سياسة

الأزمة السياسية في العراق بين “فسطاطي” التيار الصدري والائتلاف الايراني

زاهي البقاعي

تتلاحق المحاولات السياسية والدبلوماسية الداخلية والخارجية لتلافي انفجار الصراع بين “فسطاطي” انصار التيار الصدري بزعامة مقتدى الصدر و”الائتلاف التنسيقي” بزعامة نوري المالكي المدعوم من ايران. ومع أن الأول تخلى عن الدعوة إلى التظاهرات المليونية في بغداد وباقي المدن العراقية هذا الاسبوع، الا أن ذلك لم ينزع فتيل الأزمة المستحكمة، بدليل استمرار المواقف المتباعدة مما طرحه لإنهاء التحرك، مشترطاً انتخابات عامة يلتزم الجميع النزول عند نتائجها. يحدث هذا فيما الاختناق السياسي، وإن كان أكثر بروزاً داخل المكون الشيعي تحديداً، الا أنه على الصعيد الفعلي يلف البلاد من أقصاها إلى أقصاها، ليس فقط على الصعيد السياسي فحسب ، بل يشمل كل الفئات والشرائح والقطاعات دون استثناء. حتى أنه يمكن القول إن البلاد فعلاً على حافة انهيار كامل وانفجار يتجاوز السياسي إلى الاجتماعي والمعيشي. وهو أمر يعتمل في العراق منذ أشهر طويلة دون أن يصل إلى حدود الانفلات الأمني الشامل في بلد يشهد وجود تنظيمات ميليشسياوية بالعشرات، ومسلحة بأحدث الأسلحة.

وخلال الأسابيع المنصرمة، وعلى ايقاع تظاهرات من الفريقين بدت نذر نشوب الاقتتال واضحة، دون أن تنفجر المواجهات في الشوارع، التي رابط فيها أنصار الفريقين في وسط العاصمة العراقية. وهنا يسجل لحكومة مصطفى الكاظمي دورها في الفصل بين الفريقين، وضمان استمرار التعبير السلمي عن المواقف التي بلغت حدود التناقض. والملفت في التحركات دخول قوة ثالثة في الصراع من خلال نزول مجموعات من التيار المدني إلى الشارع، لتأكيد حضورها المختلف عن الاستقطابين الرئيسيين اللذين يقسمان البلاد، ويهددان بالحرب الاهلية التي يتهم أنصار التيار الصدري الائتلاف بالعمل على جر البلاد إلى محرقتها.

ومن المعلوم أن أزمات البلاد تتراكم على نحو تصاعدي منذ سنوات، ما أدى إلى اندلاع تظاهرات شبابية آخرها وقع في تشرين الاول من العام 2019 تطالب بتأمين الخدمات العامة البديهية، وتحسين الأوضاع المعيشية والصحية والتعليمية، وتأمين الوظائف للعاطلين عن العمل، وتخفيف حدة الهوة التي تفصل بين طبقات وشرائح المجتمع بعد أن بات أكثر من 80% منه تحت خط الفقر. وهي التظاهرات التي استمرت عدة أشهر وفقد خلالها المتظاهرون أكثر من 700 شاب جرى قتلهم أو اغتيالهم، دون أن تأخذ العدالة مجراها في القبض على الجُناة، وبعضهم معروفين بالاسم، ومحميين من قوى وسلطات الأمر الواقع، إن لم يكونوا من مكوناتها. يضاف إلى هؤلاء نحو 27 ألف مصاب بالرصاص وغيره من أساليب القمع. وهي المواجهة التي اسقطت حكومة عادل عبد المهدي، وأفسحت المجال لقيام حكومة مصطفى الكاظمي، التي أشرفت على إجراء انتخابات مبكّرة تحت ضغط الشارع، فكانت انتخابات العام  2021 في أكتوبر/ تشرين الأول، التي أفرزت أكثرية جاءت لصالح التيار الصدري متحالفاً مع المكونين السني والكردي،  من دون أن يتمكن من تشكيل حكومة أكثرية كما كان يرغب زعيمه مقتدى الصدر. وبهدف محدد هو إزاحة “الإطار التنسيقي” عن المشاركة في تشكيل الحكومة، باعتبارها حكومة أكثرية، مقابل معارضة الأقلية في البرلمان. وهي المحاولة التي أفشلها ” الاطار” بتحالفاته، مصراً على عودة الأمور إلى سابق عهدها بتشكيل حكومات توافقية يعمل على شل قدراتها من الداخل. ما دفع بالصدر إلى الاعلان عن استقالة نواب تياره من البرلمان ( 73نائباً)، وهي الفرصة التي استغلها الاطار ليضع بدلاً منهم نواباً خسروا في الانتخابات العامة من الموالين لخطه، وهي خطوة أولية دفعت بأركان الاطار إلى البحث في تشكيل حكومة من “عصبيته” السياسية، وعزل المكونات الأخرى، ولاسيما التيار الصدري، الذي رد  بدعوة جموع المؤيدين له إلى اقتحام المنطقة الخضراء، والاعتصام داخل المجلس النيابي، وتعطيل الحياة البرلمانية، مؤكداً عدم الخروج منه قبل اقرار التوجه نحو انتخابات عامة.

