صحف وآراء

المتحولات في الاستراتيجية الاميركية في المنطقة بين ترمب وبايدن ـ الحلقة الاولى

الدكتور زهير هواري

جرى إعداد هذا التقرير للجنة الحوار اللبناني ـ الفلسطيني قبل انسحاب القوات الاميركية من أفغانستان وينشره موقع “بيروت الحرية” على ثلاث حلقات بالنظر إلى أهميته وكونه يضيء على جوانب من واقع المنطقة العربية وجوارها. والانسحاب حدث ترك تفاعلاته الكبرى على الاتحاد الاوروبي وعلى مجمل وسط القارة الآسيوية. والتقرير الذي يجري توزيعه على نحو محدود لعدد من المهتمين ومراكز الأبحاث والدراسات يقارب المتغيرات في السياسة الاميركية بين عهدي الرئيسين دونالد ترمب وجو بايدن. وحدود الثوابت والمتحولات في سياستيهما إزاء منطقة الشرق الاوسط عموماً والقضية الفلسطينية على نحو مخصوص . هذا مع العلم أن أزمات المنطقة وقضاياها المطروحة أوسع مدى من أن تنحصر بمسائل الملف النووي مع ايران التي تحتل راهناً الموقع الأول في الاهتمام، وكذلك قضية الصراع الفلسطيني والعربي -الاسرائيلي الذي لم يتحرك سياسياً بعد. إذ هناك قضايا تطال أوضاع كل من اليمن والعراق وسوريا ولبنان، فضلاً عن المحيط الاقليمي الأبعد، ممثلاً بكل من ايران وتركيا، وجملة حالات الاضطراب التي تطغى على المنطقة ودولها بدءاً من سد النهضة الأثيوبي وما يثيره بين كل من مصر والسودان من جهة وأثيوبيا من جهة ثانية، والوضع في ليبيا وصولاً لتونس مؤخراً … ثم هناك العلاقات الاميركية الصينية والروسية ولهذه وسواها ظلالها الدولية وفي المنطقة.

مقدمة

ما إن وصل الرئيس جو بايدن إلى سُدة الرئاسة في الولايات المتحدة الاميركية حتى انشغلت الأوساط السياسية والدبلوماسية والفكرية في العالم بأسره في تحليل السياسة المرجح اعتمادها من جانبه عالمياً، وفي منطقة الشرق الأوسط خصوصاً، باعتبارها جزء من سياسته الخارجية بشكل عام. وهي سياسات  تتأثر بعدد من العوامل الخارجية والداخلية على حد سواء.

تنطلق معظم التحليلات من معرفة عميقة للرئيس بايدن – خلاف سلفه – بالسياسة الخارجية الاميركية على مدى حوالي العقدين من الزمن على الأقل. فقد كان عضواً في لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الاميركي لعدة سنوات، ورئيساً لها لمدة  أربع سنوات. ومن المعروف أن اللجنة  تلعب دوراً مؤثراً في تحديد السياسات الخارجية العامة. وعليه يمكن القول إنه من موقعه المذكور يملك خبرة دولية عميقة في مجال علاقات الولايات المتحدة الخارجية. هذا إلى جانب إشغاله خلال رئاسة باراك أوباما موقع نائب الرئيس. هذا السجل إلى جانب الخبرة والاهتمامات، ترجح قيامه بأدوار نشطة في مجال السياسة الخارجية أثناء رئاسته. دون إهمال العوامل الداخلية المؤثرة على علاقات بلاده الخارجية، سواء أكان مصدرها منظومة القيم والمبادئ الليبرالية التي يتبناها، وجملة مراكز القوى والصراعات داخل الدولة العميقة والتي تلعب دورها في تحديد الأدوار والاتجاهات التي تقوم بها في الخارج خدمة للداخل، بما تعبر عنه من جملة المصالح التي يتوجب عليه التعاطى معها.

والواضح في غضون الأشهر الستة المنصرمة من عهد بايدن، فضلاً عما سبق وأعلنه قبل الوصول الرسمي للحكم، أن المحور الأساس في سياساته الخارجية ينهض على مسلمة أساسية قوامها عودة الولايات المتحدة إلى لعب دورها في قيادة العالم مرة أخرى. وهو الدور الذي خسرت جزءاً كبيراً منه خلال عهد الرئيس ترمب الذي بدا انسحابياً في العديد من الممارسات السياسية مع كثير من الدول، وهجومياً على الحلفاء التقليديين في الاتحاد الاوروبي وحلف شمال الاطلسي – الناتو- محاولاً تفكيك تلك الوحدة، وتهميش المؤسسة العسكرية التي مارست من خلالها اميركا دور القيادة في مواجهة الاتحاد السوفياتي ثم روسيا والصين من جهة، وخارجاً عن المنظمات الأممية كالاونيسكو ومنظمة الصحة العالمية واجتماعات المناخ والاونروا وغيرها من مؤسسات تابعة للأمم المتحدة من جهة ثانية.

