سياسة مجتمع

العربدة الاسرائيلية برعاية اميركية مقابل الصبر الإيراني!

زكـي طـه

بيروت 13 نيسان 2024 ـ بيروت الحرية

خلافاً للمزاج العام ورغبات المؤيدين لهذا الطرف أو ذاك، وبعيداً عن التحليلات والتنبوءات الاعلامية، حول ما هو قادم من أحداث أو ردود افعال، تتوالى فصول الحرب الاسرائيلية المفتوحة انطلاقاً من مصالح أصحاب القرار والجهات المشاركة فيها. استناداً إلى تقديراتهم التي تدفع بهم لخوض معاركهم المشروعة أو مغامراتهم  الانتحارية، في سبيل تحقيق أهدافهم المباشرة والبعيدة، التي يتحكم بها ميزان قوى فادح في اختلاله  لمصلحة اسرائيل وحلفائها..

في هذا السياق كانت الغارة الاسرائيلية التي دمرت مبنى القنصلية الايرانية في دمشق، وسقط نتيجتها عدد من قادة الحرس الثوري المولجين بتنسيق عمليات قوى محور الممانعة في العراق وسوريا ولبنان وفلسطين. وإذ اقتصر رد النظام الايراني لغاية الآن على سيل من التهديدات، أهمها إعلان المرشد الأعلى بأن: إيران “ستعاقب إسرائيل” و”ستجعلها تندم على هذه الجريمة”. فإن النظام السوري أكتفى وعلى لسان وزير خارجيته بإدانة العملية، والتأكيد على متانة العلاقة مع ايران.

وإلى جانب استنكار الغارة، تعمّد وزير الخارجية الروسي، دعوة مجلس الأمن للانعقاد، ربما لأنها خالفت قواعد التنسيق التي تُلزم اسرائيل إحاطة قيادة القوات الروسية في سوريا بأي نشاط عسكري قبل حصوله. يؤكد ذلك مسلسل الغارات الجوية والصاروخية الاسرائيلية التي استهدفت مقار الحرس الثوري الايراني والميليشيات التابعة له، بما فيها مواقع ومستودعات وقوافل شحنات الاسلحة الخاصة بحزب الله، بالاضافة إلى العديد من مراكز جيش النظام والمنشآت والبنى التحتية، وأهمها مطاري دمشق وحلب.

وبغض النظر عن كمية الادانات والمواقف الدولية والعربية المستنكرة. كان البارز  التغطية الاميركية للغارة من خلال ادعاء عدم المعرفة المسبقة بها، وإعادة التذكير بتعهدات ايران وحزب الله بإزالة اسرائيل من الوجود، وتحذير الأخير من المشاركة في أي رد ايراني محتمل. لكن  الناطق الاسرائيلي كشف أن حكومته  لم تطلب موافقة واشنطن عند إحاطتها بما تنوي القيام به.

شكل تدمير القنصلية أوضح رسالة اسرائيلية للقيادة الايرانية حول دور الحرس الثوري في تنسيق معارك المساندة على سائر الجبهات، والسعي لاضافة الجولان السوري المحتل لها، عبر غرفة العمليات المشتركة، التي تشكل القنصلية الايرانية في دمشق مقراً لها، ضمن إطار التغطية على خضوعها للتهديدات الاميركية بعدم المشاركة في الحرب.

كذلك فإن الغارة تقع في إطار سعي اسرائيل لتحقيق أهداف حربها على جبهتها الشمالية، من خلال الجمع، بين تعريض حزب الله ولبنان لأقصى الضغوط السياسية، وتحميلهما مسؤولية ما يقع عليهما من  قتل ودمار جراء  رفضهما الاستجابة للطلبات التي تضمن أمن الدولة العبرية. وتوجيه أعنف الضربات العسكرية في لبنان وسوريا لتأكيد جدية خيار الحرب من قبلها. مما يعني أن العملية لا تخرج عن سياق الحرب الاسرائيلية المفتوحة منذ ستة اشهر، على قطاع غزة والضفة الغربية، والتي تحظى بكامل الرعاية والدعم الأميركي.

ولذلك لم يكن مفاجئاً أن يسارع اركان الادارة الاميركية لاحتواء الموقف الايراني  للحؤول دون توسيع دائرة الحرب في المنطقة، التي لا يريدها الطرفان كل لاسبابه. إيران التي تستثمر في معارك المساندة التي تخوضها قوى تدين لها بالولاء، من أجل حماية وتكريس ما حققته من نفوذ إقليمي على رافعة الازمات والانقسامات الأهلية الطائفية في العديد من بلدان المنطقة. وأميركا التي تتولى منذ عقود إدارة تلك الأزمات والتدخل في الحروب القائمة،  ضمن إطار استراتيجيتها للسيطرة والهيمنة التي تشكل اسرائيل احدى أهم مرتكزاتها.

ومع الاكثار من تبادل رسائل التهديد العلنية، وتصاعد ضجيج طبول الحرب، تعمدت الإدارة الاميركية الاعلان بأن تحذيراتها للقيادة الايرانية من مغبة دخولها الحرب لا تزال قائمة. ولم تتأخر مصادرها في الافصاح عن توافق على رد ايراني لا يفضي الى مواجهة مفتوحة وواسعة، كما كان الأمر على الدوام. ما يعني أن المنحى التصعيدي للعمليات الحربية على جبهة اسرائيل الشمالية  خلال الاسابيع الأخيرة،  لن يتجاوز قواعد الاشتباك التي تظلل حرب الاستنزاف المفتوحة من الجهتين، بانتظار نتائج الحرب المستمرة على قطاع غزة والضفة الغربية.

