مجتمع

الهجرة وموقعها في النظام السياسي والإجتماعي في لبنان

كتب بول طبر

 لازمت الهجرة نشوء لبنان العام 1920، وبقيت كذلك إلى أيامنا هذه. وكانت قد بدأت بالظهور قبل ذلك التاريخ كظاهرة إجتماعية لها مفاعيلها على مجتمع جبل لبنان (المتصرفية) منذ الربع الأخير من القرن التاسع عشر. وعلى الرغم من ذلك لم تحظَ هذه الظاهرة باهتمام كافٍ لدراسة مفاعيلها على المجتمع اللبناني عبر علاقة المهاجر بوطنه الأم (والعكس بالعكس) وهو خارج الأراضي اللبنانية، وعودة البعض منهم إليه أو القيام بزيارات متواترة إلى ربوعه لأغراض متفرقة.

بالطبع لا يمكن أن نتناول دفعة واحدة الجوانب العديدة والمعقدة لظاهرة الهجرة اللبنانية، فذلك مهمة ضخمة تحتاج للعديد من الدراسات والأبحاث، عسى أن يتعاون الباحثون والأكاديميون للقيام بها، لا سيما وان بعض الجامعات الخاصة، كالجامعة اللبنانية الأمريكية وجامعة اللويزة قد أسَّستا مركزي أبحاث حول الهجرة، وكان لي شرف المبادرة في تأسيسهما خلال العقد الاول من قرن الواحد والعشرين.

سوف أركز في هذا المقال على كيفية اندراج الهجرة في خدمة النظام السائد في لبنان، ماضياً وحاضراً، الأمر المرشح للإستمرار، طالما لم تتبلور حتى الآن معارضة فعلية للنظام اللبناني، أو أنه لم يُقَيَّدْ لها النجاح. وهي تحت جميع الظروف، لم تعتنِ بالهجرة لفضح توظيف النظام لها خدمة لمصالحه. وبالتالي، لم تنتج سردية مضادة لسردية النظام لتدعم مشروعها التغييري في لبنان وتوظف الطاقات المهدورة للمهاجرين خدمة له.

في الدافع الأصلي للهجرة من لبنان

انطلقت الهجرة من جبل لبنان كظاهرة إجتماعية على أثر دخول العلاقات الرأسمالية الوافدة من أوروبا (أساساً فرنسا)، وإعادة هيْكلة الإقتصاد المحلي بما يتناسب وحاجات إقتصاد البلد الوافد. في حقيقة الأمر، ترافقت هذه الهيكلة مع فكفكة أسس النظام المقاطعجي الذي كان سائداً ما قبل ثورة طانيوس شاهين الفلاحية (1858)، وما تلاها من صدامات أهلية بين المسيحيين والدروز العام 1860. في نهاية الأمر، نتج عن ذلك أمران: نظام المتصرفية ونظام إقتصادي يلبي أساساً مصلحة رأس المال الخارجي، أكان على مستوى الإنتاج (إنتاج الحرير الخام في جبل لبنان لتصديره وتلبية حاجة المصانع في إنكلترا وفرنسا)، أو على مستوى التجارة مع الخارج الأوروبي (نمو فئة من الرأسماليين المحليين في بيروت وجبل لبنان تقوم باستيراد السلع وتوزيعها في السوق المحلي والأسواق المحيطة). ومع ظهور الحرير الإصطناعي وهبوط الطلب على الحرير الطبيعي، تسبب ذلك في ضرب الإنتاج المحلي، وهو المشغِّل الرئيسي للعمال الذين تحرروا من القيود الإقطاعية البائدة، وفي ارتفاع عدد العاطلين عن العمل، الأمر الذي دفع  1/3 سكان جبل لبنان لمغادرته متجهين إلى أمريكا الشمالية والجنوبية سعياً وراء لقمة العيش (أنظر، إختراع وطن، للكاتب أكرم خاطر، 2001، وكتاب اللبنانيون في العالم: مئة عام على الهجرة، تحرير ألبرت حوراني ونديم شحاده، 1992. والكتابان باللغة الإنكليزية) . كان ذلك بمثابة الموجة الأولى من هجرة “اللبنانيين” من المتصرفية التي أصبحت لاحقاً جزءاً من لبنان الكبير. وتوالت الموجات ليصل عدد المهاجرين في الأشهر الأربعة الأولى فقط لعام 2021، إلى 230 ألف مهاجر، بسبب الإنهيار الإقتصادي الذي بدأ يشهده لبنان منذ 2019. وفي كل مرة تنطلق فيها موجة جديدة من الهجرة إلى خارج لبنان (1945-1975؛ 1975-1990؛ 1990-2000؛ إلخ)، يكون الدافع في الأساس غياب الفرص للحصول على عمل يلبي حاجة المغادر/ة في بناء مستقبل كريم، أو/ و عدم الإستقرار السياسي وصولاً إلى نشوب حرب أهلية، كما حدث بين 1975 و1990. إن النظام الإقتصادي في لبنان وخصائصه البنيوية التي تقوم على سيطرة القطاع المالي – البنكي ورأس المال التجاري- الإستيرادي وشتى أنواع الخدمات والأنشطة الريعية، معطوف على نظام سياسي متحالف مع، ومستثمر في هكذا نظام، كفيل بدفع اليد العاملة، الكفؤة وغير الكفوءة، وبصورة دورية إلى مغادرة لبنان والعيش في الخارج. وما وجود ضعف سكان لبنان على الأقل في الخارج (دول الخليج، غرب أفريقيا، أوروبا، كندا، الولايات المتحدة، أميركا الوسطى والجنوبية، إلخ.)، إلا دليل ساطع على ما نقوله.

