سياسة مجتمع

غزة والعرب والعالم اليوم: حوار مع حسام عيتاني عن جذور ومحصّلات ما يجري في منطقتنا وحولها(1)

* ملاذ الزغبي

لا يمكن لحوار سياسي اليوم عن منطقتنا وعالمنا إلا أن ينطلق من الأوضاع في قطاع غزة، وهو ما ينطبق على هذا الحوار مع الكاتب اللبناني حسام عيتاني، لكن المقابلة هنا لا تجعلُ من التعليق على التطورات اليومية غايتها، قدرَ ما تحاول أن ترسم سياقات تاريخية مختصرة وأن تستشرف شيئاً من التغيُّرات الحاصلة والمُتوقَّعة، وعلى أكثر من صعيد: إسرائيلياً، وفلسطينياً، وعربياً، وغربياً، وفي أماكن أخرى.

وإن كانت الحرب المستمرة في القطاع تستحوذ على صدارة الاهتمام، فإن الحوار أفسح المجال كذلك لأسئلة أخرى، عربية ودولية: لبنان بعد سنوات على انتفاضة تشرين وتفجير المرفأ، والثورات العربية المهزومة، ووضع الديمقراطية عالمياً، وربطاً على ذلك أخيراً الصعودُ المستمرُ لليمين المتطرّف..

حسام عيتاني، كاتب وصحافي وباحث لبناني، من مؤلفاته: «هويات كثيرة وحيرة واحدة- سيرةjordan travis jersey borse y not scontate outlet geox spaccio online y not borse and camicie donna penn state football jersey emme marella outlet zaino mandarina duck outlet smith and soul harmont & blaine jordan travis jersey zapatillas nike ofertas borse y not emme marella outlet online benetton saldi لبنانية»، و«الفتوحات العربية في روايات المغلوبين»

                                *  * * * *       

منذ ما قبل هجوم السابع من أكتوبر، وفي السنوات الأخيرة عموماً، تتردد عبارة تقول إن إسرائيل الحالية هي «أسوأ نسخة من إسرائيل»، وخاصة بعد وصول حكومة تضم تحالفاً من اليمين من جهة واليمين القومي واليمين الديني المتطرفَين من جهة أخرى. وبعد السابع من أكتوبر، بدت لافتةً حالةُ الإجماع الإسرائيلية بشأن الحرب وكيفية خوضها، وتواترت على وسائل الإعلام الإسرائيلية عبارات على ألسنة ساسة ومحللين وشخصيات عامة تدعو للإبادة الصريحة، وأحياناً إلى قتل الأطفال، دون أن تثير إلا اعتراضات خافتة ومتفرقة… إلى أين تتجه هذه النسخة من إسرائيل بعد الحرب الحالية؟

أيّاً كانت الوجهة، فإسرائيل ليست ذاهبة لوحدها، بل هي ذاهبة مع المنطقة، ومع الفلسطينيين بالدرجة الأولى.

صحيحٌ أن عدداً من الأسباب لجنوح إسرائيل نحو اليمين يعود للتغيّر الديمغرافي الإسرائيلي وطغيان اليهود الشرقيين، ومجيء أعداد كبيرة من يهود أوروبا الشرقية الذين غيروا المناخ السياسي في إسرائيل في التسعينيات، ومن الممكن قول إن صعود اليهود الشرقيين ابتداء من عام 1977 مع انتخاب مناحيم بيغن مؤشر على أن اليسار العمالي الإسرائيلي كان في حالة أزمة، وإن انتعشَ هذا اليسارُ أوائل التسعينيات مع مشروع السلام. لكن، هنا ثمة خلفية تاريخية ونقطة مهمة تجب الإشارة إليهما، وهي أن التطرّف الإسرائيلي ليس صناعة محض إسرائيلية، بل هو صناعة إسرائيلية فلسطينية مشتركة، إذ علينا ألا ننسى أن من «ناضل» إلى جانب اليمين الإسرائيلي هي حركة حماس، والسنوات بين 1994 إلى 1996 شهدت سلسلة عمليات انتحارية لإفشال اتفاق أوسلو، وتم إفشال أوسلو بالتكافل والتضامن مع اليمين الإسرائيلي، وانتُخِبَ بنيامين نتنياهو للمرة الأولى رئيساً للوزراء عام 1996، وكان إسقاط حزب العمل الإسرائيلي مناسبة للاحتفال عند معسكر الممانعة.