على أي حال العودة القيادية هذه تثير مسائل إشكالية كبرى في مضمار العلاقات الدولية مع وجود منافسين أقوياء أبرزهم الصين وروسيا، اللتين تطمحان كل على طريقته إلى تأكيد دوريهما في إدارة عالم اليوم بتناقضاته المتعددة، لاسيما مع انتشار واستمرار تفشي وباء كورونا، وما قاد إليه من أزمات على صعد السياسة والاقتصاد والعلاقات البينية والفكر والممارسة السياسية . بهذا المعنى، فإن الرئيس بايدن يعتمد سياسة خارجية مختلفة عن السياسة الخارجية التي طبقها الرئيس السابق ترمب، والتي انطلقت من عقيدة “انعزالية”، لم ترَ في العالم شركاء وحلفاء للولايات المتحدة، وإنما رأت فيه فقط دول تحاول استغلال قوة ونفود الولايات المتحدة والاستيلاء على ثرواتها، والاعتماد على هيمنتها دون أن تشارك في دفع الأكلاف التي تترتب عليها. إن منطق عقد الصفقات التي سادت في عهد ترمب، وإن قادت إلى تحقيق مكاسب في عدد من المناطق، إلا أنها في المقابل كرست علاقات دولية نفعية وربحية، ضربت عرض الحائط بكل المؤسسات والقوانين والمواثيق والمعادلات التي انتجها العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية في العالم 1945 وما مرَّ منذ ذلك التاريخ من تطورات وهياكل في إدارة أزمات العالم المعاصر.

الصين أولاً

لا شك أن الرئيس بايدن لا يستطيع أن يمحو بممحاة كل الإرث الذي تحدر إليه من سلفه، فهناك ما هو باق من تلك السياسات التي قررتها الإدارة الاميركية العميقة في البلاد، وسار عليها ترمب بأسلوبه الشعبوي المعروف. لعل الأبرز من هذه السياسات يتمثل في مواجهة التهديد الصيني الاستراتيجي الأهم للولايات المتحدة. وهو ما دفع حينها العديد من المحللين، خلافاً لما كان عليه الوضع خلال رئاسة أوباما، إلى التخوف من انفجار عسكري بين الدولتين بعد تحركات كبرى للأساطيل الاميركية في بحار الشرق الآسيوي. علماً أن ترمب نفسه اجتمع مع الرئيس الكوري الشمالي وعمل على تهدئة تهديده النووي لحلفائه في المنطقة. لكن الصين ليست كوريا، وهي منافس حقيقي للهيمنة الاقتصادية الاميركية في مناطق تتسع يوماً بعد يوم. وبهذا المعنى تختلف عن روسيا التي ينحصر نزاعها التجاري مع اميركا في حصة صغيرة من مبيعات الأسلحة التي تنتجها، خلال فوضى الحروب المندلعة في العديد من دول العالم، ولاسيما الشرق الأوسط وشمال وغرب افريقيا. خلال عهد ترمب جرى تصنيف استراتيجية الأمن القومي للوضع في النظام الدولي على أنه قائم على نظام للتنافس الاستراتيجي بين القوى الكبرى، وليس لدى الرئيس بايدن رؤية مخالفة لذلك. إن هذا الفهم لطبيعة الخطر الذي تمثله الصين، ومسألة النظام الدولي يمثل إجماعاً جديداً في الولايات المتحدة بغض النظر عن الانتماء للحزبين الديموقراطي والجمهوري. ويعد هذا تحولاً كبيراً في السياسة الخارجية الأميركية. فلو قارنا ما قاله وكتبه الرئيس بايدن عن الصين لوجدنا فيه اختلافاً كبيراً عن استراتيجية الأمن القومي الأميركي الصادرة عام 2015، في عهد الرئيس باراك أوباما. ما يشير إلى أن إدارة بايدن ليست إدارة جديدة للرئيس أوباما كما أشاع البعض، رغم أن عدداً كبيراً من الوجوه الرئيسية في هذه الإدارة الجديدة كانوا جزءاً حيوياً من إدارة أوباما.

