صحف وآراء

لا يزال من الممكن إبرام صفقة في سوريا

لكن على واشنطن أن تكف عن تجاهل النزاع ونتائجه التي تزعزع استقرار الشرق الأوسط

*جيمس جيفري 

الخميس 16 ديسمبر 2021

لا تزال الحرب في سوريا جرحاً متقيحاً في قلب الشرق الأوسط، بينما يركز الرئيس الأميركي جو بايدين وفريقه على الملف النووي الإيراني. وعلى الرغم من أن الإدارة الحالية لم تخرج على نحو دراماتيكي عن نهج الإدارات السابقة، فإن قرارها بعدم إدراج الصراع السوري في قائمة أولوياتها يأتي في وقت سيئ للغاية. إن فرص الحل للأزمة السورية سانحة حالياً، ويجدر بالولايات المتحدة أن تكرس القدر اللازم من النشاط الدبلوماسي لاغتنام هذه الفرص. وإن مفتاح النجاح في ذلك بعد سنوات من الإخفاق لا يقتصر فحسب على الضلوع على مستوى رفيع وكبير، بل يتضمن أيضاً تقييماً واقعياً لما يمكن تحقيقه في أي صفقة.

ينطوي إبقاء سوريا بعيداً عن صدارة الاهتمامات على مجازفات كبيرة. إن النزاع السوري هو سلفاً في مصاف فشل استراتيجي كامل، فانتصار الرئيس بشار الأسد من شأنه أن يوجه رسالة إلى كل المستبدين في العالم بأن القتل الجماعي تكتيك قابل للاستعمال من أجل الحفاظ على السلطة، كما سيؤشر إلى تعاظم نفوذ داعميه الروس والإيرانيين على المستوى الإقليمي. ولقد تمخض هذا الصراع عن تهديدات جيوسياسية، بدءاً ببروز “داعش”، مروراً بنشر الصواريخ الإيرانية الدقيقة التي تستهدف إسرائيل، وصولاً إلى سيول اللاجئين الضخمة التي تهدد بزعزعة استقرار الدول المجاورة وأوروبا. وأدت الحرب الأهلية المستمرة منذ عقد من الزمن إلى وقوع خسائر مروعة، وتشريد نصف سكان البلاد من ديارهم، كما أودت بمعظم السوريين إلى براثن فقر مدقع. وإذا تركت هذه الديناميكيات كلها لمصيرها من دون معالجة، فإنها تهدد استقرار الشرق الأوسط في السنوات القادمة.

وقد جرّت الحرب السورية أيضاً قوات أميركية وإسرائيلية وتركية، إلى ميادينها، وإن خطر وقوع اشتباكات بين هؤلاء، من جهة، وبين القوات الروسية والإيرانية والسورية من جهة أخرى، هو خطر حقيقي للغاية. وتنظر واشنطن إلى جيب “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) في شمال سوريا كحليف مهم ضد داعش، لكن أنقرة تعتبر أن هذه المجموعة الكردية تمثل تهديداً إرهابياً. ووقع أخيراً حادثتان استفزازيتان – نجم أولاهما عن انتهاك الأسد في يوليو (تموز) 2017 وقف إطلاق النار في الجنوب الغربي، وهو اتفاق كان الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب قد تفاوض عليه مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين. والثانية، الهجوم الذي شنه مقاتلون مدعومون من إيران في أكتوبر (تشرين الأول) ضد القوات الأميركية في قاعدة التنف في جنوب سوريا. وكلا الاستفزازين لم يلقَ رداً أميركياً يذكر، ما قد يشجع الأسد  والإيرانيين على التصعيد في المناطق، حيث تسيّر فيها القوات التركية أو الأميركية دوريات. يذكر، ما قد يشجع الأسد أو  الإيرانيين على التصعيد في المناطق، حيث تسيّر فيها القوات التركية أو الأميركية دوريات.

