سياسة

اللبنانيون بين جحيم منظومة الطوائف ونيران التدخلات الخارجية

زكي طـه


لم يكن أمين عام الأمم المتحدة بحاجة لزيارة لبنان للإطلاع على أوضاعه العامة وما هو فيه من أزمات تهدد مصيره. لأن لديه الكم الكافي من التقارير التي أعدها موفدوه ومسؤولو مكاتب منظماتها في لبنان حول جميع الملفات المتعلقة بالأوضاع السياسية والاقتصادية وحقوق الانسان وشؤون التنمية والفقر والتربية واللاجئين الفلسطينيين والنازحين السوريين، بالاضافة إلى المراقبين الدوليين وقوات اليونيفيل المعنية بتنفيذ القرارات الدولية وترسيم الحدود بين لبنان والعدو الاسرائيلي. لكنه تعمّد هذه الزيارة أولاً لتأكيد تضامنه بما يمثل مع الشعب اللبناني، وهو الموقف الذي استهل به زيارته لحظة وصوله. وثانياً لإبلاغ المسؤولين رسالة واضحة باسم المجتمع الدولي، ومطالبتهم القيام بواجباتهم كي يستحقوا شعبهم، وفق قوله.

المؤكد أن السيد غوتيريش استمع جيداً إلى مطالعات وروايات أهل الحكم كل على حدة حول أوضاع البلد، كما التقى العديد من المرجعيات السياسية والدينية وقادة الأجهزة الأمنية. وبذلك عاين على نحو مباشر كفاءة ودهاء المسؤولين في التضليل والتعمية والتهرب من المسؤولية، وهم الذين يديرون البلد ويتولون الحكم والسلطة فيه. كما لمس حجم الخلافات بينهم وانعدام حس المسؤولية الوطنية والانسانية  لديهم. ولذلك وبعد جولته على الرؤساء الثلاث الذين لا يلتقون إلا لأخذ الصور التذكارية، لم يتردد في القول لهم وعنهم: “لا يملك القادة السياسيون في لبنان عند مشاهدة معاناة الشعب اللبناني، الحق في الانقسام وشل البلد”.  كلام واضح لا يحتمل الالتباس ليس في تحميل من التقاهم كامل المسؤولية عن معاناة مواطنيهم وحسب، بل في إدانة سلوكهم وأدائهم الانقسامي في إدارة الظهر لمعاناة اللبنانيين وحول مصالح البلد، والنظر لها والموقف منها حيث لكل منهم مطالبه وشعاراته وخطابه، لأن كل منهم يغني على ليلاه.

أما أبرز الفضائح التي انفجرت بالتزامن مع زيارة السيد غوتيريش، فقد تمثلت أولاً، في فشل المجلس الدستوري المعلّب بحكم تشكيله وفق قواعد المحاصصة الطائفية والفئوية، ما جعله عاجزاً عن البت في الطعن المتعلق بالتعديلات التي ادخلها مجلس النواب على قانون الانتخابات النيابية. الأمر الذي سيكون له نتائج خطيرة على الأوضاع العامة، ومقررة لمصير الانتخابات التي لا ترغب أكثرية أطراف السلطة في حصولها. خلافاً للوعود التي تطلقها للتخفيف من الضغوط الخارجية والمطالبة بإجرائها في موعدها.

وثاني الفضائح، جولة جديدة من الخلافات بشأن الحكومة الممنوعة من الاجتماع منذ ما يقارب ثمانين يوماً من عمرها البالغ مائة يوم. وهي التي تألفت بقرار ايراني وموافقة فرنسية وتغاضٍ اميركي، بعد أكثر من عام من الفراغ الحكومي. لأن انعقاد مجلس الوزراء لتسيير شؤون البلاد والتحضير للمفاوضات مع صندوق النقد الدولي، مرتبط بتنفيذ طلب الثنائي الشيعي، كف يد المحقق العدلي بانفجار المرفأ. والدعوة له ستؤدي إلى استقالة الوزراء الشيعة وحلفائهم، ما يعني إقالة الحكومة وتكليفها تصريف الاعمال خلافاً لرغبة رئيسها.

