سياسة مجتمع

التعليم الخاص تحت حماية سلطة المحاصصة الطائفية والرسمي يسلك مساراً متسارعاً نحو الانهيار الشامل

نضال فقيه

تفاقمت أزمة التعليم العام في لبنان خلال السنتين الأخيرتين بشكل غير مسبوق كما باقي القطاعات الخدماتية والاقتصادية بفعل انتشار فيروس “كورونا” من جهة، والازمة الاقتصادية والمعيشية التي تمر بها البلاد من جهة أخرى. وهي الأزمة التي تستمر للعام الثالث على التوالي، ما يضاعف نتائجها المدمرة على القطاع التعليمي والتربوي بشقيه الخاص والرسمي. واذا كانت تلك الانعكاسات قد أصابت القطاعين على حد سواء، فان نتائجها على التعليم الخاص تبدو أقل وطأة منها على التعليم الرسمي الذي بات في حالة من التردي والانهيار المتسارع، تهدد مصيره بشكل كامل بالرغم من انه يشكل الاساس في بناء دولة المواطنة الواحدة وتحقيق العدالة وتطبيق القانون وسيادة عمل المؤسسات.

تساعد مجموعة من العوامل التعليم الخاص على مواجهة الأزمة الصحية والاقتصادية الراهنة بمرونة كبيرة وتوفير الحد الأدنى من مقومات استمراره. ومنها الهامش الكبير جدا الذي يتمتع  به والذي يستطيع من خلاله اتخاذ الاجراءات التربوية والتعليمية والمالية والإدارية بالسرعة المطلوبة لمواجهة الأزمة الصحية والاقتصادية. ناهيك عن عدم الخضوع عملياً للحد الأدنى من الرقابة التربوية، وامتلاكه القدرات المالية والاكاديمية والتقنية التي تساعده على إلزام المعلمين بالتوجهات التي يقررها للمحافظة على وظيفتهم، وتجاوب الأهالي مع تلك التوجهات بسبب همهم الاول والاخير، وهو تعليم أبنائهم حيث تمكنت مؤسسات التعليم الخاصة الكبيرة من تنفيذ عملية التعليم عن بُعد والتعليم المدمج بالحد الأدنى المقبول من الانتاجية.

وتوفر الدولة في لبنان بمؤسساتها المختلفة حكومة ووزارة تربية ومجلس نيابي للتعليم الخاص الاهتمام والرعاية، وهو الذي يمثل بالنسبة لأطرافها المختلفة استثماراً مالياً لمراكمة الثروة من جهة، ومجالا حيويا لاعادة إنتاج ايديولوجيتها الطائفية من جهة أخرى، وبالتالي فرض سلطتها والتحكم بإدارة الدولة والمجتمع، حتى وصل الامر ببعض أصحاب المدارس الخاصة لمطالبة الدولة بتكليفهم إدارة التعليم الرسمي. وكان آخر فصول الرعاية للتعليم الخاص اصرار رئيس لجنة التربية النيابية بهية الحريري بأخذ موافقة اهالي الطلاب على تعديل القانون رقم (515) الذي يحدد الموازانات التي يجب أن تعتمدها المدارس الخاصة، وكيفية توزيع النفقات، وتعديل نسبها في موازنات هذه المدارس من دون أي دراسة لانعكاساتها التربوية والاجتماعية على الأهل والطلاب، واستيفاء رسوم التسجيل في المدارس الخاصة مع إقرار الزيادات عليها بما فيه التوجه نحو فرض تقاضيها بالدولار الاميركي.

وفي المقابل يبدو التعليم الرسمي في حالة من التردي والتدهور المستمر الذي وصل إلى حد إقفال العديد من المدارس الرسمية في المناطق الجبلية والأرياف، لعدم توفر مادة المازوت للتدفئة وعجز الكثير من الاهالي عن إرسال أبنائهم الى المدرسة بسبب ارتفاع كلفة النقل أضعافاً مضاعفة جراء ارتفاع سعر البنزين. وكان قد سبق ذلك الفشل المدوي لتجربة التعليم عن بُعد والتعليم المدمج لعدم وجود أي استعداد وإن كان بالحد الأدنى لهكذا تجربة تعليمية من قبل وزارة التربية، والذي فاقمه الانقطاع شبه الدائم للتيار الكهربائي وضعف الانترنت.

