سياسة

تفاؤل بنتائج مفاوضات فيينا لكن خطر الحرب حقيقي

عماد زهير

من المقرر مبدئياً أن تنطلق مجدداً الجولة الثامنة لمفاوضات فيينا لإعادة إحياء الاتفاق النووي بين ايران والسداسية الدولية الموقع في شهر تموز من العام 2015. والجديد في هذه المفاوضات أن الجولة السابعة منها انتهت إلى الاتفاق على مسوَّدة خطة للحل، من المفترض أن تعاود الاطراف الاجتماع لنقاشها وإقرارها في السابع والعشرين من شهر كانون الاول الحالي.  والواقع أن الطرفين يتكتمان حول المدى الذي قطعته المفاوضات والاوراق التي قدمتها ايران التي تتضمن خطتها للحل. ويشير الطرفان أن المحادثات كانت بناءة وايجابية دون التطرق إلى العوامل التي جعلتها تستحق مثل هذين الوصفين، ومقدار ما قدمه كل طرف من التنازلات للوصول إلى هذه الايجابية، ما سمح بالتالي للحديث عن إمكانية التوصل إلى حل نهائي قبل نهاية هذه السنة. لكن موجة التفاؤل تقطعها مواقف ايرانية تتحدث عن رفض العودة للمفاوضات، واستعدادات اسرائيلية لشن هجوم على مفاعلات ايران النووية، بعد أن سبق وأعلنت عن قرار الهجوم سواء أنجحت المفاوضات أم فشلت، حتى أنها وصفت نتائج حربها أنها ستطيح ليس بالمفاعلات، بل بالنظام نفسه.

طرفا التفاوض، وهما هنا ايران والسداسية الدولية، جلسا وراء طاولة التفاوض للجم التداعيات السلبية للوضع القائم بينهما،  فالنظام الايراني لم يستطع خلال أشهر حكم بايدن زحزحة اميركا عن الاستمرار في تنفيذ العقوبات. والشرط الذي وضعته للعودة إلى المفاوضات بما هو إلغاء العقوبات  تأكد أنه ليس في الوارد الاميركي. ثم إن الاقتصاد الايراني يعاني من الآثار السلبية للحصار المفروض عليه، والذي انعكس على الاوضاع المعيشية للايرانيين، وهو ما قد يقود  إلى انفجار الشارع، بعد أن طال الانهيار الطبقة الوسطى العمود الفقري للاستقرار، مع ما يمكن أن ينجم عن ذلك من مواجهات في الشارع، تقود حتماً إلى الاصطدام بين النظام واجهزته والمواطنين. أما روسيا والصين باعتبارهما حليفتي ايران، فلكل منهما حساباتها الخاصة لتسهيل الاتفاق بدل عرقلته. فالصين وروسيا رغم شبكة مصالحهما، تخشيان من أن تجدا نفسيهما في خضم مواجهة تتورطان فيها بدعم حليف يعمل لحسابه الخاص في المقام الأول. أما الترويكا الاوروبية قد تجد متنفساً لها في حال أمكن العودة إلى الاتفاق، وإلغاء العقوبات الاميركية التي تطال شركاتها في حال كسر قرار الحظر والمقاطعة الاقتصادية. الولايات المتحدة ومنذ أن وصل بايدن إلى الحكم تؤكد على تطبيق المقررات الدولية المتعلقة بالشأن النووي، خصوصاً وان النظام الايراني أفاد من قرار ادارة الرئيس الاميركي السابق دونالد ترمب الانسحاب من الاتفاق، وعمد إلى تنشيط وتطوير بنيته النووية ونقل عمليات تخصيب اليورانيوم من مستوى 20 في المئة إلى 60 في المئة مع إمكانية رفع النسبة إلى 90%، في حال استمرت أزمة الانفلات الايراني  من دون العودة الى اتفاق جديد، والقبول بادخال تعديلات على القديم. وتنطلق السياسة الاميركية من أن عودة الرقابة على الأنشطة الايرانية من شأنها أن تمنع “عسكرة” البرنامج النووي الايراني، وما يعنيه ذلك من الدخول في دائرة التعامل الجدي مع هذا البرنامج وضرورة تعطيله حتى وان كان المدخل الى ذلك “عمل عسكري” عبر اللجوء إلى الخطة “ب”، التي تكررالحديث عنها أكثر من مرة على ألسنة العديد من المسؤولين الذين تحدثوا عن “الدبلوماسية وغيرها” و عن “وسائل أخرى “، للتعاطي مع االسياسة الايرانية ومساعيها نحو امتلاك السلاح النووي. وهذا من شأنه أن يترك مضاعفات على الأمنين الدولي والاقليمي على السواء ويهدد واردات حوالي 20 % من نفط العالم.