وعليه، فقد أتيح للأمين العام للأمم المتحدة أن يشهد فصولاً معبرة من فضائح السلطة وخلافات المسؤولين، ومعاينة مستوى الكفاءة لدى قادة البلد في ممارسة الحكم وإدارة مؤسسات الدولة خلافاً للدستور والقوانين، وكيف تنتهك حرمة القضاء والعدالة وحقوق المواطنين. وبالتأكيد قد بلغته أخبار صفقة المقايضة بين هؤلاء بشأن عزل المحقق العدلي مقابل إلغاء التعديلات على قانون الانتخابات. والتي كان سبب فشلها عدم توازن منافعها بين من يعنيهم الامر وليس نزاهة أي منهم.

ومما لا شك فيه أن قادة المنظومة الحاكمة بجميع أحزابها وتياراتها يعرفون جيداً عوامل قوتها وضعفها في آن. ويعلمون أيضاً أنهم المسؤولين أولاً عن أحوال البلد الكارثية، وعن شلل مؤسسات الدولة والانهيار الاقتصادي ـ المالي. وهم الذين  يحكمون ويتحكمون بمصائر اللبنانيين وشؤون حياتهم  بقوة مواقعهم في السلطة وخارجها، وعبر خلافاتهم وصراعاتهم على مواقع السلطة ومغانمها.

إنها مشكلة اللبنانيين مع النظام الذي يشكل مصدر أزماتهم وانعدام الاستقرار في بلدهم. وهم الذين يُحكمون وفق آلياته، التي تساهم في تأبيد انقساماتهم، وإعادة انتاج التخلف بكل مندرجاته، سواء في ميادين الثقافة السياسية، أو على الصعيد الاقتصادي ـ الاجتماعي. وإن الحكام هم المسؤولين عن شلل مؤسسات الدولة وأجهزتها الإدارية والأمنية، وعن انهيار قطاعات الخدمات والصناعة والزراعة والمصارف والنقد الوطني على نحو شبه تام. كما عن نهب الخزينة وأموال اللبنانيين وافقارهم، ودفع البلد إلى الفوضى العامة والفلتان الأمني الواسع.

أما المطالب الاصلاحية واستعادة سيادة وقرار الدولة في السياسة والاقتصاد والأمن، والعمل على وقف التدهور أو الحد من مضاعفاته. فقد ملّ اللبنانيين سماعها لكثرة تكرارها، سواء على ألسنة  قادة الداخل أو مسؤولي الخارج، والمؤكد أنها ستبقى في دائرة الأوهام بالنظر لاستحالة تحقيق أو تنفيذ أي منها من قبل قوى السلطة.
والأسباب في ذلك، أن حزب الله لن يوافق على ما يعتبره استهدافاً له، كما عبّر عن ذلك صراحة نائب أمينه العام الاسبوع الماضي. أما بقية منظومة السلطة، فإنها وبحكم  طبيعة قواها الطائفية والمذهبية، تبقى عاجزة عن الحد من قدرة الحزب التعطيلية أو من تفرده في التحكم بالقرارات والسياسات العامة بقوة الأمر الواقع.  ولذلك تبحث عن مصادر قوة خارجية، للاستعانة بها، إما للاحتفاظ بمواقعها في السلطة، أو لإقامة توازن يضمن لها استمرار أدوارها.

وعليه، فإن صيغة دستورالطائف، وما طرأ عليها من تعديلات وتسويات متتالية، قد باتت جميعها في حكم المنتهية الصلاحية راهناً. اما المضمر لدى كل طرف فهو البحث عن تسوية جديدة تضمن له دوره، وتسهِّل له تحقيق طموحاته. غير أن التسوية المتخيلة لدى هؤلاء يستحيل إنتاجها محلياً لأن أحداً ليس بوارد تقديم أي تنازل للآخر.

