مجتمع

كوفيد – 19 والامتثالُ الجماعيّ لأحكام “الأخ الأكبر”

كتبت جويل عبد العال

لم يعد شيء كما السابق، وكأنّ العالم بأجمعه دخل مرحلة تعزيز وترسيخ “عقليّة القطيع”. نجلس عند هذا المفترق نراقب العالم تتصاعد فيه وتيرة الأزمات الاجتماعية والاقتصادية، والخوف والقهر والتعذيب يتفشّى في عالمنا ويتفاقم. وكأنّ نبوءة الروائي البريطاني جورج أورويل “1984” المستقبلية، لما سيؤول إليه العالم برمّته من طغيان النظام إلى عالمٍ لا تهدأ فيه الحروب، واشكال الرقابة الحكوميّة والتلاعب بالرأي العام، وصولًا إلى الملاحقات الفرديّة والتفكير الحرّ باعتبارها “جرائم فكر”، نشاهدها تتحقّق. هنا حيث تتعمّد الأنظمة مجتمعةً السطو على عقول الجماهير… “الاخ الأكبر” يراقبنا، فلنحذر!

أسهمت جائحة كوفيد – 19 في تعميق التوتاليتارية أو الأنظمة الشمولية. فقد فرضت الأنظمة السياسية في الدول الاستبدادية والديمقراطيات المتعثرة والتقليدية، منذ بداية الجائحة، اجراءات غير مسبوقة تحت ذريعة محاربة العدو الخفي “كورونا”، أفضت بها إلى ترسيخ حكمها وتعزيز قبضتها لا لشيء سوى لتمكين سلطتها وقوّتها واستمرار سيطرتها وطغيانها. وانطلاقًا من هنا، يمكننا القول أنّ الأنظمة باختلافها تعمّدت الاتجاه نحو استغلال الأزمة الصحيّة فارضةً حنكتها السياسيّة لزيادة أرصدتها وأرباحها وأسهمها والتوسّع في صلاحيّاتها أكثر والتمدّد في امبراطوريّاتها وتحالفاتها، وذلك بأساليب عديدة. فزادت الرقابة والمراقبة للسيطرة على السكان، إمّا عبر استغلال الطائرات المسيّرة للكشف عن حالات كوفيد-19، أو مضاعفة التطبيقات الذكية وتقنيات المراقبة الرقمية على نطاق واسع واستغلال البيانات في العديد من البلدان باسم المراقبة الصحيّة، أو عبر فرض قوانين الطوارئ والتعبئة. ففي الوقت التي كانت فيه أنظمة المراقبة، التي تمارس سلوكيّات قمعيّة تحدّ من حريّات الشعوب وتسلبهم حقوقهم، تواجه في العديد من الدول وفي الوقت الطبيعي بالانتقاد والغضب والتنديد ضد الحكومة. اليوم باتت مرحّب بها وذلك بحجّة أنّها اجراءات ضروريّة وطبيعيّة للحد من انتشار الفيروس.

اذاً، نحن اليوم لا نعيش فقط في مجتمع فاسد تتحكّم به الأيديولوجيات الحزبية التي تسعى إلى إلغاء العقل، وتجريد الانسان من كل ما هو انساني، بل بتنا نعيش أيضاً في أنظمة تفرض علينا شتى أشكال المراقبة الجماعيّة، والتي من شأنها أن تفضي إلى استفحال الممارسات العنصريّة للأنظمة وترسيخ الدول البوليسية. هذه الأجواء التي تشكّل أكبر تهديد ممكن أن يواجه الانسان، بحيث يعمل على تجريدنا من انسانيّتنا، وسلب حريّتنا وحقوقنا، الأمر الذي يتّجه بنا إلى ترسيخ حكم الأقليّة الطاغية المستبدّة.

فمنذ بدء جائحة كورونا والعالم يشهد تفاقماً للأزمات الاقتصادية والاجتماعية على حدٍّ سواء. فقد ألحقت جائحة كورونا أشد الضرر بالفئات الفقيرة والأكثر احتياجا، وهكذا أفضت إلى سقوط أكثر من 88 مليون شخص حول العالم في براثن الفقر، بحيث زادت نسبة الفقر العالمي للمرة الأولى منذ عام 1998، في ظل انزلاق بعض المناطق إلى مستويات لم نشاهدها منذ 30 عاماً، هذا إلى جانب تسارع وتيرة هبوط النشاط الاقتصادي وارتفاع نسبة البطالة وكلفة الرعاية الصحيّة، وصعوبة الوصول إلى حقّ التعلّم، وتفاقم التمييز بين الجنسين وارتفاع حالات العنف ضد النساء. ممّا يعني أنّ معظم مجتمعاتنا باتت ترزح تحت خطوط الفقر والصراعات المتعدّدة، ولا شكّ أنّه أمام كلّ هذا، تبقى الحكومات والأنظمة العالميّة المسؤول الأوّل عن تفاقم هذه الأزمات بسبب توزيع الثراوات غير العادل بين شعوب العالم، وسيادة الفساد والممارسات السياسيّة العنصريّة والمستبدّة. ففي وقت الأزمات وحالات الطوارئ من البديهي أن تصبح الفئات الضعيفة أشدّ تهميشًا ومعاناةً.

وسط كل هذه الفوضى التي يعيشها العالم، فقد أمعنت الأنظمة في وضع “هندسة للقمع”، مانحةً نفسها صلاحياتٍ أكبر لتعزيز سلطتها من أجل كتم أصوات المعارضة لها، مستقويةً بانتشار الوباء وادعاءاتها الحرص على صحّة شعبها. فقد شهدت دول مختلفة حول العالم تراجع التحرّكات الشعبيّة فيها رغم تردّي الأوضاع المعيشيّة والاقتصادية والاجتماعيّة، وبعضها الآخر شهد تحرّكات كبيرة لكنّها قوبلت بعنف مفرط واعتقال أعداد كبيرة من المتظاهرين/ات في وجه الأزمات التي سادت بلادهم/ن، وهذا ما وثّقته تقارير حقوق الانسان، بحيث سجّلت فترة الوباء تزايداً في قمع حقّ التجمّع السلمي وحريّة الرأي والتعبير. ولم تكتفِ بعض الحكومات فقط بقمع التظاهرات الشعبيّة بل أيضًا تزايدت الملاحقات على خلفيّة المنشورات على مواقع التواصل الاجتماعي وفرضت الرقابة عليها.

مع تواصل مختلف الحكومات بتعزيز سلطاتها والتوسّع في تشديد قمع الأنظمة التوتاليتاريّة والأبوية والبطريركيّة وسط انشغال مواطنيها بجائحة كوفيد – 19، هناك قلق كبير من ألًا ينتبه الناس لحقوقهم/ن التي تنازلوا عنها خلال هذه الفترة الّا بعد فوات الآوان. ففي ظلّ كلّ هذه التدابير الاستثنائيّة والقمعيّة التي تنتهجها الأنظمة حول العالم، علينا أن ندرك أنّنا داخل وباء أخطر من وباء كوفيد- 19 يحاصرنا، وأنّنا أمام ازدواجيّة مرعبة وشعار مؤلّف من ثلاث جمل متناقضة: “الحرب سلام، الحرية عبودية، الجهل قوة”، وهي ستؤدي بنا إلى تدمير انسانيّتنا.

Leave a Comment