سياسة

قوى السلطة تحول دون إنقاذ البلد وتواصل قيادته نحو المجهول

زكـي طـه

 طويت مؤقتاً صفحة في ملف ترسيم الحدود البحرية الجنوبية. ارتاح رئيس الجمهورية لما قام به، ظناً منه أنه أقنع الوسيط الأميركي بوجهة نظره، بشأن حصول لبنان على كامل حقل قانا الذي يخترقه الخط 23، واعتقادأ منه أنه بذلك أحرج دولة العدو على نحو يدفعها للتخلي عن المطالبة بحصتها في الحقل المذكور مقابل حصولها على كل المساحة المتبقة الفاصلة بين الخطين 23 و29، بما فيها حقل كاريش. لكن الرئيس فاته أن اقتراحه لم يضعف موقف لبنان التفاوضي وحسب، بل كرس تخلي مسؤوليه جميعاً عن حقوقه. وأنه وفي حالة الرفض الاسرائيلي، لن يكون باستطاعة المفاوض اللبناني العودة للمطالبة بالخط 29 كما يظن البعض.

وإذا كان الاسرائيلي مطمئناً لأداء المسؤولين اللبنانيين، بصرف النظر عن التهديدات غير القابلة للصرف التي يطلقها البعض منهم، إلا أن ما يزيده اطمئناناً على مصالحه هو وضوح دور الوسيط الاميركي الذي حضر استجابة لطلباتهم بالعودة لمتابعة الملف. وهو الذي لم يتردد في الافصاح عن انحيازه لاسرائيل، وتشجيع المسؤولين اللبنانيين للقبول بما يعرض عليهم  لتلبية احتياجات بلدهم الذي يعاني انهياراً اقتصادياً ومالياً شاملاً، والتخلي نهائياً عن المطالبة بالحقوق “المدعاة” من قبل بعضهم والتي لا يمكنهم الحصول عليها. وما صمت المسؤولين اللبنانيين حول ما أدلى به عقب مغادرته البلد، سوى مؤشر إضافي على أن مصالح هؤلاء في السلطة ومنافعها لها الاولوية على كل ما عداها من حقوق ومصالح وطنية.

 وإذا كانت اسرائيل هي من أجبر المسؤولين اللبنانيين على الاهتمام بهذا الملف، في إطار البحث عن مصالحها النفطية، سعياً منها  لتسريع الانتاج والقدرة على التصدير للخارج، واستغلال مفاعيل الحرب الروسية على أوكرانيا، وما نجم عنها على صعيد حاجات أوروبا الملحة للنفط والغاز بديلاً لهما من الخطوط الروسية.  وهي التي أسرعت لتوقيع العقد مع اسرائيل ومصر لاستيراد الغاز لتلبية حاجات أسواقها. ما يعني أن قضية ترسيم الحدود البحرية ستكون مرشحة للتفاعل خلال الاسابيع القادمة في ضوء الاجوبة الاسرائيلية، التي لا تزال تمهد لها بحملة غير مسبوقة من التهديدات للبنان، وسط  عراضات القوة المنسقة أميركياً وإقليمياً في مواجهة الدور الإيراني وامتداداته في شتى ساحات المنطقة بما فيه الملف النووي.

في المقابل فإن إنشغال المسؤولين اللبنانيين في هذا الملف، شكل بالنسبة لرئيس الجمهورية فرصة لاستطلاع المواقف الاميركية من أزمات البلد، واختبار علاقة نائب رئيس مجلس النواب اللبناني الجديد بالوسيط الاميركي وامكانية الاستفادة منها على أكثر من صعيد، خاصة في موضوع انتخابات رئاسة الجمهورية القادمة. في وقت الذي تعمّد ممثلها توسيع مروحة اتصالاته  حول مختلف قضايا البلد لايصال ما يلزم من الرسائل. لم يختلف الأمر لدى كل من رئيس مجلس النواب ورئيس حكومة تصريف الاعمال اللذان سعيا منهما لجس نبض الادارة الاميركية لمعرفة توجهاتها حيال أوضاع البلد واستحقاقاته الدستورية القادمة، بالاستناد إلى دورها في إداراة الصراعات المحتدمة في شتى ساحات المنطقة لمواجهة الدور الايراني.

وبذلك كانت الفرصة متاحة لجميع الاطراف للتفكر في هضم نتائج الانتخابات النيابية التي وضعتهم امام تحديات إعادة تنظيم جبهاتهم، لمواجهة استحقاقي تشكيل الحكومة وانتخابات رئاسة الجمهورية. خاصة أن انتخابات رئاسة وهيئة مكتب المجلس النيابي الجديد، لم تبلور صيغة تحالفات واضحة المعالم يمكن الركون لها أو البناء عليها. رغم أن تشكيل اللجان النيابية، أظهر على نحو لا يقبل النقاش عمق وحدة قوى السلطة، في مواجهة نواب المعارضة والمستقلين والوقوف معاً صفاً واحداً، لقطع الطريق امام امكانية اقتراب هؤلاء من ساحات تقاسم النفوذ بينهم وتهديد مصالحهم المشتركة كمنظومة حاكمة. 

