سياسة

السودان أمام مخاطر كيانية تتجاوز ما تعبِّر عنه استقالة حمدوك

كتب محرر الشؤون العربية

مع اعلان رئيس الوزراء السوداني عبد الله حمدوك استقالته من موقعه، وعجزه عن المجيء بحكومة من التكنوقراط المستقلين تعمل على إكمال نقل البلاد من الثنائية التي طبعت حياتها السياسية منذ الإطاحة بحكم الرئيس عمر البشير قبل ثلاثة أعوام، تبدو البلاد أمام خيارات أحلاها مر. وكان رئيس المجلس السيادي في السودان الجنرال عبد الفتاح البرهان قد قاد عملية انقلابية قبل أقل من شهرين ( 25 تشرين الأول / الكتوبر الماضي ) على حمدوك ووضعه تحت الإقامة الجبرية، لكنه أمام سلسلة تحركات شعبية وضغوط دولية واقليمية اضطر مرغماً على إعادته إلى السلطة ضمن اتفاق ثنائي لم يكتب له النفاذ على الصعيد السياسي.

والواقع أن السودان ومنذ العام 2019 تاريخ الإطاحة بالبشير وعلى وقع المطالبة الشعبية الداخلية والخارجية الواسعة، اضطر العسكريون الذين دأبوا ومنذ عقود طويلة على ممارسة السلطة منفردين إلى الإنحناء أمام العاصفة والاعتراف بالتالي، بثقل ووزن التيار الشعبي المطالب بعودة الحياة الديموقراطية إلى البلاد. وارتضوا بتقاسم السلطة مع مكونات التيار، مضمرين الانقلاب عليه متى تسنح الظروف. إذن كانت البلاد خلال هذه السنوات الثلاث تتراوح بين عودة الحياة المدنية وقرار العسكر عدم التخلي عن السلطة، مما أوقع حمدوك بين هذه المعادلة التي عجز معها عن التصدي للإشكاليات الكبرى التي يعيشها السودان، ليس على المستوى السياسي فحسب ، بل على الصعد الاقتصادية والاجتماعية والمعيشية أيضاً. وأمام ضغوط الجناح العسكري المتمركز في مؤسسة الجيش وداخل المجلس السيادي ومعه العديد من القوى الميليشياوية، وجد حمدوك نفسه عاجزاً في غضون الأشهر الثلاثة الأخيرة خصوصاً، عن إعادة تشكيل حكومة تحظى بتأييد الرأي العام الداخلي والدولي. هذا جانب والجانب الموازي يتمثل في تلك المساعي الدؤوبة التي بذلها العسكريون من أجل تحريك الشارع ضد حمدوك من جهة، وضد الخيار المدني الديموقراطي بالأصل من جهة ثانية. وما سرَّع في الوصول إلى لحظة الانفجار التي تمثلت في حل الحكومة والمجلس السيادي وكل المؤسسات التي جرى الاتفاق على تشكيلها تعبيراً عن الشراكة بين العسكريين والمدنيين، كانت عملية التلاعب بمكونات الانتفاضة على حكم البشير من خلال العمل على تفكيكها، وبالتالي تعريض الكتلة التي نجحت في إقصاء البشير نفسها للانقسام بين قواها المتشكلة منها، وجذب أجزاء منها إلى مدار مواقع قوة السلطات العسكرية.

إذن يمكن القول إن النهاية التي وصل إليها حمدوك قطعت الطريق على ما تبقى من عمر الانتقال نحو إعادة الاعتبار لقيام الدولة المدنية الديمقراطية. والمؤكد أن هذا المسار الانقلابي من شأنه أن يضع السودان، وهو بلد يعاني من انقسامات إثنية واجتماعية ومناطقية عميقة ومسلحة، أمام امتحان متجدد قد يقود إلى إغراقه في لُجة كارثة أين منها ما سبق ومرّ عليه، خصوصاً مع تعدد اللاعبين المحليين والاقليميين الذين لهم أدوار لا يستهان بها، وإغراقه في حمّى الفوضى الأهلية المسلحة التي لم يخرج منها في غضون الاعوام الثلاث المنصرمة بدليل تعثر المسيرة السلمية وبقاء الأحوال معلقة على ما هي عليه من اضطراب كياني من جهة وقبلي – جهوي من ناحية ثانية. وما يضاعف من هول الاحتمالات المطروحة هو ما سبق وعاشه البلد من صراعات نجم عنها تمزيق وحدة ترابه ونشوء دولة جنوب السودان التي انفصلت عن كيانه، بعد أن جرى تطبيق الشريعة الاسلامية عليها بفعل تحالف عسكري – اسلاموي قصم ظهر الحياة السياسية وامكانية قيام علاقات ديموقراطية بين مكونات البلاد بتعددياتها وتنوعها.