ثم جاءت بعد ذلك الانتفاضة الثانية فتورّطت بالعسكرة وبالتفجيرات الانتحارية التي شاركت بها كل الفصائل الفلسطينية، ضمنَ وهمٍ مَفاده أن الانتفاضة الأولى حققت لنا أوسلو، فسيكون بإمكان الانتفاضة الثانية حالَ إيقاعها خسائر بشرية إسرائيلية أكبر أن تجلب لنا الاستقلال، وهذا الوهم كان فادحاً وتورطت به كذلك الفصائل الفلسطينية الرئيسية في منظمة التحرير، وما زالت تدفع ثمنه إلى يومنا هذا. بالإمكان القول إن هناك ما يمكن وصفه بتبادل خدمات بين معسكر حماس والإسلاميين من جانب واليمين الإسرائيلي المتطرّف من الجانب المقابل، كلاهما يقومان على مشاريع خلاصية تتضمن أوهاماً خرافية لا يمكن تحقيقها، وكلا الطرفين يعتمدان على تسويق الأوهام بين جمهوريهما.

طبعاً في النهاية إسرائيل وحكومتها لديها حلفاء حقيقيون كما رأينا منذ السابع من أكتوبر ولغاية اليوم، فالغربُ كله، بيمينه ويساره، باستثناء أقلية صغيرة، يقف مع إسرائيل، بينما حماس وقفت لوحدها، والشعب الفلسطيني بالتالي وقف لوحده يتحمّل أوزار أخطاء حماس.

إلى أين من هنا؟ أنا لست متفائلاً. إذا أردنا أن نستعمل الماضي لقياس المستقبل، أعتقد أن الانتعاش الذي أظهره الجمهور «الديمقراطي» في إسرائيل خلال الاعتراض على التعديلات القضائية والحد من صلاحيات المحكمة العليا تعرَّضَ لضربة قاسية وقُضي عليه، لأن عملية السابع من أكتوبر هزّت المجتمع الإسرائيلي أعمق كثيراً مما نتصور، وأحيت مخاوف قديمة ترجع للهولوكوست. وبالطبع يجري استغلال هذه المخاوف وتضخيمها، ولكن بات من الصعب جداً اليوم أن نرى حركة اعتراض يقودها معارضون لليمين المتطرف، إن كان هناك من اعتراض فسينبثق من معسكر اليمين نفسه ويمثله يائير لابيد وبيني غانتس. أعتقد أن اليمينَين القومي والديني المتطرفين سيبقيان في المستقبل المنظور اللاعبَين الرئيسيين في الساحة الإسرائيلية، فيما قوى الاعتدال الإسرائيلية ستكون في غاية الضعف.

وبتقديرك، فإن أزمة اعتراض اليهود المتدينين «الحريديم» على مسألة التجنيد الإلزامي مثلاً ستمرّ من دون عميق تأثير؟

