سياسة

اقتحام الكونغرس: انقلاب أم أزمة تمثيل سياسي ونظام

كتب محرر الشؤون الدولية

شكل اقتحام الكونغرس الاميركي أثناء جلسة التصديق على نتائج الانتخابات الرئاسية في السادس من كانون الثاني الجاري، من قبل انصار ترامب الرئيس الحالي الخاسر، خطوة  إضافية في سياق محاولاته المتعددة والمستمرة للبقاء في موقع الرئاسة لولاية ثانية. وهو بما سبقه ورافقه من سجالات ومواقف، يعتبر حدثاً استثنائياً يؤكد أن أزمة التمثيل السياسي في النظام الأميركي بلغت مرحلة متقدمة، بدأت نُذرها مع فوز دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة قبل اربع سنوات، وهو الرئيس الجمهوري الذي أتى من خارج سياق نادي المرشحين التقليديين. الأمر الذي كان مفاجئاً للكثير من المراقبين والمحللين في الداخل والخارج.

   ولذلك فإن ما حدث في مبنى الكونغرس المقر الرمزي للنظام الاميركي لم يأتِ من سماء صافية، ولم يكن مخالفاً للأداء الذي حكم  أربع سنوات من ولاية ترامب،  والصيغة التي اعتمدها في اتخاذ قراراته، أو آلية الإعلان عن مواقفه وتوجهاته  في مختلف ميادين السياسة والاقتصاد والأمن والإدارة، سواء تعلق الأمر بشؤون وقضايا الداخل، لناحية تشكيل الفريق المعاون له، أو بالنسبة لتعيين وعزل الوزراء والمسؤولين. كذلك الأمر لناحية مصالح الولايات المتحدة الاسترتيجية وعلاقاتها مع سائر الدول، ما جعل  مسار رئاسته  طوال ولايته موضع جدل دائم وصراع ونزاعات قانونية ودستورية مستمرة.

   وإذا كانت مفاعيل ونتائج أداء ترامب وممارساته لن تغيب مع مغادرته للبيت الابيض، فإنها ستبقى أيضاً بمجملها موضع تحليل وتقييم ومراجعة إلى أمد طويل، باعتبارها انعكاس لمدى عمق أزمة الديمقراطية التي بلغها النظام  السياسي الاميركي، ما يشكل الوجه الآخر لمضاعفات أزمة الراسمالية الاميركية في ظل هجومها المتوحش وقيادة ترامب لمعارك هيمنتها وإدارة الحروب والنزاعات المتفجرة في سبيل السيطرة والنفوذ خدمة لمصالحها، بالتزامن مع تنظيم الصراعات لاستمرار وتكريس التحكم  بالاقتصاد العالمي في مختلف ساحاته الرئيسية سواء مع الصين واليابان والاتحاد الاوروبي، أو في الجوار الاميركي. كذلك الأمر في منطقتي الخليج والشرق الاوسط بغية اخضاع دولها، ووضع اليد على مقدراتها ونهب مواردها. وهو ما كان له نتائج  كبرى في ميادين الاقتصاد  نجم عنها تزايد حدة الاستقطابات والأزمات الاجتماعية في الداخل الاميركي بعد أزمة كورونا المستفحلة. كما كان لها أيضاً مفاعيل تدميرية اصابت العديد من كيانات ومجتمعات المنطقة، وولدت ارتدادات سياسية وامنية  متنوعة من تنامي الاسلاموفوبيا وصعود الشعبوية اليمينية المتطرفة وتصاعد أزمة الهجرة واللجوء على الصعيد العالمي. وهي المشكلات التي ساهم في تضخيمها الوباء الذي اجتاح العالم، وكان له ولم يزل مضاعفات كارثية لم ينج منها أي من اقتصادات الدول ومجتمعاتها.

      وعليه فإن اقتحام الكونغرس لتعطيل جلسة المصادقة على نتائج الانتخابات، أتى في امتداد القرارات التي اتخذها ترامب والتوجهات التي افصح عنها خلال حملته الانتخابية  للايحاء بأنه الرئيس المتوَّج، الذي يتابع خوض معاركه الداخلية والخارجية المفتوحة والمستمرة منذ  بداية رئاسته. ما شكل اساساً لرفض الرئيس نتائج التصويت الانتخابي ومحاولاته الدؤوبة والمتكررة لتأكيد فوزه، عبر طلب إعادة فرز الاصوات واقامة الدعاوى القضائية في العديد من الولايات. كما في الطلب من المحكمة العليا إلغاء النتائج المزورة للانتخابات حسب زعمه، وإقالة وعزل المسؤولين الذين لم يجاروه في ما يدعيه، وسط الاستمرار في أعلان فوزه وعدم التسليم بنجاح خصمه، ووضع العراقيل أمامه لإعاقة وتعطيل الاجراءات التحضيرية للانتقال الرئاسي وصولاً إلى محاولة تعطيل جلسة الكونغرس.

