مجتمع

احداث الطيونة و”غزوة” عين الرمانة: نحو شحذ الوعي المواطني ضد الطائفية

بول طبر

 هناك عوامل مادية ورمزية عديدة تقوِّي وتصلِّب الطائفية في لبنان كظاهرة سياسية واجتماعية واقتصادية (نعم اقتصادية). أودُّ أن أركِّز في ملاحظاتي التالية على واحد من هذه العوامل وما يتصل به من عوامل أخرى، والذي يمكن تصنيفها جميعاً إلى فئتين: فئة العوامل السياسية-الرمزية، وفئة العوامل الشعورية-الوجدانية.

بداية نتناول الفئة الأولى التي تتضمن ما يشير إلى الشعور بـ”الغبْن” و”المظْلوميَّة” من قبل طائفة في علاقتها ونزاعها مع طائفة أو طوائف أخرى. فعندما تشعر طائفة ما بأنها مسْتهدفة في مكانتها وموقعها وحتى في عيشها بأمان (مثلاً حالة الشيعة حتى تاريخ ابرام اتفاق الطائف، السُنة ما قبل الطائف وبعده، والموارنة ما بعد الطائف واتفاق الدوحة، الخ.) يصبح لديها، أو قل لدى زعمائها وأتباعهم، ما يكفي من الشعور بالغبن والمظلومية، الأمر الذي يدفعها لـ”الالتحام” (ابن خلدون) والاعتصاب لدرء الإجحاف بحق الطائفة، والدفاع عن أمن أبنائها (وبناتها) وحقهم في العيش الكريم.

في المقابل، إن التمتع بالنفوذ وامتلاك القوة (أحياناً بالمعنى المعنوي والمادي للكلمة) يستدعيان أيضاً الاعتصاب و”الالتحام” الطائفي للحفاظ على هذه الإمتيازات، وتطلُّب المزيد عندما تسمح الظروف بذلك. وهذا ما نشهده الآن في حالة الثنائي الشيعي (حركة أمل وحزب الله) وما كنا نشهده من قبل، أي ما قبل اتفاق الطائف، لدى أحزاب المارونية السياسية، كحزب الكتائب والقوات اللبنانية.

وفي خضم هذا الإجتماع السياسي “الأهلي-الطائفي” وما يستولده من نزاعات، تتحول الطائفة الملْتَحِمة إلى “إسْتيهام” (فانتزيا) بالمعنى الفرويدي-اللاكاني للكلمة: جماعة لو قُيِّضَ لها أن تتحكم بالبلد وتسيطر على مقاليد الحكم فيه، لأدى ذلك إلى تحقيق أحلام أبنائها بالعيش المثالي المنشود. وتكون علاقة “أبناء الطائفة” بجماعتها المتخيًّلة ليست علاقة “برَّانية”، وإنما علاقة تتحدد فيها الهوية الذاتية لهؤلاء الأبناء (والبنات) من جراء التماهي مع هذا التصور الإستيهامي لطائفتهم. وكما يقول غسان الحاج في كتابه عن العنصرية في أستراليا: “ألأمة البيضاء” (1998، بلوتو بريس)، “يسكن” ابناء (وبنات) الطائفة في صميم التصور الإستيهامي لطائفتهم، الأمر الذي يجعل حياتهم تستمد معناها من جراء ذلك، ويجري أيضاً تحديد أهدافهم في الحياة، فى المدى المنظور والبعيد معاً، وفق متطلبات تحقيق هذا التصور.

وتماشياً مع هذا التصور، بل من ضرورات الحفاظ على صفته المثالية المنشودة، لا يجوز (ولا يمكن) تحقيق التصور الإستيهامي للطائفة، وإلّا يضْعف الاعتصاب ويتحلَّل الالتحام وتفقد الحياة معناها بالنسبة إلى أبناء (وبنات) الطائفة، وتزول الأهداف التي تحفزهم للإنخراط في الحياة. هذا إلى جانب أن هذا المعنى وتلك الأهداف هي في الأساس غير قابلة للتحقيق لطبيعتها الإستيهامية وغير الواقعية. وعلى هذا الأساس، كان لا بدّ من استيلاد صورة لـ “الآخر” الذي يحول دائماً دون تحقيق “الأهداف المنشودة” للطائفة المعنية. و”الآخر” هنا هو الطائفة الأخرى التي ينسب إليها (خطأً من دون شك) وفق هذا المنطق، القدرة على منع تحقيق التصور الإستيهامي والمتخيَّل للطائفة التي تواجهها. من هنا يمكن أن نفسِّر ليس فقط الجانب العاطفي-الوجداني لممارسات أبناء (وبنات) الطوائف (مثلاً، الشعور بالإحباط المتولِّد من إعتبار “الآخر” الطائفي عائقاً لتحقيق “السعادة والهناء” اللذين تنشدهما الطائفة)، وإنما أيضاً العنف المتطرِّف المتولد من ذلك الشعور الذي يرافق عادة النزاعات الطائفية عند حدوثها.