ستمرّ. هذه التيارات براغماتية، إذا عُدنا لتاريخ انخراط اليهود الشرقيين، سواء من الحريديم أو من غير الحريديم، بالحياة السياسية انطلاقاً من الستينيات، وكيف تمكنوا من تحسين مواقعهم على طريقة «خذ وطالب»، وعبر العمل من داخل مؤسسات الدولة، فسيتمكنون على الأرجح من إيجاد حلول وسط. ثمة تصورات يُقدّمها الإعلام تسعى إلى إيهام القارئ أو المشاهد العربي أن هناك أزمة عميقة ومصيرية وأن إسرائيل على وشك الانهيار بسببها، وأعتقد أن قراءة متأنية للواقع الإسرائيلي وتاريخ إسرائيل الحديث تدلّان أن هذه الأمور ليست بتلك الخطورة. أذكر تماماً أنه في أعقاب حرب 73 صدرت كتب ودراسات تتحدث عن التقصير وتُحذّر من انهيار الدولة. يمكن الحديث كذلك عن مدرسة إعلامية وفكرية إسرائيلية، قد يرجع أساسها إلى الدياسبورا القديمة، عبارة عن مدرسة نواح وشعارها «سنفنى الآن». إذا قرأت تقرير فينوغراد الذي أُعِدَّ بعد حرب 2006 ستصل إلى نتيجة تقول إن الجيش الإسرائيلي انتهى.. جيش متهالك ومترهل وقيادته فاشلة، وكذلك بعد السابع من أكتوبر كان الحديث عن فضيحة عسكرية واستخباراتية تاريخية، ولكن ما حصل بعد ذلك أن الجبهة الداخلية الإسرائيلية تماسكت وصارت أكثر تطرُّفاً. دائماً ما نفعله كقرّاء ومشاهدين عرب هو أن نعلّق أوهاماً على أدب النواح هذا، وعباراته التي تتحدث عن مؤسسات فاسدة وجيش فاسد. علماً أن الوضع قد يكون كذلك بشكل أو بآخر، ولكن عليك كذلك أن ترى من هو الخصم وما هي أوضاعه. قد تكون المؤسسات الإسرائيلية فاسدة والجيش مترهلاً بالفعل، لكن من يقاتل؟

هل تعتقد أن المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابيه ينتمي إلى مدرسة النواح هذه؟

هناك جانبان لدى الحديث عن إيلان بابيه، أولهما عمله كمؤرخ، وهو عمل محترم وأكاديمي وجاد ودقيق؛ وجانبه الثاني قائم إلى حد ما على الاستسهال. ألقى محاضرة قبل أشهر في حيفا، يبشر بها بانهيار إسرائيل، وعدَّدَ خلالها خمسة أسباب للانهيار، وبتقديري هي أسباب غير جدية ولعدة عوامل، منها مستوى الدعم الغربي لإسرائيل، إذ لا يمكنك أن تُخرِجَ هذا العامل من الحسابات، وبالإمكان أن نضرب مثلاً بتدخل الطيران الأميركي والبريطاني والفرنسي والبحرية الأميركية للدفاع عن إسرائيل ضد الهجمة الإيرانية المتوسطة في الثالث عشر من نيسان (أبريل)؛ هذا يقول الكثير.

ماذا عن الوجهة الفلسطينية، أنت كتبت مؤخراً مقالاً بعنوان لا يوماً تالياً فلسطينياً أيضاً، تشير فيه إلى غياب أي تصور لدى السلطة أو حماس بشأن ما بعد الحرب، هذا فيما لم تحمل الأشهر الماضية أي مؤشر على تقارب فلسطيني فلسطيني وإنهاء الانقسام رغم جسامة ما يحصل، هل المشهد قاتم بالمطلق؟

فلسطينياً، الكارثة ستستمر. السابع من أكتوبر إن لم يتسبب بالنكبة الثانية فهو ظهَّرَ النكبة الثانية، وأوضحَ بطريقة فاقعة أن القضية الفلسطينية في أزمة عميقة وهي غير قادرة بقواها الذاتية أن تخرج منها. وفي الوقت نفسه لا توجد حاجة دولية لحل هذه الأزمة.

الاقتتال الدموي بين حماس وفتح بدأ منذ 2007، ومنذ ذلك الوقت عُقدت عشرات جلسات المصالحة والحوار ومفاوضات تشكيل حكومات مؤقتة وانتقالية وغيرها بدون أن تُفضي إلى شيء. هناك أوهامٌ لدى الجانبين باحتكار تمثيل الشعب الفلسطيني وباحتكار الحق بالنطق باسم الشعب الفلسطيني، كل طرف منهما يستند إلى شرعية معينة، أحدهما يستند إلى الشرعية التاريخية والثورية وأحدهما إلى الشرعية الانتخابية والتي كرَّسها كذلك بشرعية المقاومة، وهو ما يشكل تناقضاً غيرَ قابل للتسوية.

