سياسة مجتمع

قوى التغيير وإمكانية المساهمة في توفير ظروف تجدد الانتفاضة

محمد قدوح

 بيروت 26 أيلول 2023 ـ بيروت الحرية

إن النظرة إلى المجتمع اللبناني تبين بوضوح عن وجود إنقسامات داخلية عديدة، كما ينقسم اللبنانيون طوائف ومذاهب متصارعة فيما بينها. قد يكون هذا الصراع كامناً يختزنه المجتمع، أو صريحاً متفجراً. ويلعب الخارج على تناقضات المجتمع تبعاً لما يخدم مصالحه من اجل السيطرة عليه، مما يجعله مهدداً دوماً بحرب أهلية. وفي هذه الحالة يتواطأ زعماء الطوائف مع الخارج لإحكام سيطرتهم على الجماعات الطائفية والمذهبية وربطها بهم، مما يمكنهم من الاحتفاظ بنفوذهم وإمتيازاتهم وتجديدها، تحت وهم الدفاع عن الجماعة ومصالحها ضد التهديد الخارجي.

في وضع مثل هذا المجتمع يوجه العنف الى الداخل، بدلاً من الخارج، على شكل إرهاب وقمع تمارسه السلطة التي لا تعرف التعامل مع الانسان سوى بالقمع والاخضاع دون حدود، مما يعني أن العلاقة بينها وبين الجمهور ليست علاقة تكافؤ أو حوار، ليس هناك إعتراف متبادل لأن السلطة لا تريد مواطنين، بل أتباعاً. إن البنية الاجتماعية التي تنتج عن هذه الوضعية جامدة متصلبة لا تتضمن صمامات امان، ذلك لأن العدوانية المتراكمة التي تنتج عن القمع والقهر لا بد وأن تنفجر نحو الخارج او الداخل تبعاً للظروف، ذلك لأن كل الاوليات الدفاعية السابقة لمرحلة إنفجار العنف لا تمكن الانسان المقهور من حل مأزقه الوجودي، بشكل يرد إليه توازنه النفسي، لأن معظم هذه الاوليات الدفاعية لا تتصل بالواقع، بل تتراوح ما بين الهروب منه (الإنكفاء على الذات) او الهروب فيه (التماهي بالمتسلط)، لذلك لا بد من اوليات إضافية لتفريغ التوتر. ذلك هو العنف الذي يتخذ معنى التغيير الفعال، فهو السلاح الأخير لإعادة سنين من الاعتبار المفقود للذات. إن الاتجاه الاكثر شيوعاً للعنف يكون نحو جماعات خارجية من خلال التعصب الطائفي أو المذهبي مع ما يرافقه من ميول فاشية.

لكن الحل الأكثر فعالية وإيجابية هو توظيف هذه الطاقات في عمل تغييري على مستوى المجتمع ككل، بشكل يؤدي إلى تغيير موازين القوى، ويقضى على اسباب العنف بمختلف اشكاله. لكن للأسف هذا الحل لا يتيسر دائماً في تاريخ الشعوب، وهو يحتاج إلى ظروف موضوعية وذاتية لا تكون متوافرة بما يكفي لإنجاز هذا الحل.

إن العنف هو الوسيلة الأكثر شيوعاً لتجنب العدوانية التي تدين الذات الفاشلة، من خلال توجيه هذه العدوانية بشكل مستمر ودوري، كلما تجاوزت حدود الاحتمال الشخصي، وهو قد يكون عشوائياً مدمراً، يذهب في كل اتجاه، أو يكون بناءً يوظف في تغيير الواقع. هذا العنف موجود دائماً ما دام هناك مأزق وجودي يمس القيمة الذاتية.

لقد شهدنا في لبنان مثل هذا العنف ومحاولات لتغيير الواقع (الحرب الاهلية)، حيث أظهرت وقائع ونتائج تلك الحرب، أن الفئات الاجتماعية المنظمة سياسياً والتي لها تاريخ في الممارسة السياسية، قد تخلصت فعلاً من قيود التخلف ذهنياً وانفعالياً وعلائقياً، حيث سجل تداخل بين اعلى درجات التنظير الفكري وأشد اشكال التخلف في الممارسة، كما سجل نوع من الهوة بين الفكر الذي بدأ على درجة عالية من التطور وبين المعاش اليومي خارج اطار الممارسة العامة، والذي لا يزال محكوماً بنظرة إلى الذات وإلى الآخرين على درجة عالية من التخلف، لهذه الاسباب ولأسباب اخرى خارجية تقاطعت وتداخلت فيما بينها، تحولت الحرب سريعاً حرباً اهلية دموية وتدميرية بين الجماعات الطائفية على انقاض المشروع التغييري الذي انطلق مع بدايات هذه الحرب.

توقفت الحرب بعد أن انتهت وظيفتها بالنسبة للخارج، بإتفاق بين القوى الطائفية برعاية الخارج، وبموجبه انتقلت الميليشيات من الشارع إلى داخل السلطة، ومعه انتقل الصراع من الشارع الى داخل السلطة، وقد انتهى هذا الصراع بعد حوالي 40 عاماً، بتحلل الدولة وانهيار الاقتصاد. والاخطر تقلص المساحات المشتركة بين اللبنانيين إلى الحدود الدنيا.