في إفادة النظام من الهجرة

اذن يلبّي النزيف الدائم لرأسمال البشري من لبنان في الدرجة الأولى حاجة النظام الإقتصادي للتخلص من فائض اليد العاملة التي يعجز دائماً عن توفير فرص العمل لها في لبنان. وعندما تفوق نسبة المغادرين على نسبة الطلب على اليد العاملة في سوق العمل اللبناني، يلجأ صاحب العمل إلى اليد العاملة غير اللبنانية. وهي ذات نسبة مرتفعة في لبنان خصوصاً في أوساط العمال غير المهرة، وكلفتها (أجور وانعدام الضمانات إلخ) أقل بكثير من أجور الحد الأدنى (في البدايات، كان الإتكال على عمالة الفلسطينيين في لبنان، ومن ثم على السوريين والمصريين والعمالة من الباكستان وسريلانكا والفلبين إلخ).

في الواقع، لا تتلخص إستفادة النظام من ظاهرة هجرة أبنائه بهذا الجانب فقط. فللإستفادة هذه عدة أوجه، منها ماهو إقتصادي ومنها ما هو سياسي – إجتماعي، وكلاهما يصبان في إعادة إنتاج الأسس التي بُني عليها النظام السياسي والإقتصادي في لبنان. هناك أولاً، استفادة هذا النظام والقوى التي تمثله من التحويلات المالية الهائلة للمغتربين إلى لبنان التي وصلت إلى 6.3 مليارات دولار خلال العام 2020، وتجاوزت فعليا الـ12 مليار دولار بعد الإحتساب التقريبي للتحويلات غير الرسمية. وما بين عامي 2017 و2019، بلغت تحويلات المغتربين رسميا نحو 8 مليارات دولار سنوياً، وقد تصل إلى ضعف هذه القيمة لأن ثمة أموالاً تأتي نقداً عبر المسافرين، كما سبق وذكرنا للتو. على الصعيد العام، تقوم هذه التحويلات المسجلة وغير المسجلة، بتلبية الحاجة الماسة للبنان لسد العجز (بالدولار طبعاً) في ميزان التجارة مع الخارج، والمساهمة في سد ديون الدولة من الخارج. وعلى هذا المستوى من الماكرو-إقتصادي، جزء لا يستهان به من هذه التحويلات يعزز النزعة الإستهلاكية لدى المجتمع اللبناني المتمثلة بالمستوى المفرط والبذخ لدى المغترب العائد أو الزائر إلى لبنان، كما وتتجلى هذه النزعة بظاهرة بناء البيوت الحجرية الفخمة في البلدات والقرى (معظمها يبقى فارغاً معظم أيام السنة) والأبنية التجارية في المناطق المدينية.