إذا عدنا للوراء قليلاً، ومنذ بدء الانتفاضة الثانية عام 2000، جرى الكلام كثيراً عن مشروع وطني فلسطيني مُتوافَق عليه، على الأقل لإيصال الانتفاضة الثانية إلى نتيجة ملموسة مثلما وصلت الانتفاضة الأولى إلى نتيجة ملموسة في أوسلو، طبعاً مع التذكير بأن لأوسلو سياقه الخاص بفترة ما بعد حرب الخليج وانهيار الاتحاد السوفيتي ومؤتمر مدريد للسلام، ولكن لم يتم الوصول لنتيجة بسبب تشبّث الطرفين بعنادهما وأوهامهما. هذه الأوهام تجلّت في هجوم 7 أكتوبر. لا أعرف إن كان هناك شخص جاد يمكنُ أن يصدق أن حلفاء حماس سيتدخلون في اليوم نفسه تلبية لنداء القائد العسكري لحماس محمد الضيف. هل هذا تفكير جدي؟ هل يصدر عن أناس يعرفون ماذا يحدث في العالم حولهم؟ عن أناس واعين لما يجري في المنطقة وحسابات القوى وحسابات الربح والخسارة، وكيف يمكن أن تتصرف مختلف القوى، بما في ذلك المتحالفة مع حماس؟ بتقديري كان هناك وهمٌ لدى العقل الذي صاغ فكرة 7 أكتوبر. كان هناك وهمٌ كبيرٌ عن إمكانات وقدرات الحلفاء سواء إيران أو حزب الله أو أي جهة أخرى. ولكن هذه الأوهام ليست جديدة، إذا عُدنا إلى أواسط الستينيات وألقينا نظرة على الأدبيات التي كانت حركة فتح تُحضِّرها لانطلاقتها المسلحة، حين كتبوا مجموعة أوراق وبيانات ما زالت موجودة، وهي تتشابه بشكل مزعج مع البيانين اللذين أصدرهما محمد الضيف. الأدبيات القديمة والبيانان الحديثان تتشارك جميعها في وهم أن جماهير الأمة ستزحف مع أول طلقة. هذا موجود في أدبيات فتح في الستينيات وموجود في بيانات حركة حماس، كلاهما غير صحيحين، كلاهما يعتمدان على رؤية منفصلة عن الواقع لموقع القضية الفلسطينية عند العرب، لفهم خاطئ لمعنى كلمة عرب أصلاً. من هم العرب؟ العرب ليسوا جسماً واحداً ولا مجتمعاً واحداً ولا دولة واحدة، العرب عشرات الانتماءات والهويات والطبقات والفئات الاجتماعية التي قد لا يجمع بينها شيء.

قادة فتح في أواسط الستينيات راهنوا على ما أسموها استراتيجية التوريط، التي بمعنىً ما ساهمت في إنتاج أسباب حرب 1967، وترى أن كل الشعوب والدول العربية ليس لديها ما هو أهم من صدور بيان من فتح أو من محمد الضيف يدعوها للانضمام للحرب كي تنضم للحرب. العالم ليس هكذا، والعرب ليسوا هكذا، والمجتمعات والسياسات العربية ليست هكذا، هذا تجاهلٌ لوقائع قائمة. وحماس تجاهلت حتى حقيقة حلفائها الذين تبرؤوا من 7 أكتوبر في 7 أكتوبر، وقالوا ليس لنا علاقة بالهجوم، الجهات التي راهنْتَ عليها منذ اليوم الأول تبرأت منك، فما بالكَ بأعدائك.

وما هو تصورك العام لوضع المسألة الفلسطينية في مستقبلها القريب؟ 

تصوري سيء.

من الممكن أن يكون هناك اعترافٌ بدولة فلسطينية، ولكن ما شكلُ هذه الدولة؟ دولة منزوعة   السيادة وأشبه بمنطقة حكم ذاتي وبدون أي سلطات وبدون أي سيادة على أراضيها ومواردها. لا أظن أن موازين القوى حالياً تسمح بالسير خطوة للأمام لتحقيق مصالح الشعب الفلسطيني واسترجاع حقوقه الأساسية.