وأشار كبار المسؤولين في إدارة بايدن مراراً وتكراراً إلى أنهم كانوا غير مهتمين ببذل جهود كبيرة من أجل حل النزاع السوري. ومع تغير الوضع وبدء تبلور معالم تسوية محتملة، من الضروري أن يعيدوا النظر في هذا القرار. وعلى الرغم من أن شاغل الولايات المتحدة في مسألة إيران هو المفاوضات الحاسمة حول البرنامج النووي بدلاً من أنشطة طهران الإقليمية، على الإدارة أن تنخرط بجدية أكبر في سوريا بمجرد أن تتضح الصورة بالنسبة إليها أكثر حول تلك المباحثات. إن مخاطر تجاهل الصراع، والفوائد المرجوة من التوصل إلى صفقة [حل]، كبيرة جداً إلى درجة لا تسمح بإهدار الفرصة.

فلنُبرم صفقة

يجب أن توجه الولايات المتحدة دفة كل جهد دبلوماسي يستأنف بهدف التوصل إلى تسوية للأزمة السورية. فعلى الرغم من أن أي اتفاق يجب أن يكون منسجماً مع الدور الرسمي الذي تلعبه الأمم المتحدة، فإن واشنطن هي الوحيدة التي يمكنها أن تنسق بين العديد من أعضاء التحالف المضاد للاسد. وروسيا هي المحاور الوحيد الذي يعتد به بالنسبة إلى الولايات المتحدة في هذه المفاوضات. وإن جميع أولئك الذين حاولوا عقد صفقات مباشرة مع الأسد منذ عام 2011، قد خابت آمالهم على الدوام. وترفض إيران تناول أنشطتها مع دول من خارج المنطقة بخصوص ما تفعله في دول مجاورة.

وإذ لا تتمتع روسيا بسيطرة كاملة على الأسد ويتعين عليها أن تتنافس على النفوذ مع إيران، غير أنها تبقى الشريك الأكبر في التحالف الروسي – السوري – الإيراني. كما أن لموسكو أيضاً طموحات محدودة أكثر من طموحات دمشق أو طهران، الأمر الذي يجعلها أكثر استعداداً للتوصل إلى حل للصراع عن طريق المفاوضات.

يجدر بإدارة بايدن أن تسعى إلى خفض التصعيد تدريجياً من قبل كل من الجانبين. وسيشبه ذلك الاستراتيجية التي تبنتها الإدارتان السابقتان، غير أن القضايا التي ستحظى بالأولوية تعتمد على الخيارات المفضلة لإدارة بايدن وشركائها والجانب الآخر.

ومن المرجح أن يكون على رأس القائمة تنازلات سياسية تقدم عليها دمشق لضمان عودة اللاجئين الآمنة، بما في ذلك إعادة توطين تجري مراقبتها دولياً، ومعايير متناظرة تتعلق بالأمن والرقابة من أجل إعادة دمج القوات المعارضة قوات سوريا الديمقراطية، وضمانات أمنية للحدود الجنوبية لتركيا، ونزع الأسلحة الاستراتيجية الإيرانية بشكل نهائي من الأراضي السورية، وخصوصاً صواريخها الدقيقة، نظراً إلى أن الانسحاب الإيراني الكامل مطلب غير واقعي.

في المقابل، من المرجح أن تضغط روسيا من أجل انسحاب القوات الأميركية والإسرائيلية والتركية من سوريا. وستطالب موسكو على الأغلب أيضاً بتعاون الولايات المتحدة معها في مجال مكافحة الإرهاب في سوريا للتصدي لتنظيم “داعش”، الذي يبدو أن الأسد غير قادر على دحره، إلى جانب تخفيف العقوبات وعودة اللاجئين من تركيا والأردن ولبنان إلى مدنهم وبلداتهم السورية. وقد تأمل روسيا، وربما بشكل غير واقعي، أن هذه الخطوات يمكن أن تفتح الباب على مصراعيه للاستثمارات الأجنبية في سوريا، وتؤدي بالتالي إلى جعل موسكو في حل من عبء المحاولة لدعم اقتصاد البلاد المنهار. وأخيراً، سيكون من الضروري إصدار قرار جديد لمجلس الأمن الدولي من شأنه أن يضفي طابعاً رسمياً على أي صفقة [يتم التوصل إليها] ويفرض رقابة على التزامات كل طرف. وستكون النتيجة النهائية هي عودة سوريا دولة “طبيعية” وعضواً بكل معنى الكلمة في الجامعة العربية