لقد راهن حمدوك خلال فترة الأشهر الثلاثة على حوار لم ينشأ أصلاً بين المكونات السودانية. فالعسكر الذي نظموا الانقلاب، ونتيجة بعض الاختراقات التي نجحوا في تحقيقها قرروا مواصلة تراثهم التاريخي،  لم يبدوا عن استعداد للتنازل عما يعتبرونه مكتسبات لهم تحققت بفعل التراكم الانقلابي منذ ما قبل حكم البشير. ما مكنهم من الإمساك بمفاصل الحياة السياسية والاقتصادية والمدنية. لذلك يمكن القول إن هؤلاء يراهنون على بقاء أدوارهم حاسمة في إدارة شؤون البلاد ورفض التنازل للمدنيين عن أي مكتسب تحقق خلال عقود متلاحقة. ولعل الصعوبات التي واجهتها الحكومة الانتقالية التي سبق وشكلها حمدوك فاقمت الوضع لجهة تقطع قنوات الحوار الداخلي، والعزلة الدولية ومسألة الديون الخارجية المتراكمة والتي باتت بحدود الـ 60 مليار دولار. ومع أن الحكومة الانتقالية نجحت في إدارة بعض الملفات، ولاسيما رفع البلاد عن لائحة الارهاب وما تضمنه الاتفاقات مع العسكر من تنازلات ظلت نظرية ولم تتحول إلى وقائع في حياة البلاد، الا أن الكثير من القضايا الأساسية العالقة قادت إلى الاختناق التام بين مكوناتها من جهة، ومع العالم الخارجي من جهة ثانية. وعليه، وبفعل وطأة الأزمة المركبة لم يتمكن حمدوك وهو الخبير الاقتصادي والمسؤول السابق لدى الأمم المتحدة أن ينتقل بالبلاد خطوات إلى الأمام من خلال تشكيل حكومة كفاءات تدير البلاد حتى العام 2023 موعد اجراء الانتخابات النيابية المقبلة. وهكذا تعطلت عجلة التقدم عن الدوران بفعل كم التراكمات التي انتصبت في وجه مشروع المسيرة نحو استعادة الحريات العامة والحياة البرلمانية بعيدا عن الثكنات والأجهزة العسكرية سواء أكانت نظامية أم ميليشياوية.

لكن عملية الإطاحة بحمدوك وإن تمثلت باستقالة من جانبه، لم تمر مرور الكرام على الشارع السوداني الذي قابل تطورات الموقف بمزيد من استمرار الاحتجاجات ضد الإجراءات الاستثنائية التي فرضها الجيش خلال الانقلاب، وما تبعه من اتفاق مع حمدوك في 21 تشرين الثاني/نوفمبر، فقد خرج عشرات آلاف من السودانيين في تظاهرات سار بعضها  نحو القصر الرئاسي في الخرطوم وأطلق عليها اسم “مليونية الشهداء”، متحدين الرصاص الذي أودى بحياة بعض المتظاهخرين والغاز المسيل للدموع الذي أطلقته قوات الأمن السودانية، وسط انقطاع كامل جديد للاتصالات وانتشار كثيف للجنود المسلحين.

وفي مقدمة القوى التي تتولى مواجهة هذا الطور المتقدم من المخاطر المحدقة  بالسلم الأهلي في السودان، يقف تجمع المهنيين السودانيين الذي أصدر في غضون الأيام الأخيرة بنود ميثاق وضعه وافقت عليه العديد من القطاعات، وطالب خلاله التجمع بإسقاط المكون العسكري وسلطته بشكل تام، ودعا لحصر مهام الجيش في حماية الدستور والدفاع عن الوطن والمواطنين من التهديدات الخارجية وحماية الحدود.

وكان تجمع المهنيين السودانيين المكون من عدة قطاعات مهنية، قد تعرض بدوره لهزة عنيفة منتصف العام 2020 أدت لانقسامه إلى فصيلين، أحدهما موالٍ لحكومة الفترة الانتقالية المعزولة محذراً من محاولات اختطاف الكيان على يد قوى حزبية. وثانٍ يتهم مكونات الحرية والتغيير (المجلس المركزي) بالخروج عن أهداف الثورة، وعلى رأس ذلك إنجاز ملف العدالة لضحايا فض اعتصام القيادة العامة بالقوة المميتة في الثالث من يونيو/ تموز 2019.  والمعروف أن التجمع هو رأس حربة الاحتجاجات الشعبية ومن خلال موقعه وأمام تراكم العقبات من كل صوب أصدرميثاقه باسم “ميثاق استكمال ثورة ديسمبر المجيدة” ضمن مساع لتأطير حركة الاحتجاجات سياسياً، بعد استيلاء الجيش على السلطة يوم 25 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي ووضع المدنيين في الأسر والهامش. ويرسم الميثاق خارطة طريق لما بعد مرحلة استعادة المسار المدني الديمقراطي..