يجب هنا توضيح مسألة كذلك، التظاهرات والمقالات ومواقف الشخصيات المعارضة للإبادة الإسرائيلية حول العالم لا تستطيع أن تنتج تسوية معقولة، فهذه القوى أضعف بمراحل من أن تُحوِّلَ احتجاجها إلى واقع سياسي أو إلى فعل سياسي. سأضربُ مثالاً كنتُ قريباً منه، وهو مظاهرات تشرين الأول في عام 2019 في لبنان، كنتُ أقول حينها إن مئات الآلاف الذين كانوا في الشوارع لا يملكون فعالية سياسية، وبالتالي حراكهم سينتهي إلى لا شيء، وذلك لسبب غاية في البساطة: عدم وجود أقنية يصبُّ هذا الحراك فيها، أي أن 200 ألف متظاهر في ساحة الشهداء ببيروت سيصوتون في 30 دائرة انتخابية مختلفة، وبالتالي هم ضعفاء في مختلف المناطق وتذهب أصواتهم سدى.

وكذلك الوضع بشأن التظاهرات حول العالم، سواء كان هناك مليون متظاهر في لندن أو 500 ألف في نيويورك، هؤلاء ليس لهم وزن سياسي أو فعالية سياسية، وبالتالي، وبغض النظر عن القيمة الأخلاقية والمعنوية التي تشكلها هذه المظاهرات، إلا أنه من غير الممكن تَجييرُها أو توظيفها في عملية سياسية معقولة.

لا أريد أن أُغرِقَ بالتشاؤم، لكن بسبب السابع من أكتوبر رجعنا خطوات إلى الوراء على المستوى الفلسطيني، و7 أكتوبر كان تعبيراً عن غياب القدرة على تحقيق حلّ، سواء عبر المفاوضات التي اندثرت أو عبر القتال. هاتان الوسيلتان اللتان قامت عليهما الحركة الوطنية الفلسطينية على مدار ستين عاماً انتهتا.

وهل من الممكن لحماس أن تنتهي كما تسعى إسرائيل؟

حماس لديها مبررات وجود تُعبّرُ عن حساسيات معينة، من الممكن أن تستمر بشكل أو بآخر، ولكن ليس بالشكل الذي كانت عليه قبل 7 أكتوبر.

في النطاق العربي، يجري الحديث عن فراغ فيما يتعلق بالوضع الفلسطيني، ويبدو مثيراً للانتباه هذه المرة غياب أي انقسام عربي واضح بشأن ما يجري، حتى التراشق اللفظي المعتاد بين بعض الأنظمة لم يعد مسموعاً.

هناك اتفاق على التعاطف الإنساني، بمعنى أن ما يحدث هو كارثة إنسانية، بيد أن خطورة هذا الموقف أنه ينزع عنها الصفة السياسية، ويُجرِّدها من المعنى السياسي، أي أن هناك مجموعة من البشر يتعرضون للإبادة ونحن كبشر نتعاطف ونتضامن معهم، لكن ليس أكثر من ذلك.

عند الانتقال إلى الحقل السياسي قد تبدأ الخلافات. فالتضامنُ الإنساني هو الحد الأدنى المُتوافَق عليه، لكن الكلام السياسي مختلف تماماً، وهذا بسبب وصول كثير من الدول العربية إلى قناعة باستحالة الاستمرار بالتنمية أو بالحكم القائم في ظل الانقسام الفلسطيني. ليس بإمكانك أن تؤيد طرفاً فلسطينياً ضد آخر، وفي الوقت نفسه أن تنحازَ إلى فكرة عامة عن فلسطين. تنتفي في هذه الحالة الفكرة العامة، إما أن تؤيد هذا الطرف أو ذاك.

وقبل تحميل الأنظمة العربية المسؤولية وتوجيه الاتهامات والشتائم لها بشأن عدم تقديمها العون اللازم وما إلى ذلك، دعنا نرى من أين نَبَعَت هذه المشكلة. نبعت من مصدرين: الانقسام الفلسطيني وكذلك من التناقض الذي ظهر في أوائل السبعينيات بين محاولة الدول العربية «التقدمية» استغلال القضية الفلسطينية ومقولة «القرار الوطني الفلسطيني المستقل»، وهذا المصدر الأخير تسبَّبَ بحروب أشهرها الحرب بين ياسر عرفات وحافظ الأسد. ما أريد قوله هو أنه لا إجماع عربي حول معنى القضية الفلسطينية: هل هي قضية إنسانية؟ هل هي قضية تتعلق بمستقبل الدول العربية؟ الجواب عن السؤال الثاني هو لا. هي بالنسبة للأنظمة العربية قضية إنسانية يمكنُ التعاطف مع ضحاياها ولكن ليس لها مغزى سياسي في المستقبل العربي، وهذا ما يرفض الفلسطينيون الاعتراف به، أنهم لم يعودوا يؤثرون على صياغة المستقبل العربي، لأن كل دولة عربية اختارت طريقها وتَوجُّهها السياسي المستقبلي، وكل هذه الدول العربية أجرت حساباتها على أساس أن لا مكان للموضوع الفلسطيني فيها.