وعلى صعيد المايكرو-إقتصادي، يقوم القسم الأكبر من هذه التحويلات إلى الأهل والأقارب، بالتخفيف من كلفة معيشتهم. وبالتالي، تتحول هذه التحويلات إلى مسكِّن للأوجاع مما يخفف من غضب المتلقين لهذه المساعدات من النظام السائد بالبلد، وكي لا يتحوّل الغضب إلى محفِّز للإنخراط في النشاط السياسي المعارض لهذا النظام. أما انتشار هذه المظاهر المتعلقة بالمهاجرين والإرتفاع الملحوظ في عددهم بالنسبة إلى المقيمين في لبنان، فقد أدى ولا يزال إلى تعميم “ثقافة الهجرة” لدى غالبية اللبنانيين، لا سيما الفئة الشبابية منهم. وبحكم انتشار هذه الثقافة، نجد أنه بدلاً من الإهتمام والتخطيط للعيش في لبنان، والرهان على ذلك لبناء مستقبل الأبناء والانخراط في إزالة العوائق السياسية والإقتصادية أمام هذا الرهان، نجد أن معظم الشباب والشابات يهجسون بالسفر للعمل في الخارج، مجرد أن يقتربوا من مرحلة الدخول إلى سوق العمل. إذاً إنتشار “ثقافة الهجرة” هي أيضاً متنفس أساسي لاحتقان الغضب من أعطاب النظام السياسي-الإقتصادي والثقافي في لبنان، والذي كان يمكن له أن يتحول إلى بيئة حاضنة للدعوات السياسية لإصلاح الأوضاع في لبنان والمساهمة في تغييرها.

التنفيس ودور ألسلطة وأحزابها

وفي السياق نفسه، لا بد من ذكر الأثر “التنفيسي” الآخر الذي تولده الهجرة بصورة عامة والإستقرار في الخارج. وعدد اللبنانيين الذين يغادرون لبنان ليس بقليل، كما سبقت الإشارة إلى ذلك. وعندما يهاجر اللبنانيون واللبنانيات، فإنهم لا يهاجرون بصفتهم طاقة إقتصادية لا غير (ولا ننسى الهدر الإقتصادي المرافق للهجرة والناتج من الكلفة المالية والإجتماعية المبذولة من جيوب اللبنانيين في عملية التجهيز العلمي والإجتماعي لتلك الطاقة). المهاجرون هم أيضاً طاقة سياسية-إجتماعية تحمل في طياتها إحتمال الإنخراط في تحدّي  النظام في لبنان، والعمل على تغييره نحو الأحسن لو قيض لها البقاء في وطنها لبنان. وإذا تناولنا العدد الذي غادر لبنان في الأشهر الأربعة الأولى من العام 2021، وهو 230 ألف لبناني، فأننا نجد ليس فقط أن هذا العدد مرتفع، وإنما أيضاً يتألف في الغالب من فئات عمرية وطبقية (فئات شبابية ومن الطبقة الوسطى) اللتين كانتا على الأرجح منخرطتين في انتفاضة 17 تشرين، وما تلاها من نضالات ومواجهات مع السلطة ورموزها. ومع مغادرة هؤلاء الشباب والشابات للبنان، نكون قد خسرنا هذه القوى بصفتها طاقة مهمة للتغيير السياسي والإقتصادي في البلد.

وبغض النظر عن محاولات النظام في لبنان والقوى السياسية المدافعة عنه في التخطيط الواعي والسعي لربط المهاجر لخدمة مصالحهم (نشاط أحزاب السلطة في المهجر ومن بينها دعوتهم للتصويت لهم في الإنتخابات العامة، مساعي أجهزة الدولة والأجهزة شبه الرسمية – وزارة الخارجية والمغتربين، الجامعة الثقافية في العالم، مؤتمرات الطاقة الإغترابية – منح المغترب حق التصويت وفق نظام انتخابي على مقاس مصالح السلطة، تشييع سردية عن طبيعة اللبناني “المغامر” والذي لا يتخلى عن حبه للبنان، إلخ)، تبين لنا أن الهجرة، كظاهرة موضوعية في لبنان، ليست فقط نتيجة طبيعية للنظام السياسي-الإقتصادي والإجتماعي السائد، وانما هي لغاية الآن مدْرجة ومضْبوطة وفق آلية إعادة إنتاج هذا النظام ومصالحه. وفي ضوء هذه الحقائق لا بدَّ للقوى التغييرية في لبنان، لا سيما تلك التي تنتمي فعلاً إلى الروحية الثورية لانتفاضة 17 تشرين (كلن يعني كلن) وفي قلبها قوى اليسار ما- بعد الستاليني الشيوعي، من أن تنتج سياسيات مضادة لسياسات السلطة وسردياتها حول الهجرة والمهاجرين بصورة تفتح المجال لإطلاق ديناميكية تدفع بالمهاجرين لكي يتحولوا إلى طاقة للتغيير نحو لبنان المواطنة وليس الطوائف. لبنان العدالة الإجتماعية، لا المحاصصة والفساد والسرقات. لبنان الإقتصاد المنتج والمُوِّلد لفرص العمل لأبنائه. لا لبنان المصدر لأبنائه والمستورد لأغلب سلع حياته الضرورية.

 

 

Leave a Comment