الآمال الروسية بأن ينتصر الأسد انتصاراً شاملاً قد خابت

ربما تكون موسكو مستعدة لعقد اتفاق على هذا الأساس أكثر مما تقدر إدارة بايدن. ويدل التاريخ على أن بمقدور الولايات المتحدة أن تمارس، إلى جانب شركائها، ضغطاً يؤثر على حسابات التفاضل والتكامل الاستراتيجية لدى روسيا في سوريا. وقد طبقت إدارتا ترمب وأوباما، إلى جانب دول الاتحاد الأوروبي ودول عربية، ضغوطاً اقتصادية ودبلوماسية على نظام الأسد بهدف دفع جهود الأمم المتحدة إلى الأمام. وفي نهاية المطاف أضافت إدارة ترمب الضغط العسكري لاستكمال الجهود الدبلوماسية والاقتصادية، إذ شنت غارات جوية أوقفت هجمات الأسد بأسلحة كيماوية فتاكة، كما أبقت قوات أميركية في شمال شرقي سوريا وجنوبها، ودعمت التدخلات العسكرية الإسرائيلية والتركية في البلاد. وأدت تلك الخطوات مع حلول أواخر عام 2018، إلى حالة الجمود السائدة حالياً.

دفعت إدارة ترمب بعد ذلك الروس إلى حل وسط يرتكز بشكل عام على إنهاء الضغط الدولي، ولا سيما العقوبات، والقبول بالأسد مقابل تنازلات حول قضايا جيوستراتيجية. وتشتمل هذه القضايا، كما ذكر آنفاً، على إزالة الصواريخ الإيرانية الاستراتيجية، والتعاون مع العملية السياسية التي تقوم بها الأمم المتحدة للمصالحة مع قوى المعارضة واللاجئين، ولوضع حد نهائي لبرامج الأسلحة الكيماوية.

كان هذا الاقتراح جذاباً بدرجة كافية بالنسبة إلى بوتين كي يدعو مايك بومبيو، وزير الخارجية الأميركي السابق إلى سوتشي في مايو (أيار) 2019 لمراجعته والنظر فيه، ولكن الرئيس الروسي اختار في نهاية الأمر عدم عقد الصفقة في ذلك الوقت. من المرجح بقوة أن الرئيس الروسي كان يعتقد أن باستطاعته إحراز نصر عسكري كامل، وأن ذلك لن يحقق أهدافه الأساسية في سوريا فحسب، بل سيؤسس أيضاً لدور موسكو كلاعب إقليمي رئيس. ومن المؤكد أن محاولات ترمب المتكررة لسحب القوات الأميركية من البلاد قد شجعت بوتين على اتخاذ هذا الموقف. حاولت موسكو على الدوام أن تقسم التحالف المناهض للأسد، وضغطت على الأتراك، والإسرائيليين، وحلفاء الولايات المتحدة الأكراد من أجل عقد صفقات منفصلة مع الأسد. كما شجع تواصل دول عربية مع دمشق الروس [في محاولاتهم].

