صحف وآراء

المتحولات في الاستراتيجية الاميركية في المنطقة بين ترمب وبايدن ـ الحلقة الثانية

الدكتور زهير هواري

العقدة الاميركية – الايرانية

مقابل تشبث إيران بشرط رفع العقوبات التي فرضتها الإدارة الاميركية السابقة قبل العودة للالتزام بالاتفاق النووي، تشترط الولايات المتحدة إعادة النظر بالاتفاق المذكور، وفتح الباب أمام البحث ببرنامج الصواريخ الايرانية البالستية، والتدخلات الايرانية في الاقليم سواء من خلال البوابة اليمينة أو العراقية أو غيرهما ( سوريا ولبنان)، بما يقود إلى ارغامها على الإنكفاء بعد التوسع الذي مارسته في غضون العقود المنصرمة. صحيح أن مباحثات فيينا شبه متوقفة الآن بانتظار تسلم الرئيس الايراني ابراهيم رئيسي الجديد مهامه وتشكيل فريق عمله المفاوض، الا أن هذا يجب ألا يقود إلى الاستنتاج أن ذلك سيمهد الطريق نحو عودة السلاسة إلى المفاوضات، والوصول إلى تسويات تجنب المنطقة مزيداً من الصراعات. كثيرون يرون العكس تماماً لأن رئيسي وجملة التطورات الداخلية الايرانية على صعيد  تموضع مواقع القوى، يعبر عن منحى تشددي في مواجهة الوضع المتفجر في الاقليم. والأولويات الاميركية الثلاثة تعكس أهداف إدارة ترمب أيضاً ، وفي ضوء هذه المقارنة يتبادر إلى الذهن التساؤل عما هي أوجه السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط التي سوف تبقى على حالها، وما هي المظاهر التي سوف تختلف عن الإدارة السابقة بشكل واضح [1]. وهو ما يعبر عن نفسه على مسرحي كل من العراق واليمن، كما ينسحب أيضاً على ملف آخر هو ملف محاربة الارهاب الذي تحاول الإدارة الجديدة زيادة مساهمة شركائها في تحمل أعبائه في الساحات المختلفة.

في السياق ذاته،اعتمدت الإدارة الأميركية الجديدة تصوراً ومفهوماً للتحولات في السياسة الخارجية الأميركية قائم على آفاق جديدة وأدوات ذات حركية أكبر، مع فرضية وجود معيار قيمي كمبدأ لضبط التوازن في منطقة الشرق الأوسط، ورفض الاقتداء بنموذج ما، كان سائداً عن تلك الواقعية التي تبنتها إدارة الرئيس الأميركي السابق ترمب، فرؤيتها تتجسد في اعتماد الأداة الدبلوماسية للتعامل مع الأزمات التي ينبغي الانخراط فيها بالمنطقة، وفي معرفة الوقائع المتغيرة دوماً. وقد اثبتت ذلك انطلاقاً من مراجعة الدعم العسكري لدول الخليج واستئناف الحوار مع إيران، وإمكانية تغيير العلاقة معها، وتفصيل الخيارات المتاحة لتجنب النزاعات العنيفة بالمنطقة، وتطبيق معايير القيم الأخلاقية في مواجهة الأزمات الإنسانية، وعودة الدور الأميركي كوسيط لحل الصراع العربي – الإسرائيلي عن طريق خلق شعور بالتعاون تؤسس قواعده انطلاقاً من مبدأ الواقع الممكن [2]. وهدف ذلك كله التفرغ الاميركي لمواجهة الصين على الصعيد الاقتصادي داخل اميركا وخارجها أيضاً.