     في موازاة ذلك لم يتردد ترامب في البحث عن السبل والوسائل المتاحة أو الممكنة لتعطيل استحقاق تسليم الرئاسة ومغادرة البيت الابيض. ومن أجل ذلك وقبل جلسة إقرار النتائج، استمر في تصعيد المواقف بشأن الملفات الرئيسية على صعيد الاقتصاد الاميركي ومواجهة الوباء وعرقلة إقرار الموازنة السنوية. كما تعمد في المقابل، رفع مستوى التوتر إلى الحد الأقصى حيال الأزمات المتفجرة في الخارج وخاصة في منطقتي الخليج والشرق الاوسط، والدفع بها إلى حافة الهاوية، إن عبر تصعيد سياسة العقوبات الاقتصادية والمالية ضد النظام الايراني والميليشيات التابعة له في اكثر من ساحة، أو من خلال حشد الاسلحة الاستراتيجية والاستنفار العسكري والأمني إلى الحد الاقصى بطريقة استفزازية، واطلاق اليد الاسرائيلية في الميدان لتوجيه الضربات ورعاية التطبيع معها باعتبارها ذراع أميركية استراتيجية. وصولاً إلى تهيئة المسرح الدولي والاقليمي لاحتمالات خطر انفجار عسكري واسع مع النظام الايراني، مما يفسج المجال لاستغلاله وتعطيل استحقاق تسليم الرئاسة والانقلاب على نتائج الانتخابات.

كما لم يتورع الرئيس الخاسر من افتعال الأزمات بحثاً عن ذرائع لإحياء العمل بالقانون العرفي أو القوانين العسكرية، للحؤول دون انعقاد جلسة تصديق نتائج الانتخابات، الأمر الذي دفع بوزير الدفاع للاستقالة، وأثار الكثير من المخاوف التي جعلت ستة وزراء دفاع سابقين يحذرون من استخدام الجيش ورفع الصوت لإبقائه بمناى عن أي نزاع انتخابي، بالنظر لما يترتب عليه من مخاطر وردود فعل. 

وإذا كان الكونغرس الاميركي بأكثريته قد احبط محاولة ترامب وصدّق النتائج بأكثرية وازنة شارك فيها الكثير من الأعضاء الجمهوريين بمن فيهم نائبه بنس. فإن أداء النظام الايراني فوَّت عليه أيضاً، ذريعة انفجار الحرب في المنطقة، من خلال الاكتفاء بالتصعيد الاعلامي والإكثار من التهديدات بالرد والانتقام لاغتيال قاسم سليماني، تاركاً للميليشيات المحلية خوض معاركها الداخلية، ومحاذرة المس المباشر بالمصالح والوجود العسكري الاميركي، كي لا يتحول الأمر إلى ذريعة للرد. في المقابل نجحت ايران في استغلال الارتباك الاميركي خلال الفترة الانتقالية، وإضافة ورقة الخروج من الاتفاق النووي بشأن تخصيب اليورانيوم، إلى مجموع الاوراق التي تمتلكها في أية مفاوضات محتملة في المستقبل مع الادارة الجديدة.

  وبصرف النظر عن معالجة ما حدث ومحاصرة طموحات ترامب وربما عزله، فإن ما حدث ليس بالأمر العابر وسيكون له ما بعده من مضاعفات أشرَّت بما لا يدع مجالاً للشك على أزمة التمثيل السياسي واهتزاز النظام الاميركي، وأثر ذلك ومفاعيله أيضاً على أوضاع الحزبين الجمهوري والديمقراطي، وعلى حجم ومستوى الاستقطابات والانقسامات الأهلية وصعود التيارات اليمينية المتطرفة على رافعة الأزمات الاقتصادية، في امتداد أزمة الرأسمالية على الصعيد العالمي التي فاقمتها جائحة وباء الكورنا، ما يستدعي طرح الكثير من الأسئلة في مواجهة التحديات الزاحفة على أكثر من صعيد وميدان.

Leave a Comment