ثقافة

تجديد هوية اليسار وسط أعباء الموروث وغياب المثقف الملتزم

كتب الدكتور بول طبر

الملفت عند التفكير في أزمة إنتاج البديل اليساري عن النظام القائم في لبنان، ليس قمع السلطة، ودفاعها بشتى الوسائل عن بقاء جميع أطرافها ممسكين بمفاصلها كدولة ومؤسسات. وهذا أمر متوقع وأكثر من عادي بالنسبة لمن هو في موقع المستفيد من المنظومة الحاكمة والمحرك لها. وليس المهم تعداد أعطاب المجموعات اليسارية المنتفضة منذ 17 تشرين 2019، لجهة الشرذمة التنظيمية وتضارب الأوليات في تصنيف المطالب وقراءاتهم السياسية للأوضاع القائمة، على الرغم من الأهمية القصوى لتشريح هذا الواقع المؤلم الذي تعاني منه الإنتفاضة منذ انطلاقها. الملفت والمؤلم في الوقت نفسه، والذي ينبغي التفكير فيه والعمل على تقديم الحلول له بلا تردد، هو عدم التمكن لغاية اليوم من إنتاج رؤية سياسية- فكرية جديدة وإطار تنظيمي لقوى اليسار، ليكون ذلك بمثابة الخطوات الأولى في إعادة تعريف هوية اليسار، وانطلاق مسار انتسابه إلى القوى الإجتماعية ذات المصلحة في تبني رؤيته والنضال لتطبيقها.

أسجل هذه الملاحظة على الرغم من إدراكي الكامل لمدى تأثُّر قوى اليسار بانهيار المعسكر الإشتراكي، وبفشل الأخير كنموذج كان يُحتذى به (مع بعض التعديلات بالنسبة للقوى الشيوعية الناقدة للتجربة السوفياتية)، في سبيل إسقاط النظام الرأسمالي بجميع فروعه في البلدان الغربية وغيرها. ولكن ما هو المشهد الحالي للقوى والأحزاب اليسارية في لبنان؟

يجب أن يلاحظ المتابع أن هناك هبوطاً ملحوظاً في أعداد الملتزمين حزبياً؛ وحال تشرذم تنظيمي؛ ومغادرة البعض لأحزابهم والتحاقهم بالقوى السياسية المعرَّفة جمْعياً بـ 8 و14 آذار؛ وتوزّع من تبقى من ممثّلي التيارات الشيوعية (حزب ومنظمة) ما بين المدافع عن خطه وممارساته الماضية (حزب شيوعي أساساً) وبين الساعي إلى تجديد، لا بل إعادة تعريف، هويته الفكرية وخطه السياسي (أنظر توصيات المؤتمر الرابع لمنظمة العمل الشيوعي والمراجعات الفكرية والسياسية التي أجرتها المنظمة منذ 1990)، وإنما بقوى ذاتية ضئيلة جداً مع خسارة الإنتساب إلى الحوامل الإجتماعية لمشروعه الجديد (والعسير)؛ وأخيراً بروز مجموعات شبابية يسارية ذات حماس عالٍ وتوجه مطلبي مجزّأ، ومجموعات فاقدة للثقة بالأحزاب اليسارية التقليدية وبقياداتها.

هنا ينبغي الإقرار بأن الطرف الوحيد الشيوعي الذي أخذ على عاتقه أن يجري مراجعة نقدية لمواقفه الفكرية والسياسية خلال الحرب الأهلية وللنظرية والتجربة الشيوعية التي كان ينتسب إليها هو منظمة العمل الشيوعي (أنظر وثائق المنظمة على صفحة الفايسبك المسماة “بيروت- الحرية”). وبعد انكفاء المنظمة عن العمل السياسي العام ما يقارب العشرين سنة، وما استجر ذلك من تداعيات سلبية على نموها العددي وضمور حجمها في الفضاء العام، عادت تدريجياً إلى الإنخراط في العمل السياسي العلني منذ 2015، وهي الآن تطرح مهمة إعادة تعريف هوية اليسار الفكرية والسياسية للنقاش العلني. والأهم في هذه الدعوة إعتبارها أن هذه المهمة جماعية، تعني مختلف التيارات السياسية اليسارية والمثقفين الملتزمين على الساحة اللبنانية.     

إلا أن هذا الأمر يدفع بنا إلى طرح بعض الملاحظات حول المشهد الفكري-السياسي العام في لبنان. المطلع على هذا المشهد يتبين له أن هناك كتابات متنوعة ومتناثرة لمثقفين يساريين وحزبيين سابقين وليبراليين نقديين ونسويين. ويمكن لهذه الكتابات أن تشكل المواد الأولية في ورشة بناء هوية فكرية-سياسية جديدة ومتجدِّدة لليسار، شرط أن ينهض أصحابها بمسؤولية الحوار فيما بينهم من جهة، وبينهم وبين القوى اليسارية المنفتحة على فكرة التغيير، من جهة أخرى.

فما الذي يمنع من إطلاق هذه الورشة الحوارية والهادفة في النهاية لصياغة رؤية فكرية وسياسية – برنامجية لتغيير النظام نحو الأفضل على مختلف المستويات؟ هل هو طغيان الموروث التنظيمي والسياسي للأحزاب اليسارية، أي العمل بموجب القاعدة التنظيمية الإلغائية التي تفيد بأننا دائماً على حق و”الآخرون” هم دائماً على خطأ (منحرفون، متساقطون، إلى آخر المعزوفة)؟ لماذا لا تدعو التنظيمات اليسارية إلى حوارات مفتوحة مع أصحاب هذه الكتابات (باشرت منظمة العمل بتنظيم هكذا لقاءات حوارية وتهدف إلى توسيع دائرة المشاركين مستقبلاً)؟ وماذا عن المثقفين وعلاقتهم بالشأن العام وبالسياسية بالتحديد؟ أغلب المثقفين في لبنان معزولون أو عازلون لأنفسهم عن الإنخراط في العمل مع الآخرين. هذا ينعكس أيضاً في معظم كتاباتهم عندما تجد أن معظمها لا يعترف بكتابات مثقفين آخرين كانوا قد أدلوا بدلوهم في الموضوع المبحوث، ولا يأتون في الأساس على ذكر أفكارهم ونتائج الأبحاث التي أجروها من قبلهم (أليس هذا استبداد في المجال الثقافي؟). غالباً لا تعترف هذه الكتابات بما يكتبه “الآخر” حول الموضوع نفسه، ألأمر الذي يؤشر إلى اعتماد مبدأ إقصاء “الآخر” في ممارسة المثقفين للكتابة كما هي الحال في الممارسة الحزبية اليسارية مع “الخصوم.  أين هو المثقف الملتزم في مجتمعنا، أي المثقف الذي يقول الحقيقة بوجه السلطة، كما وصفه إدوارد سعيد؟ لم تعد المعرفة في خدمة تحسين شروط حياة الإنسان في المجتمع وفهمه لها والنضال لتغييرها، كما كانت في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي. فالمثقف غالباً ما أصبح خبيراً أومستشاراً لهيئات ومنظمات مشبوهة في أغلب الأحيان. لقد مات أو كاد يموت المثقف الملتزم، وحلَّ محله المثقف الخبير أو التقني. الجميع معني، كل من موقعه، بورشة إعادة تعريف مشروع ودور اليسار الذي من دونهما، أي المشروع والدور، لن يخرج لبنان بسهولة من أزماته المستعصية.

Leave a Comment