ومن هذا المنظور الأميركي الجديد في منع أو احتواء الصراعات، يتبين أن أميركا مصرة على تبني سياسة “القفازات الحريرية” مع إيران من خلال الضغط الهادىء على طهران لوقف برنامجها النووي والصاروخي ومعالجة انشطتها الإقليمية عبر حلفائها، مقابل الغاء العقوبات والدخول في جولة مفاوضات سريعة لصياغة اتفاقية جديدة تأخذ هذه المرة في الحسبان ملف ترسانة الصواريخ الباليستية، وضم دول جديدة للاتفاقية، خاصة دول الجوار الجغرافي كالسعودية والإمارات حتى تتواءم مع التغييرات على المستوى الاستراتيجي في توسيع ملامح حركتها للحفاظ على مصالحها القومية[3]

وفي إطار هذا الصراع والتنافس الذي تمارسه القوة الفاعلة في منطقة الشرق الأوسط من أجل الترسيخ الجيوسياسي للنفوذ، يعتقد وليام بيرنز أنه على الولايات المتحدة أولاً إعادة تقويم سياستها الخارجية تجاه المنطقة، واعطاء أولوية والتوجه نحو منطقة آسيا الباسفيك لوجود أخطار جيوسياسية تلحق الضرر بالمصالح الأميركية ثانياً، وفي المقابل، ففقدان الولايات المتحدة لهيمنتها ونفوذها في منطقة الشرق الأوسط سينعكس سلبيا على دورها ومكانتها على الساحة الدولية. أي أن هناك علاقة تبادلية بين وضع اميركا في منطقة الشرق الأوسط ووضعها في الشرق الآسيوي، ما يتطلب منها الحفاظ على أوراق قوتها في كليهما. وعليه في خطوة لاحقة ، يقترح بيرنز ركائز استراتيجية بالنسبة للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، تتمثل في ضمان حرية الملاحة والوصول للنفط في الخليج العربي، و حماية الحلفاء الاستراتيجيين في المنطقة كإسرائيل والسعودية من أي تحديات تشكل تهديدا لأمنهم، ومضاعفة جهودها لمكافحة ظهور الجماعات الإرهابية وانتشار أسلحة. ومن هنا تمنح البراغماتية في سياسة الولايات المتحدة الخارجية خصوصاً حيال البرنامج النووي الإيراني أوراقا جديدة، واعتماد استراتيجية قائمة على الردع ضمن تجاذبات توزيع القوة في المنطقة، ومحاولاتها ادماج دول الجوار الجغرافي المحيطة بإيران في حلف سيمتد الى خلق بيئة إقليمية تشكل ضاغطاً كافيا لإرغام إيران على إعادة النظر بحساباتها وتحركاتها الإقليمية[4]. يتضح من هذا التوجه تفاعل ساحات النفوذ وتأثرها بمجريات تبدو خارجة عنها، لكنها فعلياً تتشابك في نطاقها الاستراتيجي، ما يعبر عن الحرص الاميركي على القيام بدورها حفاظاً على مصالحها الاستراتيجية الأوسع.

الاتفاق مع إيران بخصوص برنامجها النووي هو أكثر نقاط سياسة بايدن الشرق أوسطية وضوحاً، وهو الأولوية الأهم لهذه الإدارة في المنطقة. فمنع إيران من امتلاك سلاح نووي هو جزء من سياسة الولايات المتحدة لمنع الانتشار النووي في العالم. وترى الولايات المتحدة أن امتلاك إيران للسلاح النووي سيطلق سباقاً للتسلح النووي في المنطقة، كما أنه سيزيد من احتمالات نشوب صراع مسلح بين قوى إقليمية رئيسية، وذلك في إطار إصرار قوى إقليمية منافسة لإيران على منع الأخيرة من التحول إلى قوة نووية، حتى لو استلزم ذلك شن الحرب ضدها.

لقد كان الرئيس بايدن قريباً من المفاوضات التي انتهت بتوقيع الاتفاق النووي مع إيران عام 2015، بحكم منصبه كنائب للرئيس باراك أوباما؛ كما شارك في هذه المفاوضات عدد من المسؤولين الذين اختارهم لشغل مناصب رئيسية في إدارته، بما قد يعزز الاعتقاد بأن عدداً من هؤلاء ينظرون للاتفاق النووي مع إيران كإنجاز خاص بهم، يسعون لإستعادته، بعد أن قوضته الإدارة السابقة.