خلال هذه الفترة، أي من العام 1990 حتى العام 2023، سجل بداية استنكاف اللبنانيين عامة والشباب على  وجه الخصوص عن التعاطي بالشأن العام، بسبب فشل التجربة الحزبية، وأداء السلطة، حيث بدا المجتمع اللبناني ساكناً. لكن لا وجود لمجتمع ساكن، قد تكون حركته بطيئة في وتيرتها وخفيفة في مظاهرها، لكنه موجودة حتماً. هناك دائماً إنتفاضات ومحاولات تغيير تبرز من آن إلى آخر، لكنها تطمس بسرعة نظراً لشدة القمع والخوف من  الفشل كالتجارب السابقة. لكن التمرد والانتفاضة تنمو في أحشاء هذه المرحلة بصمت وبطء، بشكل حتمي وأكيد. وعندما تحين ساعة الانتفاض، تنفجر الطاقات التغييرية التي تفاجىء اول ما تفاجىء الفئة المتسلطة. وقد سجل خلال هذه الفترة ثلاث إنتفاضات بارزة: الاولى عام 2005 بعد استشهاد الرئيس رفيق الحريري، والثانية عام 2015 بسبب أزمة النفايات، والثالثة عام 2019 مع بدء فصول الانهيار الاقتصادي المالي.

لقد نجحت قوى السلطة في كل مرة بإفشال هذه الانتفاضات من خلال جرها للعنف من ناحية، و”شيطنتها” من ناحية ثانية، وفي كل مرة يعود الجمهور إلى قواعده ليعيش حالة تذبذب بين التبعية والرضوخ، وبين الرفض والعدوانية الفاترة، أو التزلف والاستزلام والمبالغة في تعظيم المتسلط، إتقاءً لشره أو طمعاً برضاه، حيث لم يبق من خيار امام الجمهور في  ظل احتدام الصراع بين القوى الطائفية سوى الاحتماء بحضن طوائفه ومذاهبه. ففي مثل هذه الحالة، تكون الجماعات الطائفية مستعدة للإنقياد وراء زعيم عظامي، تستسلم له بشكل رضوخي طفيلي، فتتعطل إرادتها وقدرتها على الاختيار والنقد، فتتمسك بقيادة من هذا النوع، التي تشعرها بالحياة، فتتضخم اهمية الجماعة على حساب الخارج، فتنغلق على ذاتها، ولا تشعر بقيمة خارجها، عندئذ تقطع العلاقات مع الخارج، وينشأ عن ذلك تقطع الجسور بين الجماعات الطائفية، ويقوم بينها جدار من الخوف والحذر المتبادل.

هل تتجدد إنتفاضة 17 تشرين؟

عندما تتحلل الدولة ويبلغ الانقسام ذروته بين الجماعات الطائفية، يحتمي الافراد كل في جماعته الطائفية، ويندمجون فيها إلى حد الذوبان، حيث يفقد الفرد إستقلاليته وقدرته على النقد والاختيار، بحيث لا يستطيع التمايز كي لا يتهم بالخروج عن الجماعة وإضعافها في معركتها المصيرية. لذلك تعتبر كل الدعوات لتجديد انتفاضة 17 تشرين غير واقعية، ولا تجد صدى لدى الذين شاركوا فيها. في المقابل يجد طرح مطلب الفيدرالية واللامركزية الإدارية الموسعة صدى ايجابي لدى جمهور الجماعات الطائفية القلقة على مصيرها، لكن لا يعني ذلك أن الجماعات الاخرى، ترفض هذا المطلب بالمطلق، وإنما ترفضه نتيجة شعور البعض منها بالقوة والقدرة على قضم حصص المجموعات الطائفية الاخرى.

وعليه يمكن  القول، إن اللحظة الراهنة غير مناسبة لتجدد انتفاضة 17 تشرين، إنما يمكن أن يحصل ذلك ضمن  مسار حركة المجتمع التي يمكن أن توفر الظروف المناسبة لتجددها. لقد أظهر المجتمع اللبناني مستوى طموح عالٍ لبناء دولة المواطنة والعدالة الاجتماعية والمساواة بين المواطنين. وعلى قوى ومجموعات الانتفاضة أن تدرك أن تجددها ليس امراً ارادوياً، وعليهم المساهمة في توفير الظروف المناسبة لذلك، باعتباره أمر ممكن، ويتطلب حمل قضايا اللبنانيين والدفاع عن حقوقهم الاساسية، وإن تطوير الخدمات واهتمام الدولة بها يسمحان بعبور المواطن إلى الدولة وبالعكس.

خلاصة القول، إن قوى ومجموعات الانتفاضة مدعوة لإعادة قراءة الواقع اللبناني، وتقييم تجربتها السابقة، ومن ثم بدء مسيرة التغيير، إنطلاقاً من الدفاع عن الحقوق الاساسية للبنانيين بعيداً عن الشعارات الكبرى والعنف، اقتداءً بقول تولستوي: ” الوطن ليس قطعة ارض ومجموعة من البشر، الوطن هو المكان الذي تُحفظ فيه كرامة الانسان”. لنبدأ بالدفاع عن الحقوق التي تحفظ كرامة اللبنانيين.

Leave a Comment