سياسة

نجاحات الطبقة السياسية المدمرة وأزمة المعارضة واليسار

زكي طه

حثيثاً يتجه الوضع في لبنان نحو المجهول، وسريعاً تتصاعد وتتوسع الأزمات المتفجرة، في وقت بات فيه الحديث عن تشكيل حكومة جديدة لزوم ما لا يلزم، ومعها الاصلاحات الموعودة التي لا مكان لها في قاموس الطبقة السياسية. ولا يختلف عنهما البحث بسائر ملفات الاوضاع الكارثية التي خرجت عن السيطرة في ما يتعلق بمعيشة اللبنانيين، مع تراجع اهتمام الطبقة السياسية الحاكمة بها. لذلك تقدم عليها جميعاً استحقاق انتخابات رئاسة الجمهورية وتحول وسيلة تضليل وتعمية حول المسؤوليات عن انهيار مختلف قطاعات واجهزة الدولة الخدماتية، وسط الاكثار من تبادل التهم حولها. ومع تراجع فرص ترسيم الحدود البحرية الجنوبية، أخذ الاستحقاق الرئاسي يتصدر الحيز الاكبر من المشهد السياسي، باعتباره المؤشر المقرر للوجهة التي ستحكم مسارات اوضاع البلد خلال الفترة القادمة.

غير أن تصاعد السجال بين اطراف الداخل التي تعتقد أنها معنية بهذا الاستحاق، لا يعني مطلقاً أنها المقرر بشأنه، إن لناحية حصوله في موعده، أو في ما خص تحديد اسم الرئيس. لأن الأمر مرتبط بمدى توافق مصالح اطراف الداخل، مع قوى الخارج الدولي والاقليمي المعنية بالشأن اللبناني، في اطار سياساتها وصراعاتها المتعددة الأوجه والساحات في المنطقة وعليها، والتي يظللها جميعاً مسار المفاوضات الاميركية الدولية مع النظام الايراني سواء المتعلق بالملف النووي أو بدوره الاقليمي.

وبصرف النظر عن توقيع الاتفاق من عدمه، فإن التسويات المحتملة وحصة لبنان منها، ليست تحصيل الحاصل. ولذلك فإن الحديث عن الفراغ الرئاسي لم يأت من فراغ، بقدر ما هو نتاج معطيات وحسابات محلية وأقليمية دولية، يتم تداولها علناً في سياق البحث حول ما يترتب عليها من توجهات بشأن لبنان. أما تكرار التوصيات والمناشدات على ألسنة مسؤولي وموفدي دول الخارج وسفرائها، سواء لتنفيذ الاصلاحات أو لحصول الاستحقاق في موعده، فإنها لا تختلف في مفاعيلها عن البيانات والتقارير التي لا تلقى بالاً لدى أركان الطبقة السياسية الحاكمة. وهي التقارير التي تشكل مضبطة اتهام موثقة للسياسات الاحتيالية المعتمدة والمتعمدة من قبلها طوال عقود ثلاث، والتي بموجبها تتشارك المسؤولية الكاملة عن الانهيار الكارثي الشامل، الذي صُنف من بين الثلاثة الأسواء عالمياً منذ 150 عاماً،  وفق ما أكده تقرير البنك الدولي مطلع هذا الشهر.

أما لا مبالاة قوى السلطة الحاكمة حيال التقارير الدولية وما تضمنته  تكراراً من توصيات ومطالب اصلاحية، فإنها لم تعد موضع استغراب أو استهجان لدى اصحابها. ولا يختلف عنها أداؤها الذي لا يقيم وزناً لمفاعيل الانهيار على مصير الكيان وحياة اللبنانيين اليومية ومعيشتهم،  في ظل الفوضى السياسية والامنية الشاملة، وسط تصاعد فلتان مافيات الخدمات وعصابات التهريب وانتاج وتوزيع المخدرات والخطف والقتل التي تتمتع بحماية سلطات الامر الواقع.  في مقابل اضطرار المواطنين اللجوء الى خيارات صعبة لتأمين ما تيسر لهم من خدمات اساسية لا يمكن الاستغناء عنها من خبز ودواء وكهرباء و… أو لاعتماد العنف وسيلة لتحصيل بعض حقوقهم في ودائعهم، كما جرى  في أحد فروع مافيات المصارف، التي تتشارك مع قوى السلطة المسؤولية عن نهب وهدر موارد الدولة وأموال اللبنانيين وافقارهم.