إذن تحتل الصين المقام الأول في قائمة التهديدات، دون أن تختصر هموم الإدارة الاميركية التي عملت خلال الأشهر المنصرمة بدأب على إعادة بناء التحالف الغربي مع اوروبا باعتبارها القضية الأكثر وضوحاً في برنامج السياسة الخارجية للرئيس بايدن. لقد تعرض التحالف الغربي الاميركي – الاوروبي التاريخي لضغوط كثيرة خلال حكم الرئيس ترمب. فالعديد من المراقبين يحملونه مسؤولية خروج بريطانيا من الاتحاد الاوروبي الذي بدا مترنحاً أمام قوة ضغط اميركية متصاعدة. وشملت حالة الترنح المؤسسة العسكرية المشتركة التي نشأت في خضم الحرب الباردة أي حلف الاطلسي، ما قاد إلى جملة توتر في العلاقات بين ضفتي المحيط ، حاول اليمين الشعبوي الاوروبي استثمارها لتعزيز مواقعه السياسية. بدا من خلال المسار السياسي للولايات المتحدة مع وصول بايدن أن الجهد الأساسي ينصب على إستعادة العلاقة مع الحلفاء الأوروبيين الرئيسيين وتعزيزها، إذ يرى الرئيس بايدن أن الولايات المتحدة تكون أكثر قوة بقدر ما يكون لها من حلفاء، وأنها تكون أقدر على تحقيق أهدافها طالما كانت تعمل في إطار جهد جماعي تلعب دوراً رئيسيا فيه تحت القيادة الاميركية. وهو ما يترجم نفسه في التفاوض مع كل من الصين وروسيا وايران لجهة الانسجام والتوافق بيهما على طريقة التعاطي مع هذه الملفات الشائكة.

مواجهة الصين وإعادة بناء التحالف الغربي هما قضيتان مترابطتان في رؤية الرئيس بايدن، الذي يرى أن الولايات المتحدة سوف تكون أقوى في مواجهة الصين وغيرها، عندما تخوض هذه المواجهة من خلال تحالف دولي غربي، وليس بمفردها [1].

الشرق الأوسط

وبالانتقال إلى الشرق الأوسط يجب أن يسجل للرئيس بايدن عدم غربته عن هذه المنطقة الملتهبة، فخبرته الطويلة في لجنة الشؤون الخارجية في الكونجرس، ومنصبه كنائب للرئيس مكناه من الاقتراب من قضايا المنطقة. ثم أن لدى الطاقم المعاون له خبرة كبيرة في شؤونها. فوزير الدفاع الجنرال لويد أوستن كان قائداً للقيادة المركزية المسؤولة عن الشرق الأوسط. ووليم بيرنز، رئيس المخابرات المركزية كان سفيراً في الأردن، بالإضافة إلى منصبه السابق كنائب لوزير الخارجية، وأنطوني بلينكن وزير الخارجية كان ضمن فريق مستشاري الأمن القومي للرئيس أوباما، ولنائب الرئيس بايدن و… وربما ساعدت هذه الخبرات في تشكيل موقع الشرق الأوسط ضمن مناطق اهتمام الإدارة الجديدة دون أن يعني ذلك أولوية موقعه.

والواضح من خلال مواقف مسؤولي ومستشاري الرئيس أن أهم أولويات الإدارة الأمريكية الجديدة في الشرق الأوسط، تتمثل في برامج إيران التي تزعزع الاستقرار في المنطقة، ومن بينها البرنامجين النووي والصواريخ البالستية وتهديداتها، وتدخلاتها في العديد من الدول العربية والافروآسيوية. وكذلك تكريس الحفاظ على تفوق الأمن الاسرائيلي في مواجهة المخاطر المحدقة، وتعزيز فرص السلام بين العرب وإسرائيل، وإنهاء الحروب في اليمن وليبيا، وتعزيز وضع حقوق الإنسان وغيرها من مسائل. على أن الأمور ليست مقتصرة على الملفات المذكورة، إذ إن في المنطقة تتصارع قوى اقليمية ثلاث هي ايران واسرائيل وتركيا. وبالطبع لكل من هذه القوى مرجعياتها الدولية اميركياً وروسياً وصينياً، ولها طموحاتها الخاصة ومشاريعها التي تتعدى حدودها. يضاف إلى ذلك وجود مناطق الصراع المفتوح المتداخلة بين القوى الثلاثة، وكل يحاول الإمساك بأوراق يتحكم بها. ولعل هذا أكثر ما ينطبق على ساحات كل من الخليج والعراق واليمن وسوريا وليبيا ولبنان. التداخل بين استراتيجيات هذه القوى الاقليمية وشبكات المصالح الداخلية تقود إلى حال من التوترات المستدامة. لا يغير من هذا الواقع قرار الانسحاب الاميركي من افغانستان، وتخفيض حجم القوات الاميركية من العراق إلى النصف، واقتصار مهامها على أطقم المدربين والمستشارين مع التعهد بانسحابها نهاية العام الجاري. وغني عن القول إن اضطراب جملة أوضاع المنطقة وتقاطع أزماتها، يقود إلى تداخل ميادين الصراع وتنوع القوى المشاركة فيه بين دولي واقليمي ومحلي بتعقيداته الأثنية والطائفية والمناطقية الراهنة والتاريخية.