وهنا برزت العقبة الدستورية واضحة أمام مسعاه ، فتحول نحو مجلس القضاء الأعلى، الذي رد على الطلب منه اتخاذ قرار قضائي يقضي بحل البرلمان قائلاً إن مثل هذا الأمر ليس من صلاحياته. وكي لا يبقى الميدان حكراً على الصدر وتياره، نزل الفريق الآخر إلى الشارع الذي ازدحم بالطرفين المتضادّين، وكل منهما يبحث عن نصر، يعتقد طرفاه أنه إن جاء من الشارع فقد يمنحهما الشرعية، بعدما يتيقن الجميع أن لا شرعية لأحزاب السلطة الحاكمة في العراق، حتى لو جاءت عبر صناديق الاقتراع، لأن هوية النظام السياسي التي تشكلت بعد الاحتلال الاميركي للعراق عام  2003 لا تعترف بصناديق الاقتراع، قدر اعترافها بالتوافقات والتفاهمات بين قواها أو مكونات البلاد السياسية – الطائفية، وهو ما أراد مقتدى الصدر التخلص منه، لصالح أكثرية تحكم  متحالفة مع مكونات غير شيعية ( سنة واكراد) وأقلية تعارض.

وبالطبع أدلى مع نوابه والناطقين باسمه بمطالعات حول مدى تجذر الفساد في البلاد خلال قيام هذا النمط من الحكومات التوافقية، إلى الحد الذي فقدت فيه البلاد كل مقومات الحياة بعد نهب موازنة الدولة وتوزيع المشاريع مغانم على الأنصار والمحاسيب، مقابل تقاسم الارباح دون تنفيذ الحد الأدنى منها، سواء تعلق الأمر بالطاقة الكهربائية أو شبكات المياه والطرقات والمواصلات العامة، ناهيك بالمناطق المدمرة في المحافظات. وزاد الطين بلة كارثة الجفاف بفعل عملية السدود وتحويل كل من ايران وتركيا الأنهر التي تنبع منهما عن مصبها في دجلة والفرات. وتضرب حالة الجفاف مناطق الاهوار في العديد من المحافظات العراقية. وقادت إلى بوار الزراعة وتدمير الثروة الحيوانية والصيد وغيَّرت معالم البيئة، ووصلت حدود التأثير على مياه الشرب. وكل هذا فاقم من تدهور الاوضاع الاجتماعية للغالبية من العراقيين.

واذا كان التيار الصدري قد رفع شعار مواصلة الاعتصام في المنطقة الخضراء حتى حل البرلمان واجراء انتخابات برلمانية مبكرة، فقد تبين أن تأييد بعض القوى في الائتلاف للتوجه نحو هذه الانتخابات كان ملغوماً، بدليل أن الشروط التي جرى وضعها تباعاً للموافقة عليها، يجعل إمكانية تحقيق مثل هذه الخطوة من المستحيلات، ولذلك تذرَّع هؤلاء بالدستور، وما تنص عليه مواده من ضرورة موافقة المجلس النيابي على حل نفسه، وهو أمر غير وارد البتة في حساب مثل هذا الفريق، الذي تعنيه في المقام الأول مواقعه في السلطة وتجديدها باستمرار، أكثر مما تعنيه مصلحة البلاد، وخروجها من النفق المظلم الذي تجتازه، والذي ينذر بأوخم العواقب على مختلف الصعد. وهكذا في مثل أجواء الصراع تشلعت مؤسسات الدولة على نحو شبه كامل ، فلا رئيس للجمهورية، والحكومة مستقيلة وتواصل تصريف الاعمال، واشرافها على الانتخابات المطلوبة مرفوض من جانب الائتلاف، ومجلس النواب معطل ومطعون بمشروعيته من جانب الخارج، والداخل الذي ذاق الهوان نتيجة منظومة المحاصصة، وما تفرزه من فساد سياسي ومتفرعاته على شتى الصعد.