ورغم الحاجة الملحة لصيغة حكم جديدة ولو مؤقتة تُخرج البلد من قاع الهاوية،  فإن الأمر متعذر محلياً، كذلك هو متعذر دولياً واقليمياً. لأن أي صيغة بديلة تتطلب انضاج الظروف المحلية والخارجية لانعقادها. ولذلك فإن اللبنانيين محكومون بالانتظار في ظل الانهيار. علماً أن أي تسوية، تبقى غير قابلة للحياة أو لإقامة الحد الأدنى من الاستقرار إذا لم تتوفر لها الضمانات الكافية، نظراً للخلل الفادح في توازن القوى المحلي والانقسام الأهلي الطائفي والمذهبي والصراعات المتفجرة في ساحات المنطقة وعليها. وما يؤكد ذلك الفشل والسقوط المريع للتسويات منذ اتفاق الدوحة، ورئاسة ميشال سليمان ومقررات بعبدا. ثم رئاسة ميشال عون وكل صيغ الحكومات التي أتت في ركابها، بما فيها الحالية التي اصبح اجتماعها مطلباً دولياً وأممياً.

ولذلك لن يكون مستغرباً أن تتكاثر اللقاءات والمشاورات الدولية وحركة الموفدين لحث اللبنانيين حكاماً ومواطنين على القيام بما يتوجب عليهم من مسؤوليات، أو لتجديد الدعوات الاصلاحية والشروط اللازمة لتقديم الدعم والمساعدة، بما فيه اطلاق التحذيرات والتهديد بالعقوبات. والتي تبقى بمجملها غير قابلة للصرف لدى قوى السلطة التي تُمعن في العبث بحقوق ومصالح البلد وأهله.

اما الوجه الآخر لاستعصاءات الوضع اللبناني رغم المخاطر الزاحفة، فإنه يكمن في التعثر المديد لتشكيل حركة معارضة ذات وزن اجتماعي فعلي. وذلك نظراً لشرذمة القوى والمجموعات التي تستظل رايات الانتفاضة والتغيير. حيث تتعدد الرهانات والأهواء والبرامج والشعارات التي تحلِّق في الفراغ بعيداً عن الواقع بكل معطياته. كما تعاظم الأوهام وتزيد الخلافات بينها، على رافعة الانتخابات التي لا تزال مجرد احتمال. وأمام  تكاثر المنصات لتنظيم الانتخابات وادارتها بما يتوافق مع مرجعياتها السياسية، التي تمولها محلياً أو خارجياً.  فقد تحول موسم التحضير للانتخابات بازاراً مفتوحاً لاستقبال طلبات المرشحين الباحثين عن أدوار أو منافع، وسط  تنافس محموم  وابتزاز مكشوف ومتبادل  بين  تلك المنصات لاستقطاب أكبر عدد من المجموعات والناشطين الساعين لحجز مواقع لهم  في مشاريع اللوائح الانتخابية المحتملة.

وأمام ضجيج  المجموعات الاعلامي، وتكاثر أعداد المرشحين، فإن الغالب على أداء اطراف السلطة هو التريث، نظراً لاطمئنان أكثرها للنتائج المتوقعة، ولرجحان عدم حصولها. يؤكد الأمر تبادل نصب الأفخاج للاطاحة بها، كما تجلّى الأمر في  الخلاف حول تعديلات القانون، خصوصاً بعد فشل الطعن بها، وانفجار الصراع بين  تيار العوني والثنائي الشيعي على نحو غير مسبوق. وتداعيات ذلك على استحقاقي الانتخابات النيابية والرئاسية في ظل الطموحات غير المشروعة لسائر الاطراف، وسط تجاهل تام لخطر الانفجار الشامل الذي تتكاثر التحذيرات الدولية والأممية من نتائجه المدمرة.

أما الحالمون بالتغيير السريع  وقلب موازين القوى الداخلي على رافعة  الانتخابات والدعم الخارجي للشعب اللبناني، فإنهم يكررون الهروب من جحيم منظومة الطوائف إلى نيران التدخلات الخارجية. فيما الأجدى للبلد هو الاستفادة من التجارب السابقة التي لا تزال حاضرة في ذاكرة اللبنانيين الخائفين من الخطر الزاحف الذي ينذر بأوخم العواقب، والمبادرة إلى تحمّل مسؤولياتهم. أن تأتي الصحوة  متأخرة لفتح كوة أمل لإنقاذ البلد من خطر الزوال أفضل من أن لا تأتي ابداً.

 

 

 

 

Leave a Comment