لعل أبرز ما يميز جيوسياسية منطقة الشرق الأوسط تتمثل في أن أهميتها الاستراتيجية عابرة للإقليم كما يسميها (شانتال كوادرات) والتي تعود إلى عوامل متعددة، أبرزها احتياطيها الضخم من النفط، وتحكمها في خطوط ملاحية دولية رئيسية، وتأثيرات الصراع العربي الإسرائيلي، وبؤرة الصراع المزمنة في الخليج على مصالح الأطراف الدولية بها، وقربها الجغرافي من أوروبا. ثم ما بدأت تفرزه من عناصر تهديد لأمن العديد من دول العالم الأخرى، باعتبار المرحلة التاريخية التي يمر بها فضاء منطقة الشرق الأوسط، وهى عوامل لم تهتز مع الوقت . فالمشكلات والصراعات التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط ليست نتاجاً فقط لعوامل محلية، ولكنها بالأساس نتاج لتدخلات دولية خارجية في شؤون المنطقة[2] . يمكن إضافة تفكك الكيانات والدول الوطنية وانفجار الصراعات المحلية على نحو جذب إليه الخارج بتشابك وتنوع قواه، وتناقض شبكة مصالحه.

وعلى هذا الأساس يرى الباحثون أن الإدراك الاستراتيجي للإدارة الأمريكية بدا واضحاً في صياغة تصور حقيقي استناداً لما يمكن تسميته بعوامل الثبات في السياسة الخارجية لامتصاص التوترات والاضطرابات في منطقة الشرق الأوسط، وفي نطاق التعاطي مع الحلفاء الاستراتيجيين. وهو مجال أصبح محل اهتمام الإدارة الأميركية الجديدة، والتي تدور جميعها في فلك حماية وتعزيز المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة. بالإضافة الى توجيه رسالة ردع ضد القوى المناوئة لها في ساحات التصادم الجيوسياسي في المنطقة ( كالساحات العراقية والسورية) بدليل الغارات الاميركية عليهما، مع إعطاء مساحة للغة الخطاب السياسي والإعلامي لمقولات وشعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان والقوة الناعمة، وتعزيز الأدوات الدبلوماسية. وللأخيرة أهميتها التي تتمثل في الدلالة التي سعت اليها الولايات المتحدة في سياستها الخارجية[3]. علماً أن ما ورد حول كل من افغانستان والعراق، لا يعني إن الرئيس بايدن لا يفكر فقط في سحب القوات الأميركية، ولكنه يفكر أيضاً في إنهاء الحروب. وسوف يعني هذا الضغط بقوة على دول المنطقة لتكون وسطاء لتحقيق السلام، وتقديم تنازلات، وتوفير حوافز للخصوم لإنهاء الصراعات[4]. وهذا كله أمر ما زال مشكوكاً فيه في ضوء عدم التوصل إلى تسويات كبرى مع القوى الاقليمية التي تريد من أي تسوية أن تحفظ مصالحها وتعزز من مواقعها على صعيد المنطقة، التي تصبح ساحة تنافس وتنازع بين القوى الفاعلة الإقليمية والدولية، كما كانت عليه بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. ولهذا كان في حينه للصراع السوفيتي الأميركي دور كبير في إعطاء المنطقة أهمية استراتيجية رئيسية للولايات المتحدة اليوم من منطلقات أربعة رئيسية : الدين وإسرائيل والبترول والبُعد الجيوسياسي للمنطقة. [5]