وهي الحرب التي لا تزال تشهد مستويات من العربدة التي لا حدود لها. سواء عبر تصعيد وتيرة قتل المدنيين بكل الوسائل والاسلحة المتاحة، وآخرها مصرع الاطفال جوعاً. أو من خلال حملات التهجير بقوة القتل وتكثيف عمليات التدمير وتشديد الحصار واطلاق النار على تجمعات النازحيين، وصولاً إلى حرق المستشفيات بمن فيها، والتمهيد لتنفيذ قرار احتلال مدينة رفح، عبر عمليات القصف التدميري لأحياء  منها لإجبار المقيمين فيها على مغادرتها، بانتظار اللحظة المناسبة لاجتياحها وتدميرها، وهو القرار الذي  يقتصر الاعتراض الاميركي والدولي بشأنه على الحد من قتل المدنيين.

أما الضجيج الاعلامي التضليلي، حول الخلاف بين الادارة الاميركية ورئيس الحكومة الاسرائيلية، والسجال معه والضغط عليه. فإن الغاية منه الحد من المفاعيل السلبية لبعض ردود الفعل على سياسات الرئيس الاميركي، سواء في بلاده، او على الصعيدين الدولي والعربي. وهو ما يقع في إطار التمويه على دور إدارته في الاشراف على سائر ملفات وجبهات الحرب السياسية والعسكرية والامنية، انطلاقاً من الالتزام الشامل بأمن اسرائيل وأهداف حربها وتأمين متطلباتها، وآخرها صفقة اسلحة بقيمة 18 مليار دولار. أما التهويل الاعلامي بتغيير سياساته، فهو لا يتعدى الاحتجاج على  إداء رئيس حكومة الحرب. الامر الذي انتهى عبر اعلان الرئيس بايدن أن نتانياهو استجاب للطلبات الاميركية، ومطالبة الوسطاء العرب، مصر وقطر، تصعيد الضغوط على حماس للقبول بشروط الهدنة المعروضة.

وبغض النظر عن جولات التفاوض المتعثرة بين الدوحة والقاهرة بشأن الهدنة. تستمر الحرب الاسرائيلية على مختلف الجبهات العسكرية والامنية، وسط اصرار حكومتها ورئيسها، على محاولة تحقيق أهدافهما بدعم أميركي معلن وصريح. وهو  إصرار لا ينال منه، تصاعد ردود الفعل الاممية والدولية سواء المستنكرة لقتل  المدنيين من منظمات الإغاثة الدولية ومن الفلسطينيين،  أو التي تطالب بفك الحصار وادخال المساعدات لمواجهة المجاعة الزاحفة على قطاع غزة.

كذلك فإن الخلافات السياسية الاسرائيلية واحتدام السجالات والصراعات بين القوى الحزبية التي تجمع بأكثريتها الساحقة على متابعة الحرب الحالية بالنظر لطبيعتها الوجودية، لم تنل لغاية الآن من قدرتها على تحمّل اعباء الحرب، ومن تقبل خسائرها البشرية والاقتصادية الهائلة، والتي لا يمكن الاستهانة بحجمها، أو بنتائجها السلبية على بنى مجتمعها. وما يعزز تلك القدرة هو اطمئنان قادة اسرائيل ومجتمعها للدعم الدولي الاميركي والغربي على رافعة المصالح المشتركة التي جعلت منها إحدى  المرتكزات السياسية الاساسية في المنطقة.

إن كل المعطيات تؤشر أن الحرب الاسرائيلية على قطاع غزة مستمرة ونحو مزيد من التصعيد، ولا يختلف الامر عنه بالنسبة للضفة الغربية، أو على الجبهة الشمالية مع لبنان. وما يسهل لإسرائيل ويحفزها لتصعيد عربدتها ليس الدعم الاميركي والتواطوء الدولي وحسب، ولا العجز والتواطوء العربي فقط، إنما واقع حال دعاة المقاومة لها في فلسطين، وقوى المواجهة معها في لبنان وسائر البلدان المعنية بمعارك المساندة. وهم الذين يخوضون معاركهم من مواقع الانقسام السياسي – الأهلي الطائفي أو الديني، وفق قواعد الاختزال والتهميش لمجتمعاتهم، والمصادرة لإرادتها وتجاهل مصالحها الوطنية المشتركة. بما فيه ممارسة القمع بحقها ومنعها من التعبير عن رأيها. ورفض الحوار الجاد حول ما تقوم به أو تمارسه.  مقابل الاصرار على خوض الصراع المفتوح مع جميع  القوى السياسية المخالفة لها، وصولاً إلى التشكيك بوطنيتها  بما فيه اتهامها بالخيانة والتآمر.

إن هذا الواقع يطعن بقدرة تلك القوى، على الانتصار في معاركها مهما بلغت امكاناتها. ولا يفيدها البحث عن انتصاراتها في ميادين أخرى، والإمعان في تجاهل أحوال مجتمعاتها وشعوبها المهمشة والمقهورة، التي يُضحى بها على مذبح المغامرات الانتحارية. علماً أن إحالة المسؤولية عن مآزقها على خصومها، بدل حصرها بالعدو المشترك، يبقيها مطية للاستغلال من الجهات الداعمة والممولة لها. هكذا الامر في فلسطين مع حركة حماس، ولا يختلف عنه في اليمن مع أنصار الله. وكذلك مع حزب الله في لبنان. أما النظام الايراني الذي يعرف أولوياته ومصالحه جيداً، فإنه يعرف أيضاً كيف يقود الآخرين لدفع اكلاف معاركه، والتحصن بممارسة الانضباط الذي يقضي به الصبر الاستراتيجي.

Leave a Comment