مجتمع

اضراب موظفي القطاع العام وتحدي لجم الانهيار الاقتصادي

كتب محمد قدوح

أعلن وزير العمل مصطفى بيرم أن لجنة المؤشر تنوي عقد لقاء لها مع رئيس الحكومة نجيب ميقاتي للطلب منه الحصول على مبلغ من حقوق السحب الخاص بلبنان من صندوق النقد الدولي لإطفاء ديون الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي المستحقة على الدولة اللبنانية، والمقدرة بحوالي مبلغ 4800 مليار ليرة لبنانية. كما تمَّ الاتفاق بين فرقاء اللجنة المكونة من أرباب العمل والعمال ووزارة العمل على تقديم مبلغ نقدي لا يدخل في صلب الراتب مؤقتاً للفئات الأكثر تضرراً في القطاع الخاص، وعددهم ما بين 700 إلى 800 ألف عامل. ولم يشر الوزير إلى موضوع موظفي وأجراء القطاع العام، إذ إن ذلك يتطلب درس الموضوع في جلسة لمجلس الوزراء والمعلقة اجتماعاته كما يعرف الجميع على مصير الحكومة بعد مقاطعة الثنائي الشيعي للاجتماعات قبل حادثة الطيونة وبعدها، مضافاً إليها الأزمة المستجدة الناجمة عن تصريحات وزير الاعلام جورج قرداحي. والواضح من المناخ أن اللجنة تواجه العديد من المشكلات التي تتعلق بوضع القطاعات الاقتصادية من جهة، وحجم الانهيار المعيشي من جهة ثانية، لذا لم تتفق بعد على رقم أو نسبة محددة للزيادة، باعتبار أن أرباب العمل يصرون على الطابع المؤقت والطارئ للزيادة وليس الدائم.

في الوقت نفسه بدأت رابطة موظفي القطاع العام الاضراب المفتوح منذ مطلع الشهر الجاري، وهو ما ذهب إليه قبلاً الأساتذة الثانويون الذين أعلنوا تعليق العام الدراسي في حال بقاء أوضاعهم المعيشية على ما هي عليه. وهو ما دفع الحكومة إلى مناقشة موضوع زيادة الرواتب والأجور وبدلات النقل في القطاعين العام والخاص، على أن يكون ذلك بمثابة “مساعدة” اجتماعية لا تدخل في أساس الراتب. ولكن السؤال هو: هل تؤدي هذه “المساعدة” الاجتماعية مع رفع بدل النقل إلى تحصين الأجور، وتحسين الوضع المعيشي للعاملين في القطاعين في ظل استمرار انهيار سعر صرف الليرة أمام الدولار؟

تتقاطع آراء الخبراء الماليين والاقتصاديين على اعتبار أي زيادة على الرواتب والأجور مهما كان اسمها ونوعها لن تنجح في تحقيق الغاية المرجوة منها، ما لم تترافق مع اجراءات سريعة فعّالة لمنع ارتفاع حجم الكتلة النقدية التي انتقلت منذ بداية الأزمة من 5000 ألاف مليار إلى 40000 ألف مليار ليرة. وذلك للحؤول دون موجة إضافية من التضخم من شأنها أن تقود إلى إلتهام ما هو أكثر من الزيادة الهزيلة المتوقعة، خصوصاً وأن ما تم الاتفاق عليه في لجنة المؤشر لا يتعدى رفع بدل المواصلات اليومي إلى 65 ألف ليرة كما يتردد. إذ من شأن أي ضخ إضافي للعملة اللبنانية في السوق أن يقود إلى مزيد من تراجع قيمة الليرة في ظل قصور الاجراءات الحكومية عن تنفيذ مشروع اصلاح انقاذي فعلي. وعليه، فإقرار الزيادة في حال حصوله لن يساهم في تحسين الوضع المعيشي وعودته إلى ما كان عليه قبلها. ولذلك يقترح هؤلاء الخبراء القيام باعتماد اجراءات سريعة وفعَّالة تتمثل بزيادة واردات الدولة من نوع حسم نسبة معينة من رسوم انتقال الملكية العقارية لتحفيز المواطنين على إنجاز هذا النوع من المعاملات. إضافة إلى الحد من عمليات التهريب والتهرب الضريبي وغيرها. أما حيال القطاع الخاص فلا بد من اتخاذ اجراءات تسبق تسوية ديونه مع المصارف، عبر بعض الاعفاءات الضريبية كي يتمكن من تحمل كلفة الزيادة على الأجور، مقترناً باشتراط عدم صرف المزيد من العمال وبقاء أسعار منتجاته على ما هي عليه، إذ من شأن رفعها ارهاق المواطنين والحد من قدرة المنتجات اللبنانية التنافسية في الأسواق الداخلية والخارجية على حد سواء.

المقدمات والوقائع

لم تأت هذه الحيثيات من فراغ إذ سبقها الكثير من المؤشرات السلبية التي أحاطت بالوضع المعيشي لمختلف الفئات المتضررة من الانهيار الحاصل. فمنذ بداية الأزمة في العام 2019 ارتفع سعر صرف الدولار أمام الليرة إلى أكثر من عشرة أضعاف. وانعكس ذلك زيادة في أسعار جميع السلع والمواد الغذائية والمستلزمات الطبية والأدوية والاستشفاء وغيرها. وبلغت النسبة الوسطية لهذه الارتفاعات 1350%. في المقابل تدنت قيمة الرواتب والأجور وتقديمات الصناديق الضامنة بنسبة 93%، ما أدى إلى عجز 80% من اللبنانيين عن تأمين الحد الضروري للعيش، والحصول على ما يحتاجونه من خدمات أساسية. حتى أن الطبابة والاستشفاء باتا امتيازاً حصرياً للأغنياء دون سواهم، نتيجة ارتفاع معدلات الفقر وما دونه والذي طال أكثر من 70 % من اللبنانيين، بينما ترتفع النسبة لدى اللاجئين إلى 90% .