والمهم أيضاً في سياق هذا التحليل للظاهرة الطائفية، الإشارة إلى أن ذوبان أبناء (وبنات) الطائفة في صميم التصور الإستيهامي لطائفتهم وتحكُّم متطلباته في تحديد ممارساتهم العامة والخاصة (مع التأكيد بأن الخط الفاصل بين الخاص والعام في المجتمعات الأهلية ممتلئ بالثقوب)، هو نتيجة مكثَّفة ومنْتَظَمة لمسار زمني لا ينتهي، ويعْرف في علم الإجتماع بـ “التنشئة الإجتماعية” التي يتعرض لها إبن (وبنت) الطائفة منذ ولادته وحتى وفاته (في المنزل العائلي والعائلة الموسعة والمدرسة ودور العبادة والمحيط الإجتماعي وأماكن العمل، إلخ.). إنه المسار الذي به وفيه يتشكَّل “هابيتوس” الأفراد بحسب بورديو. والهابيتوس هو نظام يسْتَنْبطنه الفرد بحكم التنشئة المشار إليها، نظام من المهارات ومن الرغبات والميول والعادات لا يرقى إليه الشك، لدرجة أن الفرد يتصرف بموجب هذا النظام بصورة تلقائية، وغالباً تكون التصرفات هذه صادرة عن مستوى ما دون الوعي والتفكّر لدى الفرد المعني. فإذا صح القول، فإن الهابيتوس هو ما نشير إليه عادة بـ “طبيعة الإنسان” وطبْعه. هكذا يدخل التصور الإستيهامي للطائفة في صميم تشكيل “هابيتوس” أبناء (وبنات) الطائفة عبر جميع وسائط التنشئة الإجتماعية المشار إليها، والمبثوث في داخلها بأشكال متنوعة تتماشى وتنوع هذه الوسائط. وعليه تصبح الطائفية متجذرة في البناء النفسي-الشعوري للفرد وفي وعيه وتصرفاته الواعية والتلقائية اللاوعية.

والجدير بالذكر أن تحليل الطائفية من منظور سياسي – رمزي وشعوري – نفسي لا يعني مطلقاً تبني المنهج المثالي في تحليل هذه الظاهرة. لا بل إن تبني هذا المنظور في التحليل يرفض الثنائية التقليدية بين المنهج المثالي والمنهج المادي، إذْ يعتبر نفسه منتسباً إلى المنهج المادي دون غيره. ومادية المنهج الذي نتبعه في هذا التحليل تكمن في اعتبار أن تبيان الجانب الرمزي-السياسي والجانب الشعوري-الوجداني للظاهرة الطائفية، كما شرحنا أعلاه، هو أساسي في عملية تحويل الطائفية إلى مادة لصناعة وتوزيع النفوذ السياسي، وما يستجره من منافع (أي قيام نظام سياسي طائفي  وتكوينات وسلوك سياسي طائفيين)، ومادة لصناعة نظام تراتبي إجتماعي لتوزيع المكانة الإجتماعية بين أبناء (وبنات) الطائفة الواحدة، وعلى مختلف الطوائف. دراسة وتحليل هذه النظم تؤكد على الصفة المادية للطائفية ببعديها الموضوعي والذاتي المترابطيْن والمتداخليْن.

إن سرد وتحليل هذه الوقائع هي جزء لا يتجزأ من المجتمعات التي تنتظم سياسياً على قاعدة طائفية-أهلية. والطائفية لا مفرّ من وجودها طالما لا يوجد في تلك المجتمعات ، ولبنان من ضمنها بالطبع، إطار سياسي يتطلب من أفرادها الانتظام السياسي على قاعدة المواطنة، ولا يوجد ما هو أقوى أو ما يتفوق قانونياً وسياسياً على المواطنة ومؤسساتها. إن خلق الاطار السياسي المدني المتفلت من القيود الاهلية ( ومنها الطائفية) في تعيين حاجات ومشاكل المجتمع وتقديم الحلول المطلوبة لها، هو المدخل الضروري للتخلص من الظاهرة الطائفية. مع غياب هذا الإطار المرجعي أوغياب القوى السياسية – الاجتماعية الوازنة والداعية لتحقيق هذا الإطار المرجعي عندما تكون الدولة طائفية و”أهلية”، فإن قدرة النظام الطائفي على الاستمرار وإعادة انتاج نفسه ستكون مؤمنة عبر ممارسات تستند إلى “هابيتوس” كل فرد من أفراد المجتمع  وعبر مؤسساته وجميع تكْويناته الجمْعية، مع بعض التعديلات الدورية المتعلقة بدرجة نفوذ وأدوار زعماء وقوى الطوائف الناتجة عن نزاعاتهم.

فهل يمكن لإنتفاضة 17 تشرين أن تطلق ديناميكية سياسية وثقافية وتنظيمية تؤسس على المدى البعيد لدولة ونظام مواطنة و”هابيتوس” لمواطنين متساوين في الحقوق والواجبات والعيش الكريم؟  

 

 

 

 

Leave a Comment