ضمن هذه المناخات أدرك المفاوض الايراني أن من المستحيل الحصول على ضمانات بالغاء ورفع جميع العقوبات الاقتصادية عليه. وهي عقوبات تشمل فيما تشمل الطابع النووي العسكري للمفاعلات و انتهاك حقوق الانسان ودعم الارهاب وغسيل وتبييض الاموال وتمويل الجماعات الارهابية المسلحة و.. وما ضاعف الضغط على المفاوض الايراني للتخلي عن شروطه، دخول مجلس الامن على خط التحذيرات من أن تصلبه، سيقود الى حائط مسدود قد ينهار على رأس النظام والحكومة الايرانية معاً. والواقع أن الفريق الايراني المتشدد كان قد أتى بحكومة رئيسي بعد أن شنَّ حرباً شعواء على حكومة حسن روحاني ووزير خارجيته ظريف، متهماً إياهما بتقديم تنازلات على حساب الأمة والشعب والثورة والمصالح الايرانية الاستراتيجية.

لكن في غضون الأشهر السابقة وبعد مرحلة من التجاذب الحاد، انطلقت رحلة التراجعات من جانب السلطات الايرانية وأبرزها دون منازع، كان  قرار  التعاون مع الوكالة الدولية، والسماح لمفتشيها بإعادة تركيب كاميرات مراقبة في منشآة “تسا” في كرج، التي سبق أن تعرضت في شهر آب الماضي لهجوم بطائرة اسرائيلية مسيَّرة حسب الاتهام الايراني، مع الإبقاء على شرط الاحتفاظ بالتسجيلات داخل ايران حتى رفع العقوبات.  لكن هذا لا يعني بأي حال من الأحوال أن التيار المحافظ  قرر الخضوع و”تجرع كأس السم” وبالتالي القبول بالشروط الدولية. من هنا يمكن فهم عودته إلى نغمة قطع المفاوضات بعد تعطيلها أشهراً عدة ريثما تسلمت إدارة رئيسي الملف. وعليه، فهذا التيار يتابع التأكيد على رفض أي “تنازل”، والتمسك بإنهاء جميع العقوبات بما هو حق ايراني لا مجال للتنازل عنه. والواقع أن مثل هذا الجدل الذي سيحتدم في الداخل الايراني من جانب التيار المحافظ، ينطلق من أن أي اتفاق يشكل ضرراً على مواقعه السياسية لجهة إمساكه بمفاصل السلطة والأجهزة الأمنية، والاقتصادية  نتيجة  سيطرته على مجمل الانشطة المالية والاقتصادية في البلاد.

ولكن على الرغم من المنحى التفاؤلي الذي دفع بالكثيرين إلى توقع الخاتمة السعيدة للمفاوضات قبل أن يأفل العام الحالي، لا بد من مواصلة الحذر باعتبار أن هناك خلافات عميقة بين الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها الأوروبيين من جهة، وإيران من جهة أخرى، خصوصاً فيما يتعلق بقبول التقدم والتطوّر التقني الذي حققه برنامج الأخيرة النووي، خلال السنوات التي أعقبت انسحاب واشنطن، من الإلتزام ببنود اتفاق 2015. والذي بلغ حافة القدرة على استعمال ما توصل إليه في تزويد السلاح برؤوس نووية. في المقابل، تشترط إدارة جو بايدن فتح النقاش حول أمرين يتعديان التخصيب النووي هما: مسألة تصنيع الصواريخ البالستية والمدى الذي تطاله، والتدخلات الاقليمية الايرانية في منطقة الشرق الأوسط ووسط آسيا. وهما أمران غاية في الخطورة على مستقبل ايران واستثماراتها السياسية في المنطقة من خلال تمددها في العديد من الدول مباشرة، أو عبر أذرعها كما في اليمن والعراق ولبنان وغيرها. لكن هناك عامل أكثر خطورة يتمثل في الموقف الاسرائييلي المعلن من تقدم ايران نحو تصنيع قنبلة نووية، واحتمال القدرة على تحميل صواريخها البالستية أسلحة نووية، فخلال فترة إلغاء الاتفاق، أي في العام 2018 ضاعفت إيران من قدرتها النووية عبر تكثيف عملية تخصيب اليورانيوم وتركيب مفاعلات أقوى قدرة على تطوير ما أمكن جمعه من مياه ثقيلة. كما طورت وضاعفت من مدى قدرة أسلحتها الصاروخية التي باتت تصل إلى عمق أوروبا. ومنذ ذلك الحين، وسعت إدارة ترامب العقوبات الاقتصادية على إيران، وشملت قطاعات النفط والتعدين والمصارف، تحت عنوان “الضغوط القصوى” لإرغامها على القبول بتعديل اتفاق 2015 بضماناتٍ معزّزة تكبح جماح برنامجها النووي وبرنامجها للصواريخ الباليستية، وتدخلاتها وسياساتها في المنطقة، وهو الأمر الذي رفضته هذه الأخيرة. وفي عام 2019، وبعد فشل الاتحاد الأوروبي، وتحديداً ألمانيا وبريطانيا وفرنسا، في توفير آلية بديلة تحمي الشركات الأوروبية من العقوبات الأميركية في حال استمرارها في التعامل الاقتصادي مع إيران، ردّت طهران بالتحلل من أكثر القيود النووية المفروضة عليها بموجب اتفاق 2015، بما في ذلك رفع مستوى تخصيب اليورانيوم بنسبٍ تقترب من المستوى المستخدم لإنتاج سلاح نووي. وكانت المفاوضات استؤنفت في نيسان/ أبريل من العام 2021، حيث خاض الطرفان سبع جولات حققت خلالها تقدّماً في طريق العودة إلى الاتفاق. ثم توقفت المفاوضات مع انتخاب إدارة جديدة في طهران، أعلنت عن رفض الإلتزام بنتائج المفاوضات التي توصلت إليها إدارة الرئيس السابق حسن روحاني. ومن المعروف أن طهران تصرّ على أن الولايات المتحدة هي من انسحب من الاتفاق آحادياً، وهي التي  ينبغي عليها أن تتخذ الخطوة الأولى عبر رفع العقوبات الاقتصادية، وهو ما رفضته إدارة بايدن وتابعت ما سبق ومارسته إدارة ترامب.

