مجتمع

التغيير في لبنان… بين قوة الأسباب وضعف الأدوات

كتب محسن زين الدين

منذ الحراك الشعبي في العام 2015، والذي كانت شرارته الاعتراض على إدارة ملف النفايات، انتهى ذلك الحراك، بعد مد طال اغلب مناطق لبنان، ومن ثم أصابه جزر أنهاه بالحاق إدارة النفايات ومعالجتها في المناطق تبعاً للتركيبة الطوائفية مناطقياً.  ولم يطرأ أي تغيير يذكر، ولم يحرَز أي تقدم في إدارتها ومعالجتها، في ظل غياب كامل لوزارة البيئة آنذاك. وطبعاً في ظل عدم وجود خطة علمية وفعلية لإدارة ومعالجة للنفايات، رغم التحذير الدائم والتنبيه إلى تفاقم أزمتها  من قبل بعض ذوي العلم والاختصاص في ذلك الشأن. وعلى هذا انتهى الحراك آنذاك وصمدت النفايات في كل المناطق بما فيه المكبات التي امتلأت وفاضت عن الاستيعاب رغم مواعيد وقف طمر المزيد.

ورغم الفاصل الزمني بين حراك 2015 وانتفاضة تشرين 2019، وهي سنوات كانت تراكم الأسباب والعوامل الدافعة للتحركات الشعبية اعتراضاً على أداء السلطة في مختلف المجالات، ولاسيما في تدبير شؤون المواطنين، بدءاً من الوضع المعيشي المتفاقم صعوبة حتى الاستحالة لبعض الفئات، خصوصاً ذوي الدخل المحدود وأصحاب رواتب الحد الأدنى والسائقين العموميين، اضافة إلى المعلمين وبالأخص المتعاقدين منهم. وينسحب الأمر على  شريحة كبيرة من الشباب لبنان، مروراً بكل المتقاعدين إن كانوا من موظفي القطاع العام أو العاملين في القطاع الخاص. هذا إلى جانب استحالة الحصول على الخدمات العامة. ففي المجال الصحي باتت الخدمة الطبية حلماً للمواطنين، وحكراً على اصحاب الثروات والمحظيين في السلطة. أما خدمة الكهرباء العامة فإنها اختفت ولُزمت إلى اصحاب المولدات وتجار المحروقات، الذين يتحكمون باسعارها واوقاتها تحت حجج فقدان مادة المازوت وتضاعف أسعارها. أما بخصوص القيمة الشرائية للعملة الوطنية فقد تدنت إلى ما دون أي مستوى لأي عملة وطنية في أي بلد آخر في العالم اصابه الانهيار الاقتصادي. اضف إلى ذلك مشكلة مستعصية على الحل أصلاً، وهي مشكلة تفاقم أعداد العاطلين عن العمل من اولئك الذين صُرفوا من وظائفهم وأعمالهم، إلى المتخرجين الذين لا يجدون  فرص عمل. مضافاً إليهم اصحاب الحرف الصغيرة والمؤسسات الصغيرة الفردية الذين لم تعد لديهم القدرة على المنافسة في سوق العمل منذ أمد طويل. واجبرتهم الظروف على اقفال محالهم ومشاغلهم، والتوقف عن ممارسة اعمالهم الحرفية التي لم تعد تغنيهم عن جوع.

فاقمت جائحة كورونا من مشكلات ذكرناها آنفاً وعجلت في انكشاف القطاع الصحي بأكمله العام والخاص، إن لجهة التقصير القاتل في العام الذي لم يتسم بخدمة صحية جيدة لعدم اهتمام الدولة به اساساً، وعدم تجهيزه بما يسمح بتقديم الخدمة اللازمة للمواطنين، أو لجهة الاستغلال الواسع من قبل القطاع الخاص تحت ذرائع وحجج واهية، وفي مقدمها علاقة هذا القطاع بالدولة وما استحق من ديون بسبب ارتفاع اسعار الاستشفاء، حيث لا رقيب ولا حسيب على اسعار الخدمات الصحية في هذا القطاع.

اما علة العلل فهي الفساد المستشري في شرايين مؤسسات الدولة، وتلك  التي على تماس مع قضايا ومصالح المواطنين، ولا ضرورة لتعداد هذه المؤسسات والوزارات لأن قائمتها تطول، ولأننا جميعاً بتنا على معرفة بها، وحتى على معرفة بأدق تفاصيل الفساد والرشوة فيها.