ومما لا شك فيه أن الأهمية الجيوسياسية لمنطقة الشرق الأوسط تنبع من وقوعها داخل نطاقات التنافس والصراع للهيمنة. وهو ما أحدث استقطاباً حاداً بين القوى الإقليمية والدولية. وهكذا يمكن الحديث عن السعي الأمريكي لاستعادة شرعيتها في إرساء الهيمنة، التي تشكل أحد أولويات السياسية الخارجية للولايات المتحدة في الوقت الحاضر. فبخلاف كل المصالح الاستراتيجية الثابتة للولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط، كأمن( إسرائيل أو النفط أو التحالفات السياسية والعسكرية) تشهد المنطقة صراعات مختلفة، باتت تهدد المصالح الدولية في المنطقة ككل وليس فقط المصالح الأمريكية، والتي انعكست في رسم وصياغة الخيارات الاستراتيجية التي تتبناها الإدارة الأمريكية الجديدة من خلال فهمها للواقع المستوحى من ناحية التطورات علي أرض الواقع، وبهدف استعادة المصداقية العالمية من ناحية أخرى[6].

واتساقاً مع هذه الرؤية في فهم وتفسير السياسة الدولية كادراك مترافق مع التوجه الجديد للسياسة الخارجية الأميركية تجاه منطقة الشرق الأوسط من خلال تعزيز قدراتها المختلفة لعرض القوة وحشد التأييد الداخلي لمساندة التحركات الأميركية وديناميتها في المنطقة، وبذلك فهناك مصالح جوهرية حقيقية للولايات المتحدة في المنطقة تتطلب استمرار وجودها المباشر، وما تنطوي عليه من إبعاد استراتيجية تشمل: مكافحة الإرهاب، ومنع انتشار أسلحة الدمار الشامل، وتسهيل تصدير النفط، وهو ما تعتمد عليه أسعار النفط العالمية واقتصادات شركائها وحلفائها الرئيسيين. بالإضافة إلى ذلك اصبحت تدرك أن عدم ضبط واحتواء هذه الأحداث يمكن أن  يلحق الضرر بمصالحها الحيوية [7]

انطلاقاً من هذه الصورة سيتركز هذا التقرير على كل من ايران وفلسطين، باعتبار أن الأولى باتت قضية لها الأولوية اميركياً وخليجياً واسرائيلياً من جهة، بينما فلسطين تبقى قضية عربية بامتياز. ولحرص الإدارة الاميركية الحالية كما السابقة على الأمن الاسرائيلي، دون أن تتطابق في مفهومه مع ما توصل إليه بنيامين نتنياهو ويتابعه رئيس الوزراء الحالي بينيت مع ما كان عليه خلال عهد الرئيس ترمب.

بالتوازي مع ذلك، في هذا الصدد من المتوقع أن ينعكس تزايد التوتر في العلاقات الأميركية – الروسية في منطقة الشرق الأوسط، على كثير من قضايا المنطقة ، خاصة مع تراجع اهتمام واشنطن بالمنطقة وتنامي التقارب بين موسكو وبكين. وفي هذا الإطار عارضت كلاً من روسيا والصين انسحاب الرئيس الأميركي السابق من الاتفاق النووي مع إيران. ولعل أهم ما يُلاحظ في هذا السياق أن الصين أصبحت أكبر مستثمر في المنطقة منذ العام 2016. وفي مقابل ذلك انخرطت روسيا دبلوماسياً مع جميع دول المنطقة، وزادت مبيعات أسلحتها إلى مصر والعراق السعودية وليبيا والإمارات وتركيا. من هذا نرى هذا المنطق يقود إلى جولة وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف على دول منطقة الخليج في شهر آذار / مارس عام 2021، تعبيراً عن رغبة موسكو في ترويج رؤيتها لنظام الأمن الجماعي الشامل في الخليج، والذي يقترح على دول المنطقة إنشاؤه عبر مراحل تحضيرية عدة، بما في ذلك إجراءات بناء الثقة، وعقد مؤتمر حول الأمن والتعاون في هذه المنطقة [8].

وهذا يزيد من تصاعدِ تأثير الضغط على الهيمنة والنفوذ الأميركي في المنطقة، وبالتالي يتعين عليها إضعاف هذا الدور الروسي وما تلاه لتحقيق اقصى قدر من المكاسب. ومن هنا دفعت تلك التغييرات والتطورات مجتمعة نحو خيارات استراتيجية أميركية من أهم سماتها إنها تتراوح ما بين نهج القوة والهيمنة لحمايةِ المصالح بوصفها أهدافاً مهمة للسياسة الخارجية الأمريكية، وبين سياساتِ الإنكفاء والرغبة في التخلي عن دورها القيادي في العالم، الذي يراه البعض يشكل عبئاً أثقل كاهلها. وهذا يضع العالم والمنطقة في بقعةٍ ضبابية تساهم في جعل عدم الاستقرار وعدم اليقين هو الوضع السائد من خلال متابعة الأحداث السياسية والاقتصادية والعسكرية وملاحظتها[9] .