آفاق السلام

إلا أن الآمال الروسية بأن ينتصر الأسد انتصاراً مطلقاً قد تلاشت اليوم. ويحتفظ الأتراك والإسرائيليون والأكراد بمواقعهم العسكرية في سوريا بسبب التعنت الذي واجههم به النظام السوري. إن تواصل بعض الدول العربية مع الأسد أمر مقلق، ولكن حتى الآن لم يُؤدِ إلى إعادة دمج سوريا بالجامعة العربية. ولقد أكدت إدارة بايدن الآن [التزامها] معظم عناصر الاستراتيجية السابقة، وهي المحافظة على وجود قوات أميركية، مع بعض التعديلات، ونظام العقوبات، وتحذير جميع الأطراف كي لا تحاول تحدي مختلف اتفاقات وقف إطلاق النار مع القوات التركية والمعارضة الكردية، ودعم العمل العسكري الجوي الإسرائيلي ضد إيران، والتعاون ضد “داعش” مع قوات سوريا الديمقراطية، وعلى نحو غير مباشر مع دمشق، تحميل نظام الأسد المسؤولية من خلال الجهود الدبلوماسية وجمع المعلومات لدعم تحقيقات الأمم المتحدة والعمليات القضائية الأوروبية ضد مسؤولين سوريين، وتأييد الجهود السياسية للأمم المتحدة.

تعتبر خيارات موسكو في ظل هذا الوضع محدودة. فهي تعلم أن الأسد لم يحقق النصر في الصراع وليس لديه خيارات واضحة للقيام بذلك. وتسيطر الجماعات التي تدعمها تركيا والولايات المتحدة على قرابة 30 في المئة من مساحة سوريا، بما في ذلك معظم احتياطيات النفط وشطر كبير من أراضيها الصالحة للزراعة. ولا يزال نصف سكان البلاد من لاجئين أو نازحين داخلياً يخشون العودة للعيش في ظل حكم الأسد، وقد قلص سلاح الجو الإسرائيلي نشر الصواريخ الإيرانية. وعلى الرغم من أن المخاطر والتكاليف التي تتحملها موسكو محدودة، فإنها ليست بسيطة. وتشمل هذه المخاطر زيادة تدهور الاقتصاد المتأرجح لنظام الأسد، ونشوب خلافات داخلية ضمن النظام، وتصعيد غير متعمد مع القوات الإسرائيلية أو الأميركية أو التركية المتفوقة عليه. في الواقع، طرح كبار المسؤولين الروس على الولايات المتحدة حتى نهاية ولاية إدارة ترمب مجموعة من الصفقات المحتملة بينهما كان من الممكن لها أن تنهي النزاع.

علاوة على ذلك، إن حلفاء واشنطن الإقليميين هم حالياً أكثر تواؤماً. إن الاتفاقات الإبراهيمية قد عززت العلاقات بين إسرائيل ودول عربية، وخفف الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بشكل كبير من حدة خلافاته مع شركاء الولايات المتحدة الآخرين في المنطقة، كما عادت الأمور إلى مجاريها بين قطر ودول مجلس التعاون الخليجي. ويحث قادة الدول الأكثر أهمية في المنطقة الولايات المتحدة على الاضطلاع بدور وازن أكثر. ومن شأن الجهود حتى الفاشلة منها، الرامية إلى تحقيق اختراق وتذليل عقبات في الوضع السوري، أن تعزز الدعم الإقليمي لموقف واشنطن الاحتياطي، ما سيحافظ على حالة الجمود الراهنة التي تحرم إيران أو روسيا من تحقيق انتصار استراتيجي.

من المؤكد أن أي مبادرة دبلوماسية كبيرة في شأن سوريا ستكون أكبر بكثير مما تقدر عليه الإدارة الأميركية، بيد أن فعل ذلك هو أقل خطورة من السماح للصراع، بكل ما يرافقه من مآسٍ إنسانية ومخاطرات أمنية، بأن يبقى مستمراً إلى أجل غير مسمى. وعلى الرغم من أن الاتفاق لن يكون مثالياً، فإن إنهاء الحرب في سوريا سيعزز بشكل كبير من قيمة واشنطن كشريك أمني في الشرق الأوسط وما وراءه.

*جيمس جيفري هو رئيس برنامج الشرق الأوسط في مركز ويلسون، وقد خدم سابقاً كمسؤول في السلك الدبلوماسي في ظل سبع إدارات أميركية، وكان في آخرها المبعوث الأميركي الخاص إلى سوريا ومبعوثاً خاصاً إلى التحالف الدولي لدحر “داعش”

مترجم من “فورين أفيرز”، ديسمبر 2021

 

 

Leave a Comment