العودة البسيطة لاتفاق 2015 هو ما تطالب به طهران، غير أن مثل هذه العودة لن تكون بالأمر اليسير، فقد جرت مياه كثيرة تحت الجسور في منطقة الشرق الأوسط خلال السنوات الخمس الماضية، وأهم هذه التغيرات هو أن أكثر من نصف عمر الاتفاق النووي مع إيران، والمقرر دخوله في مرحلة الغروب في عام 2025، قد انقضى. إن الفترة القصيرة الباقية من عمر الاتفاق لا تجعل مجرد العودة البسيطة له أمراً مغرياً، خاصة وأن إيران قد قامت بالفعل بالإرتقاء بقدراتها النووية منذ أن انسحبت إدارة الرئيس ترمب من الاتفاق. لقد تضمنت عملية التوصل للاتفاق النووي مع إيران آليات واختبارات كثيرة للثقة بين الطرفين، أما بعد انسحاب الولايات المتحدة، وقيام إيران بمعاودة تخصيب اليورانيوم، فإن الثقة بين الطرفين تعرضت لانتكاسة كبيرة، سيستغرق استعادتها وقتاً وجهداً.

عند التوصل للاتفاق النووي الإيراني في عام 2015 تجاهلت إدارة الرئيس أوباما الكثير من التحفظات الجوهرية التي عبر عنها حلفاء الولايات المتحدة في الإقليم، خاصة دول الخليج العربي وإسرائيل. وقد أظهرت خبرة السنوات الخمس الأخيرة أن هذه التحفظات لم تكن مجرد أوهام أو مخاوف بلا أساس. فبرنامج الصواريخ الإيرانية حقق تقدماً سريعاً جداً، مما جعله تهديداً أمنياً حقيقياً لدول المنطقة، وقد قامت إيران بالتورط في الاستخدام الفعلي لقدراتها الصاروخية، عندما هاجمت منشآت آرامكو النفطية السعودية في صيف العام 2019. وقامت بتصدير صواريخ من إنتاجها لميلشيات مختلفة حول المنطقة، وللفصائل الفلسطينية في قطاع غزة. بالإضافة إلى ذلك فقد عززت إيران من قدرتها على التدخل في الشؤون الداخلية لدول المنطقة من خلال المليشيات التي ساهمت في تكوينها في لبنان والعراق [5].

والآن يبدو أن ايران ليست على عجلة من أمرها في مسألة التفاوض حول ملفها النووي، لا سيما وأن الإنتهاء منه سيفتح عليها ملفات أخرى من شأنها إضعاف عناصر القوة  التي تمسك بزمامها . فمسألة الصواريخ البالستية تمثل القدرات الهجومية الوحيدة المتوفرة لها في ظل فقدانها السلاح الجوي. كما أن كبح التدخلات الاقليمية في المحيط تعني خسارة الاستثمار الذي دفعت فيه مليارات الدولارات، وأرواح وجهود على امتداد عقود متلاحقة. فمثلاً تدرك القيادة الايرانية وفي ظل تداخل أزماتها الداخلية وساحات فعلها، أن مواقع نفوذها ستتدحرج مثل قطع الدومينو في حال وافقت على التخلي عن واحدة منها، ما يمهد السبيل نحو انتقال المواجهة من الخارج إلى الداخل في ضوء جملة الاختناقات التي تستنزف قدراتها[6].  لذلك لم تبدُ ايران مستعجلة في التفاوض الذي تشهده فيينا. وهي توطن نفسها أصلاً على مفاوضات النَفَس الطويل. وخلالها لن تسلم أي من أوراقها بسهولة انطلاقاً من ادراكها صعوبة اعتماد الولايات المتحدة العودة الى الخيار العسكري، لصالح التمسك في الوقت نفسه بالمسار الدبلوماسي. وهو ما يشكل مفتاح الاستراتيجية الاميركية في هذه المرحلة، والتي تقوم على مبدأ “الضغط والدبلوماسية”، الضغط من خلال الاستمرار في الحصار الذي تتعرض له، ومساندة حلفائها لها ، والدبلوماسية من خلال طاولة المفاوضات، أو عبر القنوات السرية المعروفة وهي متعددة على أي حال. ما يجعل الامور اكثر إبهاماً وغموضاً، لانها تأتي في اطار الاستجابة للمخاوف الاسرائيلية من النتائج المحتملة لإعادة إحياء الاتفاق النووي، خصوصا وأن تل ابيب تعتقد بأن الأمور قد تكون لصالح طهران في المنطقة، انطلاقاً من معطيات لعل ابرزها – وحسب القراءة الايرانية – نتائج الحرب الاخيرة بين تل ابيب وحركة حماس. ومن ثم الاستعراض العسكري الكبير الذي اقامته هيئة الحشد الشعبي العراقي بمناسبة مرور سبع سنوات على تشكيله وبمشاركة رئيس االوزراء مصطفى الكاظمي، وما يعنيه ذلك من تثبيت هذه القوة الموالية لايران في المعادلة الداخلية العراقية. وهو ما جرى تتويجه بالزيارة الأخيرة التي قام بها الكاظمي لواشنطن، وانتهت إلى اتفاق مع بايدن على سحب القوات الاميركية المقاتلة وبقاء المدربين والمستشارين. فضلا عن دورها في مناطق النفوذ الايراني في الشرق الاوسط. وليس آخرها تداعيات القرار الاميركي بالانسحاب الكامل من افغانستان. وعليه، فان الضربة التي وجهتها واشنطن لقواعد الحشد الشعبي، وحسب طهران، تصب في اطار الضرورة الاميركية وكرد فعل على “ميل” المعادلة والتوازن في منطقة غرب آسيا لصالح ايران ومحورها[7].

