محسن إبراهيم

عن محسن ابراهيم والاحترام للذات والتاريخ

يوسف بزي*

لست أدري كيف وجدت نفسي، ذات يوم من العام 1983، واقفاً هناك في حشد ضئيل من الشبان أمام مركز الحركة الوطنية في وطى المصيطبة، ننشد “عليها علي عليها.. ملعون لبدّو يلويها، حق لبيجمع جمّعنا”. كنا نغني بحرقة الشعور بالهزيمة، كما بحماسة الرفض والتحدي، حين فجأة أطل علينا ذاك الرجل الضئيل، الذي يكاد يداري خجله، من غير أن ترتبك عيناه الحادتان وهو يرمقنا واحداً واحداً.

كان ذاك هو لقائي الأول بأبو خالد، والذي كان أشبه بمراسيم وداع زمن الحركة الوطنية وانصرامه.

بعد ذلك، وطوال عقد انقضى لم أسمع شيئاً تقريباً عن محسن ابراهيم، سوى أنه ما زال في بيروت، رغم كل المطاردات والاغتيالات التي أطاحت باليسار، وبالذين رفضوا الانصياع لسيد دمشق ومفارز مخابراته.

كان صمته آنذاك، إصرار على أنه ومنظمته أصبحا خارج الحرب الأهلية بقرار ذاتي فادح الكلفة. إلقاء السلاح قبل مجيء السلم. وعنى هذا، خصوصاً بعد تصفية “المقاومة الوطنية”، أنه ورفاقه سيكونون خارج الحفلة الهائلة والمديدة التي تلت اتفاق الطائف، حين راح الآخرون يمضغون نعمة السلطة بشراهة تاريخية.

في مطلع التسعينيات سأدخل منزل أهل زوجتي وأجده بغتة في الصالون، بالبدلة “السهريان” نفسها التي كنت أتخيله دوماً يرتديها، والدالة على قيافة السبعينيات والثمانينيات. تتدلى المسبحة من يده، فيما تلك الشرايين تنبض نافرة في صدغه. وكانت تلك أيام “بيروت المساء” الاستثنائية، الصوت الاعتراضي شبه الأخير ليسار لم يخن ذاكرته ولا تخلى عن حساسيته. راح بعبارات قليلة شديدة السخرية يصف ما يفعله حافظ الأسد في مفاوضات السلام لخطف القضية الفلسطينية باسم وحدة المسارات. لم أنس ذاك النوع من السخرية المُرّة، كما لو أنها أعلى مراتب السياسة.

في ذاك البيت سألتقيه مرات قليلة، وبالصدفة أيضاً، حين يأتي ليتسامر مع الراحل عاصم الجندي، ويتبارزا معاً في لعبة النميمة والنقد المرير. ومرة واحدة تجرأت وسألته عن معنى استمرار الشيوعيين بشيوعيتهم بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. بدا واثقاً من جوابه الذي حسب ما أذكره، أن الشيوعية “تحررت” أخيراً من التجربة السوفياتية، لكنها في بلادنا لم تتحرر بعد من “البعث”.

رأيت صورته في تلك الحقبة جالساً في المختارة بجوار وليد جنبلاط. فقط وجوده وظهوره في الصورة بدا حدثاً سياسياً، أراده جنبلاط في ساعة تحدٍ سياسيٍ خطير. لم يعزه بيان ولا تصريح، فقط أن ينشر صورة مع أبو خالد لتصل الرسالة التي ستستفز مكاتب عنجر والبوريفاج ودمشق نفسها.

في منتصف التسعينيات أيضاً، سرت في بيروت روح يسار شبابي جديد راح يأتلف مجموعات متباينة، عدا أولئك الذين خرجوا من الحزب الشيوعي، أو الذين كانوا في منظمة العمل الشيوعي، وها هم يستشعرون رغبة إيقاظ اليسار اللبناني مجدداً.

رفض محسن ابراهيم آنذاك أن يصطنع “إعادة تأسيس” أو أن يتقدم إلى علنية التعبئة اليسارية الجارية. كان أكثر توقيراً لمعنى الزمن ومعنى نهاية الأطوار وتباين الأجيال، مقتنعاً أنه قائد في الماضي، محارب متقاعد في الحاضر. وكان مستأنساً بدوره الخفي، الذي يجعله مجرد “ناصح”، كأن يرمي فكرة في أحضان رفيق قديم بات مستشاراً عند رفيق الحريري، أو يسدي ملاحظة في الهاتف ليساري سابق أضحى وزيراً محسوباً على نبيه برّي، أو أن يشاوره جنبلاط بخطوة سياسية ينويها.. أو أن يجيب جورج حاوي في مسألة حساسة.

كان هذا الدور خدعة محسن ابراهيم ضد سلطة عنيفة. سلطة كانت تبحث عن أي ذريعة لتصفيته. لكن أيضاً كان دوراً ارتضاه لنفسه، احتراماً للوعي بالتاريخ، وبأنه ابن مرحلة كانت خواتيمها في أيلول 1982.

هذا الاحترام للتاريخ وللذاكرة وللذات هو الذي جعله خارج ذاك الحفل الشره المستمر لأهل السياسة في لبنان.

* كاتب وشاعر وصحافي لبناني

Leave a Comment