هناك من يرى أن هزيمة 67 مثلاً كانت بداية غير مباشرة لتراجع المد القومي وصعود العواطف والأفكار الإسلامية، وفي مواجهة حدث مفصلي بهذه الضخامة وهذا التأثير كالذي يحدث في غزة، هل تعتقد أن ما يحصل قد يؤدي لتغييرات فكرية وثقافية عميقة على المدى البعيد؟ سواء سلباً أو إيجاباً؟

هذا يُحيلنا على السؤال السابق، موقع القضية الفلسطينية ليس مؤثراً ولا مقرِّراً في المجتمعات العربية ولا في الدول العربية. فكرة القضية المركزية لم تعد موجودة، كل دولة عربية لديها قضيتها المركزية.

خُذ على سبيل المثال الخلاف المغربي الجزائري؛ إذا استمعت لما يقوله الجانبان تخرج بانطباع أن هذا صراعٌ وجودي، قبل فلسطين وغيرها من المسائل. أسباب الخلاف المغربي الجزائري ليست محلَّ الحديث هنا، ولكن القضية الفلسطينية ليست الأولوية، وإنما تُستخدَم عبر اتهامات بالتطبيع مثلاً أو بالانحياز للجانب الإيراني، أي لتسجيل النقاط دون أن تكون محورَ الخلاف.

اختفت تماماً الفكرة القائلة بأن حلَّ القضية الفلسطينية يساهم في تَقدُّم وتنمية الدول العربية، واختفت كذلك فكرة أن إسقاط الأنظمة العربية الموالية للغرب هو الطريق لحل القضية الفلسطينية، وهما فكرتان سيطرتا لوقت طويل على منظمة التحرير وعلى اليمين واليسار الفلسطينيين. القضية الفلسطينية لم يعد لها موقع مركزي في الوعي العربي أو في المصالح العربية.

بعض المواقع والأشخاص ما زالوا يفكرون بالطريقة التي كانت سائدة في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، دون أن يروا ماذا حصل في المجتمعات العربية وما شهدته هذه المجتمعات، من هزيمة 67، إلى الربيع العربي، إلى هزيمة الربيع العربي. هناك من لا يزال يتكلم بشعارات السبعينيات نفسها، وهناك من أدخلَ عليها طريقةَ ما بعد الكولونيالية في التفكير، عبر رمي كل المسؤولية على الغرب واتهام الغرب بتدمير المجتمعات العربية، لكن هذا كله لا ينفي أن المجتمعات العربية تعيش في أزمة، وهي غير قادرة أن تخرج من أزماتها إلا عبر الطرق التقليدية التي تُؤمِّنها وتُمثِّلها الأنظمة القائمة.

ثمة تهمة مُكرَّرة عند الحديث عن التطبيع مع إسرائيل أو إهمال القضية الفلسطينية بأن هذه أنظمة غير شرعية وتمالئ الغرب وتطبق سياساته، لكن يجب النظر إلى نقطتين هنا؛ أولاهما أنه بمجرد وصول أنظمة لا تمالئ الغرب إلى الحكم تحصل كوارث في هذه الدول، والأمثلة كثيرة من صدام حسين لحافظ الأسد لوضع العراق وسوريا حالياً، والثانية أن هذه الأنظمة يصبحُ همها الرئيس بمجرد الوصول للحكم هو كيف تمالئ الغرب.

*    نشرت المقابلة بتاريخ 25 نيسان 2024 على  موقع الجمهورية الالكتروني  / المعارضة السورية

https://aljumhuriya.net/ar/   

Leave a Comment