حضور اللاعب الاسرائيلي

لم تغب اسرائيل عن الملف النووي الايراني بتعقيداته وتداخلاته ومخاطره يوماً. فالصراع الذي تخوضه ضد النفوذ الايراني متواصل منذ سنوات، وينطلق من اعتباره مصدر تهديد لوجودها ولنفوذها الاقليمي المتوسع هي الأخرى على حساب الدول والكيانات العربية الممزقة منها والمحافظة على تماسكها. أي أن هناك تنافساً على النفوذ قوامه اسرائيل وايران وتركيا ومسرحه الأقطار العربية سواء في الخليج والعراق وسوريا أو غيرهما.  والترجمة الأوضح لتوجهات اسرائيل الهجومية لا تتجلى فقط على الساحة السورية، حيث تتعرض المواقع العسكرية الايرانية والتابعة والمتحالفة معها لهجمات صاروخية عبر غارات طيرانها الحربي تنفيذاً لما يُطلق عليه “سياسة الحرب بين الحروب” التي أرساها نتنياهو خلال أعوام حكمه التي امتدت إلى دزينة من الأعوام ويتابعها خلفه. كما بلغت الهجمات في بعض الأحيان الاراضي العراقية لقطع الشريان البري الذي يربط طهران مع سوريا ولبنان. لكن الجديد الذي أضافه الاسرائيليون على حرب تقليم أظافر الأذرع الايرانية سرعان ما اتسع مداه ليشمل كل من الخليج العربي وبحر العرب والبحر الابيض المتوسط عبر الهجمات التي استهدفت السفن الايرانية، بعد أن تعرضت سفن اسرائيلية وغيرها لهجمات، يُعتقد أن وراءها الحرس الثوري الايراني أو مجموعات تابعة له[8]. ولكن يبقى الأهم لاسرائيل هو البرنامج النووي الايراني نفسه، والذي ترى فيه مصدر الخطر الرئيسي الوجودي عليها. يمكن وصف الاتفاقات وعمليات التطبيع التي تمت مع كل من دولتي البحرين والامارات العربية، بأنها تستهدف في جانب منها الاقتراب الاسرائيلي من مصدر الخطر لاستهدافه في حال صدور قرار سياسي بمهاجمة المفاعلات النووية الايرانية. وكانت اسرائيل تلح خلال حكم ترمب من أجل الحصول على ضوء اميركي أخضر لتنفيذ هجماتها المباشرة، وهو ما لم تحصل عليه. ما دفعها إلى اقتصار عملياتها على الهجمات الاستخبارية التي استهدفت سرقة وثائق سرية واغتيال علماء نوويين ايرانيين، وغارات سيبرانية على المنظومات الالكترونية للمفاعلات، وتفجيرات طالت عدداً من المنشآت الحيوية التي تعتبر بمثابة جزء من المشروع النووي الايراني.