وعلى الرغم من الانقسام الذي اشرنا إليه، لكن الزخم ما لبث أن عاد إلى التجمع في شقه المناوئ للعسكر وللحكومة المعزولة بعد تنامي السخط في الشارع من أدائها، واستيلاء الفريق أول عبد الفتاح البرهان على السلطة، وإبرام اتفاق سياسي بين البرهان وعبد الله حمدوك. أحكم بموجبه العسكريون قبضتهم خلاله على الحياة السياسية وأصبح التجمع حاليا أحد أهم واجهات الحراك الاحتجاجي بمعية لجان المقاومة السودانية، وهي مجموعات ثورية نشطة في أحياء العاصمة والولايات، وبرزت خلال الثورة على البشير.

واشترط التجمع في بنود ميثاقه الذي جرى تسويقه لعددٍ من القطاعات من قوى الثورة ولجان المقاومة والقوى النقابية والأجسام المطلبية وحركات الكفاح المسلحة، أن يكون المختارون لجميع المناصب من المنحازين لثورة ديسمبر/ كانون الأول وأهداف التغيير الجذري بالسودان. وضمن ترسيم علاقته مع السلطة القائمة حاليا، طالب التجمع بإسقاط المكون العسكري وسلطته بشكلٍ تام.

ويتضمن الميثاق عدة بنود مخصصة لإصلاح المؤسسات العسكرية. فقد اشترط أن يحصل رئيس مجلس الوزراء المدني على منصب القائد الأعلى للقوات المسلحة ذات الطابع القومي والعقيدة الوطنية، وأن تخضع موازنة الجيش لولاية وزارة المالية. ودعا الميثاق إلى حصر مهام الجيش في حماية الدستور، والدفاع عن الوطن والمواطنين من التهديدات الخارجية، وحماية حدود البلاد.

وبشأن وضعية قوات الدعم السريع وقوات الحركات الموقعة على اتفاق سلام جوبا (أكتوبر/ تشرين الأول 2020)، طالب بـ”تفكيك مليشيا الدعم السريع، وقوات وحركات الكفاح المسلح، ودمج أفرادها وفق معايير بالقوات المسلحة”.

في البنود المتصلة بالمؤسسات المدنية، نجد أن الميثاق يتحدث عن فترة انتقالية قوامها 4 سنوات، تعقبها انتخابات تنظمها مفوضية مستقلة. وخلال هذه الفترة، يحكم مجلس وزراء مدني، يمثل السلطة التنفيذية والإدارية الفعلية للدولة.

وعن أولويات المجلس، لخصها الميثاق في “التصدي للملف الاقتصادي وقضية التنمية”. وبشأن مجلس السيادة، يتكون طبقا للميثاق من عناصر مدنية، عليهم تأدية دور تشريفي دون أي مهام أو سلطات تنفيذية، وينحصر دور المجلس في تمثيل رأس الدولة في المحافل الدولية.

أما عن المجلس التشريعي المدني، بعضويته الـ250، فهو السلطة التشريعية الثورية، والمسؤول عن مراقبة أداء السلطة التنفيذية ومجلس السيادة والمفوضيات، ويصدر التشريعات اللازمة لإرساء أسس التحول الديمقراطي، وتنفيذ برنامج إدارة هيكلة الدولة.

تشاء المصادفات أن تنفجر أزمة المعادلة السياسة في السودان وإعلان استقالة حمدوك مع احتفال البلاد بمرور 66 عاماً على استقلالها، ما يؤشر إلى عمق المأزق الذي تندفع إليه البلاد بفعل اصرار المكون العسكري على استمرار امساكه بمقاليد الأمور وقيادتها على النحو الذي تسبب بكوارث في شتى المجالات من الكيانية إلى السياسية والاقتصادية والتنموية. مع ذلك يمكن القول إنه كما جرى إرغام المؤسسة العسكرية على التراجع سابقاً قبل ثلاثة أشهر يمكن بتضافر الضغطين الداخلي والخارجي إرغامها على التخلي عن طموحاتها غير المشروعة في تكرار الكارثة وفرض عليها الانصياع إلى تشكيل حكومة تحظى بثقة الرأي العام الداخلي والدولي وإنشاء مجلس تشريعي وهيئات قضائية وانتخابية، وفتح الأبواب أمام تحولات ديموقراطية وعمليات تنمية اجتماعية وحل المشكلات المتكدسة عبر حوار مسؤول بعيدا عن لغة السلاح والاقتتال الأهلي.

 

Leave a Comment