محسن إبراهيم

محسن إبراهيم…متعة اللقاء والموقف

الدكتور سعيد عيسى*

ليس غريبا على فتى قادم من كنف واحدة من العائلات الدينية ذات الحضور التاريخي في جنوب لبنان، حمّالة لسلالات علمائية تاريخية، أن ينتسب إلى حركة القوميين العرب، ولمّا يتخطى السابعة عشر من عمره. لا بل ويتصدّر مشهدها، ويتقدّم صفوفها، وينتقل من رحاب الفكر الديني إلى رحاب الفكر القومي العربي، ومنه نحو رحاب الفكر الماركسي، ويحجز له موقعا متصدرا فيه رافقه طيلة حياته. لا بل وينجح، في إقامة صلة، ويحجز له مكاناً إلى جانب أبرز متصدري مشهد القومية العربية الرئيس الراحل جمال عبد الناصر. ولاحقا يوجه النقد للفكر القومي، ويتحوّل نحو الماركسية ويتصدر مشهدها أيضاً مع رفاق له تحولوا كما تحوّل هو.

محطتان بارزتان كانت لهما أثر في حياة أبو خالد وجعلته لاحقا على ما صار عليه، لا يذكران إلا لماماً، الأولى انتقاله للعيش في مدينة صيدا وهو فتى ليدرس في ثانويتها، وهي أي الثانوية فتحت الباب له للدخول إلى عالم السياسة والفكر من بابهما العريض. في الثانوية تعرف على أقران له، وبعضهم رافقه في مسيرته السياسية والفكرية طوال حياته. رافقوه في حركة القوميين العرب وانقلبوا معه إلى الماركسية. وثانيهما دوائر السياسة التي كانت تحكم المدينة وعلاقاتها العربية، من خلال العائلتين اللتين كانتا تدوران في دوائر العلاقات السياسية العربية، وتترك تأثيرها على المدينة وناسها، وأعني بهما آل البزري وآل سعد.

كان الصراع المحلي بين عائلتي البزري وسعد، مماثل للصراع بين العائلات المتوسطية في صقلية والروابط القرابية التي تترابط فيها، كما تأثرت العائلتان أيضاً بالروابط العشائرية العربية التقليدية. كان آل البزري يمثلون أشكال الحكم التقليدية الموروثة منذ العهد العثماني، وعُرفوا بدعمهم للساسة التقليديين من آل الصلح وسلام، ويجتذبون إلى صفوفهم تأييدا ودعما غالب عائلات الطبقتين الوسطى والعليا في المجتمع الصيداوي، وقليل من العائلات الدنيا والفقيرة. بينما آل سعد مثلوا الطبقة الدنيا والعائلات الصيداوية البسيطة والفقيرة، إلى جانب القليل من عائلات الطبقتين الوسطى والعليا. ومثلوا أيضاً الحركة القومية العربية الناهضة في تلك الفترة.

في هذه الأجواء نما فكر محسن إبراهيم مصحوباً بما نمت به نفسه من عائلته الدينية تنشئة ورعاية وعلاقات أهلية قرابية وقروية ورقابية. كانت صيدا – المدينة هي باب انتسابه إلى السياسة وانطلاق فكره وتحرره من الرقابة الأهلية، ومطلقة لعشقه ولحلمه التغييري إلى أبعد حدود. وجعلت منه لاحقاً أحد أبرز قادة اليسار في لبنان والعالم العربي، وأعطته قدرة مبدعة على التواصل والتنظيم، ومدت نشاطاته إلى اليمن والجزائر ومصر وعموم العالم العربي، بالإضافة إلى لبنان وعشقه للقضية الفلسطينية التي لم تفارق وجدانه يوماً.

تميز أبو خالد بقدرة فائقة على إدارة الاختلاف، وبراعة وقدرة سياسيتين، وجلد تنظيريّ إلى حدّ السطوة، والمقدرة الفائقة على صياغة مواقف سياسية لا يسع المتناقضين، وحتى المتصارعين إلا الموافقة عليها. تجلت قدراته تلك ضمن حركة القوميين العرب، وفي ارتباطه بالناصرية والكفاح ضد الاستعمار، وفي مراجعته لأفكاره ونقده الناصرية والقومية على ضوء هزيمة ١٩٦٧، وفي التحوّل نحو الماركسية، وتأسيس منظمة العمل الشيوعي، والخروج بيسار ثوري من نوع جديد، وفي الحركة الوطنية اللبنانية وتناقضاتها، ومع القوى الفلسطينية وتناقضاتها أيضا.

كان لدى أبو خالد قدرة على اتخاذ المواقف الثورية والسير بها في عزّ الانكسار والهزيمة كما فعل بعد هزيمة ١٩٦٧، وفي ١٦ أيلول ١٩٨٢ عندما أطلق مع رفيق دربه جورج حاوي جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية. كما كان الأقدر على المراجعة والاعتذار. وهي ثقافة قلائل هم من يتمتعون بها، واستطاع أيضاً أن يخرج السياسة من ثقافة القتل، والحرب، واستسهال ركوب موجتها تحت وهم الديمقراطية والتغيير.

المرة الأخيرة التي التقيت فيها أبو خالد كانت في نيسان ٢٠١٨ قبيل إجراء الانتخابات النيابية، وكنا نتدارس الترشّح للانتخابات النيابية التي لم تكن هدفا بحدّ ذاته، إنما كانت مناسبة لإعادة استنهاض الوضع الديمقراطي في الجنوب من خلال حركة الانتخابات واللقاءات التي ستتم بمناسبتها، وبعدها، وكان مبارِكاً ومتحمّسا ومشجّعا لتلك الحركة، التي كان يقدّر لها آنذاك أن تستمرّ بعد الانتخابات، لترسي واقعاً جديداً يعيد لمّ شمل الجنوبيين الديمقراطيين  كي ينخرطوا معاً في حالة الاستنهاض، وينظموا صفوفهم بغضّ النظر عن خلافاتهم واتجاهاتهم السياسية أو الفكرية، لكنّ تدهور صحة أبو خالد منعه من المتابعة معنا في تقييم تلك الحركة يعيد إجراء الانتخابات، وما وجدناه من شرذمة وتنازع ويأس لدى الديمقراطيين.

كنا بحاجة لأبو خالد كي نقيِّم معاً ذلك الوضع المنكسر، لنستفيد من تجاربه وإمكانياته وخميرته وخبراته المتراكمة خصوصا في مراحل الانكسار. لكن ملاك الموت كان بالمرصاد ولم يترك لنا متعة اللقاء به.

سلام لروحك الطاهرة المعطّرة بالحبق والياسمين يا أبا خالد.

*كاتب وباحث لبناني

Leave a Comment