إذن القرار الاسرائيلي واضح بما هو منع ايران من امتلاك السلاح النووي، وهو ما تتلاقى فيه مع الولايات المتحدة سواء خلال حكم ترمب أو بايدن. وتتوجه الدوائر العسكرية الاسرائيلية إلى حد تأهيل قواتها منفردة للقيام بمهمة القضاء على احتمالات امتلاكه. وقد خضع سلاح الجو الاسرائيلي إلى تدريبات مكثفة على القيام بمثل هذه المهمة، وقام باستكمال تجهيزاته بطائرات لتزويد اسطوله الحربي بالوقود جواً. لكن مربط فرس القرار يظل في يد واشنطن دون سواها، اذ لا تستطيع اسرائيل القيام بخطوة من هذا النوع دون مظلة الإجازة والحماية الاميركية في الوقت نفسه.

وتبذل اسرائيل جهوداً مكثفة لسبر أغوار حدود سياسة بايدن على صعيد المنطقة من جهة، والتأثير على الإدارة الاميركية لجذبها نحو مدار الحلول التي تراها للتخلص من الخطر الايراني بشقيه النووي والبالستي وامتداداته الاقليمية. وهذا ما يشغل الأوساط السياسية والبحثية على حد سواء، لاسيما وأن لاسرائيل خططها المعدة سلفاً للتعامل مع مصدر الخطر، الذي وإن لا يبدو فعلياً مهدداً الكيان الاسرائيلي في الداخل، لكنه يحد من إمكانيات الطموح إلى لعب دور اقليمي يجعل منها قطب الرحى على صعيد المنطقة. من هنا يمكن القول إن اسرائيل تبني على ما تحقق من اختراقات وإنجازات خلال عهد نتنياهو وترمب، وتعمل على مضاعفتها للوصول إلى تحقيق أهدافها التي تتعدى الساحات القريبة إلى المساحات العربية والاقليمية الأوسع [9].

ويوضح الجنرال أودي أفينتال على موقع “معهد السياسة والاستراتيجية” الإسرائيلي، والباحث المشارك في معهد السياسات الاستراتيجية في المركز متعدد المجالات في هرتسيليا، وخبير شؤون الشرق الأوسط والساحة الدولية والتهديدات العسكرية، سياسة بايدن في المنطقة ويعتبرها تتراوح بين التصالح والتشدد ، فمع دخول الرئيس بايدن إلى البيت الأبيض، ” بانتظاره كومة من المسائل الخارجية المشتعلة، وهو الذي أكد على وجوب عودة أمريكا إلى القيادة، وبالتالي فهو يولي أهمية كبيرة للسياسة الخارجية”.

ويتساءل أفينتال :”ما هي خطط بايدن للشرق الأوسط؟ وأين ستكون منطقتنا في سلم أولوياته؟ وما هي التوترات والاضطرارات بين أهداف ومصالح وقيم الولايات المتحدة بالنسبة للشرق الأوسط والتي ستضطر إدارة بايدن للمناورة فيها؟ وكيف تبدو المعاني من ناحية إسرائيل؟”.

ويبين أن “سياسة واشنطن في المنطقة، ستنشأ من مبادئ السياسة الخارجية الأوسع؛ إعادة بناء النظام الدولي الليبرالي-الديمقراطي، وتعزيز الديمقراطية، والانتصار في المنافسة الدولية حيال الصين وروسيا”، مضيفاً أنه “رغم تعلقها المتقلص بالنفط في المنطقة، فلا تزال للولايات المتحدة مصالح متواصلة في المنطقة؛ أمن إسرائيل، والتدفق الحر للطاقة، ومنع التحول النووي لإيران، والحرب ضد الإرهاب”.

