديمقراطي الشعبي السلمي ، وهو ما لا يتحقق عفواً ضمن تقاطعات وتناقض مصالح قواه الطائفية، وما تنسجه من علاقات مع الخارج الفرنسي والعربي والايراني والتركي تستقوي بكل منها لفرض هيمنتها ونفوذها، وبالطبع فمثل هذا التوجه يقود في أصفى حالاته  إلى استبدال هيمنة طائفية بأخرى، وعزله عن محيطه العربي وهويته القومية ومصالحه المكينة مع دول المنطقة العربية، دون أن يعني ذلك قبول وصايتها ومصادرتها حق اللبنانيين بممارسة سيادتهم واعتماد سياسات تتغذى من مصالحهم، وامتداد انتشارهم على خريطة العالم وداخل دوله ومؤسساته. أو الدعوة إلى الانعزال عن مشكلات البلاد والشعوب العربية وقضاياها.

عامان مرا على رحيل محسن ابراهيم وخلالهما ظن كثيرون أن انتفاضة تشرين عام 2019 التي كان يهجس بها، قد ذوت وانتهت فكراً ومشروعاً ومطالب محقة، وأن القوى الطوائفية رغم ارتكاباتها وجرائمها الموصوفة، هي الحاضر الوحيد والمهيمن على الحياة السياسية والاجتماعية، فإذا بصندوقة الاقتراع والانتخابات التي ظهرت نتائجها قبل اسبوعين، رغم ما اعتراها من تزوير بدءاً بالقاتون وتشتت للوائح قوى المعارضة، تؤكد وجود عصب تغييري حقيقي في هذا المجتمع مهما حاول الطائفيون طمس معالمه. عصب يحتاج إلى مزيد من الصقل من أجل اثبات حضور الشرائح والفئات والطبقات المتضررة من الانهيار، على مختلف مستويات مؤسسات السلطة، وفي صميم قرارها من أجل فرض مطالبها على قوى المحاصصة الطائفية، التي قادت البلد إلى الافلاس والناس إلى الجوع. ويبقى الأهم هو تجاوز خنادق وانقسامات الحرب الأهلية والكانتونات الفكرية والنفسية التي أفرزتها.

محسن ابراهيم لم يرحل إلا جسداُ عن صهوة انشغالاته بقضايا وطنه الصغير والكبير، وعن الانكباب على متابعة قضايا اليسار والتقدم والاشتراكية في بلادنا والعالم وغيرها من هموم الانسان المعاصر على هذه البقعة من الارض.. يرحل ولكنه يبقى حاضر أبداً في نضالنا مهما كانت العقبات والتحديات.

محسن ابراهيم ألف وردة ووردة على ضريحك، ولك العهد والوعد بالبقاء على خط نضالك من أجل الوطن والشعوب والانسان وحقوقه وحرياته.

Leave a Comment