لكن الشرق الأوسط اليوم يختلف اليوم عما كان عليه أيام الحرب الباردة بين الجبارين، حيث كانت أميركا تختصر مصالحها واهتماماتها فيه بثلاثة: إسرائيل، النفط، ومقاومة الشيوعية. اليوم تُشرف أميركا على تحول جيوسياسي في العلاقات العربية – الإسرائيلية. والبقية من الصراع العربي – الإسرائيلي التي شغلت المنطقة والعالم عقوداً طويلة هي نزاع فلسطيني – إسرائيلي يحتاج إلى تسوية بالعودة إلى “حل الدولتين” بعدما رحل “اتفاق السلام” مع ترمب وصهره كوشنر. حماية منابع النفط وطرق إمداده مضمونة، والحاجة الأميركية إليه تقلّصت بعد “النفط الصخري”. والشيوعية لم تعد تخيف حتى اليمين المتشدد بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. أما القضايا التي تفرض نفسها، فأبرزها اثنتان: تنامي النفوذ الإيراني في العراق وسوريا ولبنان وغزة واليمن ، وتهديد الدور الإيراني للاستقرار في الخليج. والتدخل العسكري التركي في سوريا والعراق وليبيا وشرق المتوسط، وجنون العظمة لدى الرئيس رجب طيب أردوغان الذي يستعير ثياب السلطان محمد الفاتح وتراث السلاجقة والعثمانيين، ويستخدم “الإخوان المسلمين” في تحقيق أحلامه “العثمانية الجديدة” وأوهامهم في استعادة “الخلافة”. القضية الأولى التي هي جزء من مشروع “ولاية الفقيه” بما تتضمنه من توصسع النفوذ الايراني حاربها ترمب بممارسة سياسة “الضغط الأقصى”. والقضية الثانية ساندها ترمب، بحيث سحب القوات الأميركية من أجزاء من شرق الفرات لفتح الطريق أمام الغزو التركي. ووقف مكتوف اليدين حيال تدخل أنقرة في حرب ليبيا وغاز شرق المتوسط[10].

[1] – السياسة الخارجية الأمريكية تجاه الشرق الأوسط: المرتكزات الجديدة لحدود الضبط الجيوسياسي – المركز الديمقراطي العربي

[2] – ابراهيم بن عبد العزيز المهنا ، المنافسة على القمة وتحول القوة نحو الشرق :تطور النظام الدولي منذ سقوط الاتحاد السوفيتي، ( بيروت: جداول للنشر والترجمة والتوزيع ، 2015 ).

[3] – أحمد بن علي الميموني ، “الموقف الأمريكي الجديد تجاه الشرق الأوسط .. وضبابية المقاربات” ، المعهد الدولي للدراسات الايرانية ، 4/3/2021، شوهد في 15/3/2021،

[4] – ورد ذلك في تقرير نشرته مجلة ناشيونال انتريست الأمريكية بقلم الخبيرة السياسية كريستين فونتينروز، مديرة مبادرة “سكوكروفت” الأمنية للشرق الأوسط في المجلس الأطلسي.

[5] – ديفيد راي غريفين ، 11 أيلول وحجارة الدومينو المتساقطة ، ترجمة : حسان البستاني، ( بيروت : الدرار العربية للعلوم ناشرون ، 2018).

[6] – مثنى علي المهداوي ، السياسة الخارجية : دراسة نظرية عامة ، ( بغداد : مركز النهرين للدراسات الاستراتيجية ، 2020).

[7]  – عمرو دراج ، عصام عبد الشافي ، “سياسة بايدن والملف المصري: المحددات والتوجهات” ، دراسات سياسية (بلا عدد)،( 2021).

[8] – أحمد قنديل ، “التوتر الأمريكي – الروسي: دبلوماسية جديدة أم “لعب بالنار” “، موقع الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية ، 20/3/2021 ، في : http://acpss.ahram.org.eg/News/17089.aspx

[9] – أحمد بن علي الميموني ، مصدر سابق

[10] – الاندبندنت عربية / الأربعاء 18 نوفمبر 2020

Leave a Comment