ويجزم أن “إيران في أعلى سلم أولويات إدارة بايدن، التي ستسعى إلى استئناف الدبلوماسية وعدم التصعيد والحوار مع طهران، أما حيال دول الخليج، فسينفذ “إعادة بدء” و “إعادة فحص” للعلاقات؛ فمن جهة، ستواصل الولايات المتحدة ضمان أمنها في وجه التهديدات الإقليمية، ومن جهة أخرى فهي لن تعطي “شيكا مفتوحا” لقمع حقوق الإنسان، وللخصومات الداخلية ولحروب كارثية عبر وسطاء، وعلى رأسها حرب اليمن”.

ويذكر أنه “بين التقليص والتدخل والانجذاب، يوجد الشرق الأوسط في سلم أولويات ثانوي من ناحية إدارة بايدن، وذلك بعد كثير من المعالجة الملحة للأمراض الاجتماعية والاقتصادية الداخلية، والمنافسة مع القوى العظمى وترميم مكانة الولايات المتحدة في الساحة العالمية”، مضيفاً أنه “عندما سعت الولايات المتحدة لتقليص تواجدها في المنطقة، عادت لتُجتذب إليها على خلفية أحداث 11 أيلول/سبتمبر، الربيع العربي وانتشار داعش”. [10]

وقدّر أن “كل مظهر ضعف من شأنه أن يكشف أن دبلوماسية بايدن في الشرق الأوسط وحدها دون تهديد عسكري لن تكفي لتحقيق الأهداف الأميركية”، موضحا أن “عقدة التوترات بين المصالح، والقيم والأهداف في سياسة الإدارة الخارجية الأميركية، تنعكس جيدا في مسائل إقليمية ملموسة على جدول الأعمال”.وبشأن الاتفاق النووي مع إيران، نبّه إلى أن “بايدن إلى جانب وزير الخارجية ومستشار الأمن القومي هم من مهندسي الاتفاق، يؤمنون به ويسعون للعودة إليه، وهي خطوة معناها رفع العقوبات، وفقدان رافعة العقوبات التي تبينت كأمر هام في ضوء الضرر الشديد للاقتصاد الإيراني، وسيجعل من الصعب جدا على الإدارة تحقيق التزامها في تعديل مواضع خلل الاتفاق النووي، ومثل هذا السلوك، سيرفع مسار الاحتكاك والتوتر بين إدارة بايدن مع حلفاء واشنطن من الدول العربية وإسرائيل، التي سترى في العودة إلى الاتفاق ورفع العقوبات والامتناع عن التهديد العسكري، خطوات تعزز مكانة طهران في المنطقة”[11] .

على أي حال لقد سبق و تحدث بايدن عن “تغيير المسار” مع إيران. لكن ما يطلبه من شروط ترفضها طهران لأنها تنزع معظم أوراق القوة في يدها. وما تطلبه إيران لا يريد ولا يستطيع أي رئيس أميركي تلبيته. وهو بالتأكيد أيضاً لن يتسامح مع أردوغان الذي أرخى يده ترمب، كما دلّل أمثاله من السلطويين الشعبويين. لا في التنمر على العرب ولا في الاستيلاء على أرض عربية، ولا في التمرد على حلف الناتو ومغازلة روسيا. والكل يتذكر أن بايدن كان له مشروع لمستقبل العراق بعد الغزو الأميركي يقوم على: تقسيمه إلى ثلاث دول، كردية في الشمال، سنية في الوسط، وشيعية في الجنوب، أو أقله إقامة فيديرالية شاملة أو كونفيديرالية. لكن من الصعب أن يتمسك به حالياً، حيث تبدلت ظروف العراق في التوجه نحو الاستقلالية وتنامي النفوذ الإيراني ضمن الطموح إلى التحكم به كله، لا بدولة شيعية في جنوبه. ولن يترك سوريا للروس والإيرانيين والأتراك، كما فعل ترمب، خصوصاً أنه يرى في الرئيس فلاديمير بوتين “خصماً استراتيجياً”. أما لبنان، فقد أعلن بايدن “الحرص على أن يكون مستقبله خالياً من الفساد وشاملاً لكل أبنائه، وعلى دعم الجيش الذي هو الدعامة الأساسية لاستقرار البلاد” [12].