إن ما تقدم ذكره من أزمة معيشية ضاغطة على انفاس اكثرية الشعب اللبناني، مضافاً إليها أزمة النقد وانخفاض القيمة الشرائية لدخل المواطن، إلى جانب شبه الموت السريري لكل الخدمات الصحية والطبية للمواطنين، مترافقة مع هجرة الكفاءات الطبية من اطباء وممرضين، إلى جانب هجرة الشباب وحتى الكثير من العائلات، بالتزامن مع ارتفاع أعداد العاطلين عن العمل، كل ذلك يتوّجه استفحال فساد مستشرٍ واهمال متفاقم.

كل هذه الأسباب التي ذكرت والتي لم تذكر، انما تشكل قوة دفع كبيرة جداً نحو مشروع خطوات تغيير لا بد منها. إن هذه الاسباب مجتمعة، هي كتجمع الغيوم السوداء، التي تنذر ببرق ورعد، باعتبارهما مقدمات مطر غزير، لكن ماذا لو أن سماءنا رغم كل الأسباب وقوة وكثافة تجمعها وضغطها لم ترعد ولن تبرق ايذاناً بالتغيير. ذلك لأن ادوات التغيير وقواه لم تتشكل بعد، حيث أن ما انتجته انتفاضة تشرين هو مجموعات اعتراض على أداء السلطة الممسكة بمفاصل الدولة والبلاد والمواطنين، رغم بعض الشعارات العامة، على نسق “كلن يعني كلن”. لكن مجموعات الانتفاضة، عرّج كل منها نحو اتجاه وطريق منفصلاً عن الآخر. وهكذا تشكلت مجموعات لا صلة بينها ولا رابط بين شعاراتها المتفرقة، وإن كانت مجمل الشعارات المرفوعة  صحية وصحيحة، لكنها لم ترقَ إلى صياغة مقدمات برنامج واحد شامل. ولذلك شاهدنا في التحركات مجموعات منفصلة لا تداخل في ما بينها ولا تواصل. ولذلك بقيت هذه المجموعات في ساحات الاعتراض فقط على أداء السلطة. وظلت شعاراتها عند حدود التعبير عن الاعتراض، ودعوة للمحاسبة، واسترداد الأموال ا”لمنهوبة والمهربة” وتأليف حكومة “اختصاص”، وما إلى ذلك من شعارات ومطالب، لا ترقى إلى  مشروع تغييري، لافتقادها إلى أدوات تغيير شعبية متماسكة منظمة متسلحة ببرنامج شعبي اجتماعي شامل واضح علماني ديمقراطي.

إن واقع الحال كما آلت إليه التحركات ما بعد انتفاضة تشرين، انتجت جماعات تمارس فعل الاعتراض على ممارسة السلطة وإدارتها لشؤون البلاد، لذلك، فإن هذا الاعتراض لا يتجاوز المطالبة بتصحيح مسار السلطة وتغيير بعض الوجوه فيها. بمعنى أن هذه المجموعات هي مجموعات اعتراض وليست قوى تغيير كونها لا تحمل برنامج تغيير سياسي، ولأنه حتى اللحظة لم يولد من رحمها قوى او قوة تغيير، لفقدانها برنامج سياسي شامل للتغيير تحمله فواها، وتناصرها جماهير واثقة أن مستقبلها ومستقبل اجيالها الآتية يتمثل بقيام دولة مدنية علمانية ديمقراطية، للمواطنة مكانها الأول فيها بغض النظر عن الانتماء والمعتقدات والآراء.

لذلك نقول رغم مرور ما يقرب من السنتين على ولادة الانتفاضة، أننا لا نزال في مرحلة الاعتراض على اداء السلطة. بينما اغلبنا يأمل أن تتحول الانتفاضة ومجموعاتها إلى قوة  أو قوى تغيير حقيقي، شعارها “نحو اقامة دولة مدنية ديمقراطية علمانية”. لكن قبل ذلك لا بد من العمل جميعاً لتأسيس قوى منظمة وحتى حزبية جديدة. قواعدها مواطنون ينتمون لمذهب الديمقراطية، ذلك أنه لم يعد مقبولاً أن تنمو وتتصدر العمل السياسي أحزاب وتنظيمات ومنظمات وحركات شرط الإنتماء إليها الانتساب بالولادة إلى طائفة أو مذهب، وتستعمل كل وسائل الصراع الديني والطائفي، ما من شأنه أن يدمر مقومات  العيش “المشترك”. دون أن  يبني دولة الشعب الواحد، بل على العكس يفكك الكيان إلى مكوناته السابقة على عصر قيام الدولة.

 جماهير الانتفاضة والحراك الشعبي قوة ثمينة يمكن البناء عليها، فهل من يتعظ، حتى لا يبقى حديد السلطة الفاسدة اقوى من مطرقة التغيير الديمقراطي!.

Leave a Comment