وفي هذا السياق لم يكن مستغرباً أو مفاجئاً، مماطلة رئيس الجمهورية في الدعوة لإجراء استشارات نيابية ملزمة لتكليف رئيس لتأليف حكومة جديدة، يقع على عاتقها تولي المسؤولية خلال المرحلة الفاصلة عن انتخابات الرئاسة، والتمهيد لها، أو إدارة شؤون البلاد في حال تعذر حصولها في موعدها. ولذلك يتعامل سائر أطراف السلطة مع معركة تشكيل الحكومة باعتبارها الفصل الاول في معركة رئاسة الجمهورية، بدءاً من تسمية رئيسها المكلف وطبيعتها وصيغة تأليفها. وعليه لم يكن تأخير الاستشارات  سوى محاولة استدراج عروض، وعقد صفقات حول قضايا وملفات يسعى رئيس الجمهورية لتحقيقها قبيل نهاية عهده انقاذاً لسمعته، باعتباره أكثر العهود فشلاً وسوءاً في تاريخ الرئاسات. فيما رئيس التيار الحر يحاول جاهداً رفع سقف شروطه وسط اصرار منه على التخلص من سائر المرشحين المحتملين لرئاسة الجمهورية، أملا في استعادة موقع المرشح الاقوى لها، مستنداً بذلك إلى علاقته مع حزب الله  الذي يخشى خسارته كحليف مسيحي شبه وحيد، بعد التراجع  الذي اصاب الملحقين به من الطوائف الاخرى.

   ما يعني أن التكليف لرئاسة الحكومة، لا يؤشر مطلقاً إلى سهولة تأليفها، بقدر ما يعبر عن عمق أزمة النظام السياسي، وكِبر مأزق سائر مكوناته، وهروبها المتمادي من تحمل مسؤولياتها عما انتجته أو تسببت به سياساتها وممارساتها من انهيار شامل لمؤسسات الدولة واجهزة السلطة والادارة، عدا أنها اصابت من الاقتصاد مقتلاً، ودفعت البلاد برمتها كيانا ومجتمعاً نحو المجهول.

وفي موازاة انشغال المسؤولين بحساباتهم  وصراعاتهم الشعبوية، لتوظيف أزمات البلد بما فيها ملف ترسيم الحدود البحرية وقضية النفط، استناداً إلى رهاناتها الخارجية الموصولة بالحروب الاقليمية المتفجرة. نجد ان الغالبية منهم يتسابقون لاستطلاع مدى اهتمام الخارج دولاً وهيئات أممية وصناديق ضامنة بأوضاع البلد واستحقاقاته، بأمل الحد من التعقيدات القائمة والممارسات التعطيلية التي يعتمدها رئيس الجمهورية وتياره وحليفه الرئيسي، سعياً لحصول توافقات الحد الأدنى التي تضمن مصالح  أهل السلطة، على نحو يسمح بتشكيل حكومة وانتخاب رئيس جديد للجمهورية، يعملان على تجّميد الانهيار ومنع حصول الكارثة الكبرى والانفجار المحتوم، الامر الذي يكرر الجميع التحذير منه، نظراً لما يرتبه من أعباء على الدول والجهات المهتمة. أما النهوض بأوضاع البلد ومعالجة أزماته، وعدا أنه لا يقع ضمن أولويات قوى السلطة، فإنه لا يشكل أولوية راهنة في اهتمامات الجهات الدولية والاقليمية المشغولة بحروبها وصراعاتها المستعرة وأزماتها المتفجرة.

مقابل ذلك ومع تفاقم مضاعفات الانهيار الاقتصادي والمالي والدفع بالغالبية الساحقة من اللبنانيين إلى مستويات من العجز  شبه المطلق عن تأمين أبسط مقومات العيش والخدمات في آن، واضطرار قطاعات وفئات واسعة من اللبنانيين للتحرك دفاعاً عن ما تبقى لها من حقوق، وقدرة في الانتقال من وإلى مراكز عملها أو سد رمقها. مجدداً يبرز مأزق قوى المعارضة المستقلة عن السلطة، سواء تعلق الامر بالنواب الذين فازوا تحت رايتها ومعهم النواب المستقلين، وسط عجز عن تنظيم العلاقة في بينهم وفق تفاهمات الحد الأدنى، بشأن دورهم الانقاذي بعيداً عن منوعات التبسيط والاستسهال التي تأسر بعضهم، أو التي يصر بعض المجموعات على دفعهم لتبنيها، الأمر الذي يسهل معه الاطاحة بدورهم لمصلحة قوى السلطة التي تعرف جيداً كيف تدير وتنظم صراعاتها وتحمي مصالحها في آن. وإلى جانب ذلك، يبدو جلياً قصور الاحزاب والتنظيمات والمجموعات التي ترفع راية المعارضة المستقلة،عن المبادرة واللقاء حول برنامج الحد الأدنى الانقاذي، والتحضير للتعامل مع الانفجارات الاجتماعية التي تتصاعد ارهاصاتها بما يحول ويمنع انزلاقها وتحولها مطية لأحزاب السلطة وتياراتها، الجاهزة دوماً لاستغلالها والاسثمار فيها لتعزيز وحماية وجودها وتبرير أدوارها، وسياساتها التي لا تحمي بلداً ولا تبني وطناً. 

Leave a Comment