ويعود التدهور المستمر في مستوى إنتاجية التعليم الرسمي إلى ما قبل الأزمة الصحية والمعيشية الأخيرة. ومرده إلى الاهمال والتهميش المزمن الذي يعانيه هذا القطاع التربوي من قبل الحكومات المتعاقبة منذ بداية التسعينيات. ما جعل حصته  من عدد التلامذه في لبنان تتقلص الى حوالي 30 بالمئة من العدد الاجمالي في لبنان، بالرغم من ارتفاع عدد التلامذة السوريين الذين التحقوا بمدارس التعليم الرسمي نتيجة نزوح اهاليهم. واستقبال العدد الاكبر منهم، ودمجهم مع  التلامذة اللبنانيين من دون خطة تعليمية، تأخذ بالاعتبار التفاوت بين المناهج اللبنانية والسورية خاصة في اللغة الاجنبية. ومثل هذه العملية أثرت بشكل سلبي على أداء المدرسة الرسمية ومستوى طلابها من اللبنانيين والذي ترافق مع توجه وزارة التربية اعتماد آلية التعاقد العشوائي في ظل القوانين الصادرة منذ عام 2001، والتي الغت بموجبها شرطي الإعداد التربوي والعمر. وعندما صدر فيما بعد قرار بوقف التعاقد ظهر شكل اخر للتعاقد وهو “المستعان بهم”. وكان بمثابة تعاقد استنسابي آخر يصب في خدمة الزبائنية السياسية والمحاصصة الطائفية بعيداً عن معيار الكفاءة. ونتيجة لذلك قارب عدد المتعاقدين 20 ألف استاذ متعاقد، أي ما يوازي عدد أساتذة الملاك.

وراهناً  تعجز المدرسة الرسمية عن النهوض من أزماتها، بدءاً  من تطوير المناهج التعليمية وتأهيل المعلمين وإصلاح البنى التحتية وتأمين تجهيزات تقنية صفية قادرة على التفاعل مع التعليم بوجهيه المباشر وعن بُعد. في الوقت الذي تقوم فيه وزارة التربية بدعم المدارس الخاصة (المجانية) وبمبلغ  يقارب 170 مليار ليرة سنوياً. مقابل غياب أي دعم مالي من قبلها للمدارس الرسمية، التي تشكو إدارتها من تأخر الوزارة عن دفع مستحقاتها المتعلقة بالقرطاسية والكتب المدرسية التي تتأخر بدورها عن الطباعة والتوزيع بالرغم من مضي بضعة أشهر على بداية العام الدراسي. ويتأكد يوماً بعد آخر أن الدولة تتحمل المسؤولية في إضعاف التعليم الرسمي، مما يعيد الاعتبار إلى دور التحركات الطلابية والروابط التعليمية في إعادة استنهاض قطاع التعليم الرسمي في لبنان إلى الواجهة مجدداً. وهو ما بدأت اللجان النقابية في التعليم الرسمي العمل من أجله عبر تشكيل لجنة نقابية في كل مدرسة كي تتولى تنظيم عملية مشاركة المعلمين في التحرك الإنقاذي الفعّال والمؤثر في الشارع، والذي لا خيار سواه بدءاً بالاعتصام والاضراب وصولاً إلى التظاهر حتى تصحيح الرواتب التي خسرت حوالي 95 بالمئة من قيمتها والنهوض بالتعليم الرسمي إلى أفضل مستوى ممكن من التقدم والانتاجية. وما يضاعف من ضرورة هذه التحركات حصيلة ثلاثة أعوام من النزف على صعيد الأساتذة والطلاب والمستوى التعليمي. وكي لا تعمق نتيجة وباء كورونا  الفرص المهدورة أمام أجيال لا تعاني فقط من نتائج الأزمة الاقتصادية والمعيشية والصحية، بل تخسر فرصتها في متابعة دراستها والنفاذ من الجوائح التي تتعرض لها.

Leave a Comment