وإذا كانت الطبقة السياسية بمختلف مكوناتها تعرف جيداً عوامل قوتها وكيف تتدبر تقاسم السلطة وتنظيم نزاعاتها وشراكتها، على نحو يديم سيطرتها ويمكنها من إعادة انتاج أدوارها وتجديد بنيتها. ما يبقيها قوى وازنة وحاضرة في الصراع الداخلي بانتظار موسم التسويات الممكنة دولياً واقليمياً التي تقرر حصة لبنان منها. خلافاً  لرغبة بعض النخب التي تبحث عن ادوار لها عبر رفع شعار “تحرير لبنان من الاحتلال الايراني”، وقد فاتها أن دعوات التحرير الخاطئة تهمش اصحابها وتعزز مواقع خصومها-الاعداء. ولا يختلف عنهم بعض الجهات الطائفية التي لازالت مسكونة بأوهام اهتمام الخارج بوجودها، لذلك تجدها  تتنقل بين المطالبة بالسيادة والحياد والفدرالية في مواجهة قوى طائفية تستغل فائض قوتها، كما تُحسن الاستفادة من تلك الشعارات لتبرير هيمنتها. وقد تاه عن هؤلاء جميعاً أن سياسات الدول هدفها خدمة مصالحها أولاً وآخراً، وليس تلبية طلبات بعض الاقليات العرقية او الطائفية هنا أو هناك. وهي التي لم تفلح في تثبيت وحماية وجودها من خلال السعي لبناء دولة المواطنة بديلاً عن رفع راية حقوقها الفئوية. ما يعني أن استحضار تلك الشعارات ليس حلاً لاشكالياتها بقدر ما هو تعبير عن عجز نخبها على استخلاص دروس التجارب السابقة، وسط هروبها المستدام من الحلول الصعبة إلى المستحيلة والمدمرة في آن.

والحديث عن الصعوبة يتمثل في واقع المعارضة المأزومة، باعتبارها البديل المفترض عن الطبقة السياسية التي تتشكل من منظومة قوى الطوائف التي تعرف أهمية نظام المحاصصة، كما تتقن السياسات التي تكرسه باعتباره حاجة لها. هذا عدا اتقانها للممارسات والاساليب التي تجعل ولادة وتشكل وتجذر البديل  الديمقراطي والوطني العابر للطوائف والمناطق كافة، يكاد يكون مستحيلاً.  وهو البديل المجتمعي الذي  يجمع ويؤطر الفئات ذات المصلحة في بقاء البلد وانقاذه، من خلال وجود دولة ضامنة للحقوق والواجبات.  دولة قادرة على تنظيم الصراع الاجتماعي وعقد التسويات القابلة للحياة والتطور في آن.

وأزمة المعارضة في هذا السياق، متعددة الأوجه ولا يختصرها صعيد بعينه. هي تبدأ من استهانة مجموعاتها وقواها بالانقسام الاهلي الطائفي والمناطقي والعشائري الذي يشكل ركيزة نظام المحاصصة، ومبرر وجود قواه. والاستخفاف بالانقسام الاهلي هو  أحد اسباب هامشية المعارضة وهزال قواها في مواجهة الكتل الطائفية الوازنة، التي لم تزل احزاب الطوائف  قادرة على استقطابها. والهامشية في هذا السياق هي نتاج الهروب الى ميادين “النضال” الاعلامي، وتنظيم التحركات التي لا تقدم أو تؤخر، بعيداً عن البحث الجاد في سبل بناء قنوات التواصل مع الفئات المتضررة، سواء التي كانت تتشكل منها الطبقة الوسطى بمختلف تشكيلاتها المهنية، أو الفئات الدنيا التي تضم حشود الموظفين والعمال والمستخدمين والاجراء وصغار المزارعين في الارياف المنسية، والتي تسحقها مضاعفات الانهيار، وتبقيها أسيرة اولوياتها اليومية في البحث عن سبل تأمين أبسط مقومات الحياة من خبز ودواء وماء وكهرباء، دون أن تجد من يعبر عن حقوقها في العيش بالعلاقة معها.

والكلام في أزمة المعارضة وتحديات بناء الكتلة الشعبية استنادا إلى اولويات حقوق ومطالب الفئات المتضررة وتشكيل الاطر المعبرة عنها، وصولاً إلى اعادة تأسيس حركة معارضة ديمقراطية تعددية متنوعة، يمكن لها أن تشكل  البديل الديمقراطي الجامع في مواجهة نظام المحاصصة الطائفية والمنظومة الحاكمة، يطرح على نحو صريح أزمة قوى اليسار وتشكيلاته. سواء تلك التي لا تزال تبحث عن مصادر الأزمة في غير اماكنها وحصرها بالقطاع المصرفي، أو التي تستمرىء الاقامة في الماضي وتجاربه الفاشلة، ما يجعلها تخوض معاركها مع ذاتها او في مواجهة ما يحتاجه البلد من تواصل وحوار بحثاً عن مخارج انقاذية هي صعبة بالتعريف، ولا يفيد فيها برامج وشعارات التغيير الجذري المعلقة في الفراغ.  أو التي تفتقد للامكانات التي تجعل حضورها فاعلاً.

يعني ذلك أن البحث في صعوبة الانقاذ وأزمة القوى المعنية به، هو بحث في أزمة  قوى اليسار ودورها، ومدى قدرتها على الخروج من المأزق الذي أدمنت الاقامة فيه، بعيداً عن  المبادرة إلى إعادة بناء قواها وموقعها، وتجديد فعاليتها سواء في ميادين النضال الاجتماعي والسياسي، أو على صعيد المساهمة في انتاج ثقافة سياسية  ديمقراطية مجتمعية تتصدى لثقافة الانقسام الاهلي بشتى تجلياتها، والتي تنتجها قوى الطوائف لتبرير سياساتها وادوارها ونظامها المنتج للأزمات والصراعات المدمرة.

Leave a Comment