لكن في موضوع الاتفاق النووي ومستتبعاته هناك لاعب آخر يجب أن يحسب له حساب. وهو اسرائيل التي تعلن جهاراً نهاراً أنه سواء أتم التوصل إلى الاتفاق أم لم يحدث ذلك فإن خيارها العسكري للتعامل مع الخطر الايراني موضوع على الطاولة أمام مسؤوليها السياسيين والأمنيين، بعد أن قطعت أشواطاً في تجهيز متطلباته. والواقع أن اسرائيل ضغطت وتضغط على الإدارة الاميركية منذ سنوات حكم ترامب لاعتماد الخيار العسكري دون أن تتمكن من الحصول على الضوء الأخضر للتنفيذ منفردة. ولعل الزيارات المكثفة التي قام بها كل من رئيس الحكومة الاسرائيلية نفتالي بينيت و رئيس الدولة اسحاق هرتسوغ ووزير الدفاع بني غانتس ورئيس الموساد وغيرهم إلى العديد من العواصم وخصوصاً واشنطن، تكشف عن استعداد اسرائيل للتحرك نحو ضرب المفاعلات النووية الايرانية. حتى أن رئيس الموساد تعهد أنه “سيتخذ أي إجراء مطلوب لضمان عدم امتلاك إيران أسلحة نووية”. مشدداً في الوقت عينه “لن تمتلك إيران أسلحة نووية، ليس في السنوات المقبلة، وليس أبداً. هذا هو وعدي، وهذا وعد الموساد”.

بدوره كشف المحلل الإسرائيلي بن كاسبيت، في تقريرٍ نشره موقع “مونيتور” الأميركي، أنه بينما كان الحديث عن قضية إيران آخذاً في الازدياد في الأسابيع الأخيرة، يتساءل الإسرائيليون والإيرانيون والأميركيون والعالم بأسره عمّا إذا كان يمكن ترجمة الاعتداء اللفظي الإسرائيلي إلى أفعال. مع طرح أسئلة حول “الخيار العسكري” الذي تواصل إسرائيل الحديث عنه، وعمّا إذا كانت قد احتفظت أو طورَّت القدرة على تدمير البنية التحتية النووية الإيرانية المحصنَّة، أو إذا هي قادرة بالفعل على القيام بذلك.

واعتبر بن كاسبيت أن الوقت وحده هو الذي سيوفر الإجابة في مرحلة ما عن هذه التساؤلات. كاشفاً أن إسرائيل التزمت بصفقات شراء أسلحة تبلغ قيمتها مليارات الدولارات لتوسيع ترسانتها من القنابل الذكية الخارقة للأرض، وذخائر الهجوم المباشر المشترك المعروفة اختصاراً باسم (JDAM)، كما تعمل على تعزيز مخزونها من صواريخ “تامير” لنظام “القبة الحديديّة”. وهكذا فإن قائمة التسوق تشير بوضوح إلى أن إسرائيل تستعد للحرب، ليس مع إيران فقط، بل أيضاً مع أكثر من جبهة مع حماس في غزة وحزب الله في لبنان.

ويبقى المؤكد بالاستناد إلى المناورات الاسرائيلية المتكررة، أن الأسابيع المقبلة وليس أبعد منها سيتقرر خلالها مصير المواجهة سلماً أم حرباً، وكلاهما له مضاعفاته على صعيد المنطقة بأسرها، علماً أن الملفات المفتوحة أكبر من أن تصل إلى خواتيمها على وقع مفاوضات هادئة. ما يعني أنه قد يواكبها اشتعال نيران حرائق قد لا تقف عند حدود جبهة واحدة وإن بعيدة، لتشمل عدة جبهات دفعة واحدة أو بالتدريج. وهذا سيكون له حساباته ومضاعفاته ونتائجه.

 

 

 

 

Leave a Comment