تدخلت ايران مبكراً من أجل ضبط الاضطراب عند حدود لا يتعداها، وأوفدت قائد الحرس الثوري اسماعيل قاآني الذي حل محل قاسم سليماني للقيام بمهمة ضبط الامور بما لا يخرج عن هيمنتها، وبعد مباحثات لم يكتب لها النجاح عاد أدراجه دون تحقيق نتائج تذكر. لاسيما وأن الشارع العراقي كان قد حمّل المسؤولية لايران والقوى التابعة لها عن الخراب العظيم الذي يعيشه البلد على مختلف المستويات والصعد. خصوصاً وأنها في ذلك الحين كان تخوض معترك مباحثات فيينا مع الدول الاوروبية والولايات المتحدة، ويهمها هدوء مناطق نفوذها، وخصوصاً العراق كونه البوابة الغربية المفتوحة على الداخل الايراني، الذي يشهد بدوره تحركات في الشارع تحت وطأة الأزمة الاقتصادية – المعيشية. لكن فشل التدخل الايراني لضمان انضباط العراق بكليته ضمن استراتيجيتها، لم يمنع بدوره الأمم المتحدة عبر رئيسة بعثتها جينين بلاسخارت من تكرار المحاولة مع مقتدى الصدر لتجنيب تدهور الاوضاع إلى حدود يستحيل معه ضبط تفاعلاتها. وارتكزت مبادرة المبعوثة الأممية على دعم إجراء الانتخابات المبكرة التي يريدها الصدر، لكن وفق اتفاق سياسي على موعدها ومن يديرها وبأي قانون. ولذلك عملت المبعوثة الأممية على فتح قنوات حوار مباشرة ما بين التيار والإطار للوصول إلى اتفاق بشأن المرحلة المقبلة. وضمن هذا السياق اتت المحاولة التي تولاها رئيس تحالف الفتح هادي العامري، وهو مكِّون رئيسي في الائتلاف، ومفوض منه للحوار مع مقتدى الصدر وباقي المكونات. والأهم كان المسعى الذي بذله رئيس الحكومة مصطفى الكاظمي من خلال دعوته جميع قوى المشهد العراقي إلى الدخول في حوار معمَّق حول أزمة العراق ينتج عنه توافقات على الحد المطلوب للخروج من المأزق، الذي يهدد بشرذمة اضافية للبلاد أكثر مما نجحت فيه “الهندسات السياسية” منذ عهد المفوض الاميركي بريمر مروراً بالسياسات الايرانية بعد الاطاحة بالرئيس صدام حسين.

لكن المعضلة تتمثل في أن شخصية الكاظمي مرفوضة من الائتلاف، الذي يتهمه بالتحيز إلى جانب التيار الصدري خلال الانتخابات الأخيرة. أما خوض انتخابات جديدة فيرى الائتلاف أنه يتطلب تشكيل حكومة جديدة واتفاقا سياسياً بين كل الكتل والأحزاب، ولا يمكن فرض هذا الأمر من قبل جهة سياسية واحدة، فمصير البلد مسؤولية الجميع. وتحتاج هذه الخطوة إلى تعديل قانون الانتخابات البرلمانية، خصوصا أن هناك تعديلاً ملزماً من المحكمة الاتحادية خاصاً بالعد والفرز وقضية الكوتا، كما أن هناك رغبة سياسية في مراجعة شكل النظام الانتخابي المتعلق بالدوائر الانتخابية، فهذا الأمر أيضا يحتاج إلى توافق سياسي، وليس فرض أمر واقع من قبل جهة على كل الجهات الأخرى. بالمقابل يؤكد التيار الصدري أن حكومة الكاظمي لا شيء يمنعها من الاشراف على انتخابات تجري وسط أجواء خالية من السلاح الميليشياوي والمال الانتخابي، إذ إن الامكانية الدستورية والقانونية متوافرة ضمن مسؤولية الحكومة الحالية. ومن المعلوم أن الكاظمي خلال الدور الذي لعبه داخلياً لصالح إعادة الاعتبار لمؤسسات وقرارات الدولة المركزية، وعربياً على صعيد الوساطة الايرانية – السعودية، ومشاركته في العديد من القمم في القاهرة وعمان، بدا وكأنه يغرد خارج السرب الايراني، وبعدها تعرض لمحاولة اغتيال بواسطة طائرة مسيرَّة استهدفته في منزله.

دون مزيد من الشرح يمكن القول إن حل الأزمة كما يبدو راهناً هو خارج متناول الاطراف الداخلية، بدليل الوساطات الخارجية من قبل إيران أو بعثة الأمم المتحدة وغيرها من الأطراف الأخرى ذات البصمات الحاضرة، خصوصاً وأن أنصار التيار الصدري سيبقون في المنطقة الخضراء لفترة لا يعلمها سوى الله والراسخون في العلم من جهة، ومن جهة ثانية فلن يوافق الائتلاف على تسليم رقبته لهذا التيار، مطمئناً إلى الدعم الايراني، الذي يعتبر وجوده في مواقعه السياسية الرئيسية بمثابة خط دفاع رئيسي عن الرئيس رئيسي ومجمل النظام الحاكم في طهران، وفي المقدمة منه المرشد الأعلى. ما يعني أن التفاوض السياسي سيتقرر في الشارع، وليس في أي مكان آخر رغم حالات المد والجزر التي يشهدها الآن.

Leave a Comment