ضاعف من سوء الوضع رفع الدعم عن المحروقات قبل اقرار البطاقة التمويلية. فقد ارتفعت أسعار المحروقات بنسبة 608 % وهي مرشحة للمزيد نتيجة ارتفاع أسعار النفط في الأسواق العالمية وارتفاع سعر صرف الدولار أمام الليرة محلياً. هذا مع العلم أن معظم الفئات الفقيرة لم تفد أصلاً من أموال الدعم التي تحولت إلى مليارات في جيوب المهربين والمحتكرين، بالتكافل والتضامن مع قوى الأمر الواقع الممسكة بزمام المعابر والمرافق الشرعية وغير الشرعية. ومن المعروف أن أموال الدعم قادت إلى استنزاف مليارات الدولارات من الاحتياط الالزامي للمصارف – وهي أموال المودعين لدى المصرف المركزي. مما كانت له انعكاساته على سعر صرف الليرة.

رغم هذه الصورة السوداوية حول جملة الأوضاع الاقتصادية والمالية وانعكاساتها على أوضاع اللبنانيين، فالسلطة بمختلف مكوناتها تخوض في الصراعات المندلعة بين أركانها لتحسين مواقع أطرافها الطائفية في المؤسسات وبالتالي تأمين “رشوة” جمهورها، من دون القيام بالحد الأدنى من واجباتها البديهية في العمل على وقف الانهيار. فالبطاقة التمويلية ما تزال موضع تجاذب بين القوى السياسية حول إدارة المشروع. في المقابل يصر المصرف المركزي على رفض أن تُدفع قيمة البطاقة بالدولار الاميركي، بل بالليرة لتعزيز موجوداته من العملة الصعبة. كل هذا الخلاف يجري على قاعدة “بيع جلد الدب قبل اصطياده”. فالمعروف أن الاعتماد في تمويل البطاقة ينهض على موافقة صندوق النقد الدولي على تحويل القرض الذي كان من المقرر منحه للبنان لتمويل النقل المشترك إلى الأسر الأكثر حاجة. ويشترط الصندوق التزاماً صارماً بالشفافية والمراقبة، بدءاً من تصميم المشروع إلى آليات تنفيذه، وقبله دقة وصدقية عمليات إعداد لوائح المستفيدين من المبالغ المرصودة. ومن المعروف أن صراعات القوى السياسية حول موضوع البطاقة ترتبط في جانب منها بالانتخابات المقررة في الربيع المقبل، إذ يحرص كل طرف أن يتولى بنفسه عملية الإدارة، ما ينعكس مردوداً إيجابياً من الأصوات في صناديق الاقتراع بسبب تحويل البطاقة إلى رشوة انتخابية.

ويبقى من المهم القول إن الحكومة التي وعدت بـ” الإنقاذ” لم تضع حتى تاريخه خططها الاقتصادية والمالية والاصلاحات والدراسات المطلوبة للشروع في مفاوضات جادة مع صندوق النقد الدولي. وما هو موجود لديها ليس أكثر من خطة التعافي التي وضعتها حكومة الرئيس حسان دياب، وهي مليئة بالثغرات للصمود أمام الشروط الاصلاحية المطلوبة من الدولة اللبنانية. إضافة إلى أن هدف الخطة المضمر هو التعمية على مسؤولية الدولة عن الوصول إلى الانهيار المالي والنقدي. وأيضاً إبعاد شبح الافلاس والمحاسبة عن المصارف والمصرف المركزي اللذين تلاعبا بأموال المودعين، والتوجه نحو خيارات تزيد الطين بلة من خلال طرح أملاك الدولة والقطاع العام للتصفية، وبالتالي تدفيع اللبنانيين ثمن الانهيار الذي تسببت به قوى المافيا السياسية والمالية.

بالطبع الاجراءات الجادة تتطلب وجود حكومة وحياة سياسية مستقرة، وهو غير متوفر في ظل الأزمات المستفحلة التي تطغى على حياة البلاد، ما يجعلها عاجزة عن اعتماد أي من القرارات المجدية في ظل الصراعات المحتدمة بين قوى السلطة، وعليه يمكن الجزم باستمرار  وتصاعد حلقات الانهيار المالي والمعيشي، وجعلها  مرشحة للمزيد من التفاقم، ومعه الانكماش الاقتصادي الذي بلغ في شهر آب الماضي فقط (بالناقص) – 10.50%. لذلك ليس أمام اللبنانيين سوى انتظار المزيد من الجوع والألم والعجز عن تأمين كفاف حاجاتهم اليومية من مأكل ومشرب ودفع أكلاف الطاقة والدواء وغيرها من ضرورات العيش البسيط؟ وهو ما يطرح الأسئلة عن ردود فعل المواطنين على الاستباحة السافرة لمقومات حياتهم…انتفاضة أم ماذا من الردود على تحديات الواقع الجهنمي؟

 

Leave a Comment