هذا وكشفت صحيفة “يديعوت أحرونوت” الإسرائيلية أن رئيس الأركان الإسرائيلي أفيف كوخافي نقل خلال زيارته الأخيرة إلى واشنطن، عدداً من الرسائل إلى الإدارة الأميركية حول الإتفاق النووي وإيران، ومنها تهديدات بشن هجوم عسكري ضد طهران.

ونقلت الصحيفة عن كوخافي قوله إن إسرائيل اتخذت قراراً بإحباط المشروع النووي العسكري الإيراني قبل عام من الانتخابات الرئاسية الأميركية، وقبل المحادثات حول إعادة إحياء الإتفاق النووي.

وأضاف كوخافي خلال محاضرة في واشنطن، أن الحكومة الإسرائيلية السابقة برئاسة بنيامين نتنياهو خصصت ميزانية لثلاث خطط من أجل إحباط المشروع الإيراني، وأن الحكومة برئاسة نفتالي بينيت تعهدت بإضافة مبالغ كبيرة كي يكون الجيش الإسرائيلي على جهوزية تامة في أقرب وقت.

ولفتت الصحيفة إلى أن هناك تحديات أمام تلك الخطط، ومن بينها حجم منظومة الدفاع الجوي الإيرانية، التي أصبحت أكبر بست مرات عما كانت عليه قبل عشر سنوات، والصواريخ الإيرانية المتطورة المضادة للطائرات، إضافة إلى تزايد أعداد المنشآت النووية تحت الأرض.

وبحسب الصحيفة، طالب كوخافي في الرسائل التي نقلها إلى الإدارة الأميركية عبر مسؤولين أميركيين، بعدم وضع تواريخ  في الاتفاق النووي، مثلاً عدم تحديد موعد بدء إيران تطوير أجهزة طرد مركزي متقدمة أكثر ، أو السماح بتطوير مجالها النووي بحلول العام 2031. وقال إن موعد انتهاء الاتفاق يجب أن يكون وفقاً للتطورات السياسية، كتغيير النظام الإيراني أو تبدل في رؤيته على الأقل.

وبعد تصريح الرئيس الأميركي جو بايدن بأنه لن يسمح لإيران بامتلاك سلاح نووي خلال فترة حكمه، نقلت الصحيفة عن مسؤولين أمنيين إسرائيليين، قلق إسرائيل حول مصير الاتفاق النووي بعد رحيل بايدن.

وفي السياق، أشار محلل الشؤون العسكرية في الصحيفة أليكس فيشمان إلى أن “كل شيء مفتوح الآن: بإمكان الأميركيين الاستمرار في التشاور مع إسرائيل وإطلاعها حول آخر التطورات مع إيران، وبإمكانها ألا تفعل ذلك”.

ولفت فيشمان إلى أن إسرائيل لن تتفاجأ إذا أعلنت الإدارة الأميركية خلال أسابيع عن توقيع الاتفاق النووي، مضيفاً أن الموقف الإسرائيلي شفاف وواضح بالكامل حول هذا الأمر، وأن تل أبيب لا تخفي عن الأميركيين الاستعدادات العسكرية. [13]

الهدف من هذا العرض هو إعادة تجميع عناصر الخارطة في منطقة تعاني من تعدد وتنوع التدخلات الاقليمية والدولية التي تتعرض لها. وهي تدخلات ترى اسرائيل أنها باتت بمثابة لاعب أساسي فيها، ولم تعد دولة تعاني من المقاطعة والحصار المفروض عليها. كما لم تعد مجرد طرف، بل أصبحت في موقع القوة الاقليمية القادرة على التأثير في مجرى الأحداث. لا يعني ذلك أنها تستطيع الخروج على الإرادة والقدرة الاميركية العليا، لكنها تحاول الحصول على نصيبها من النفوذ والهيمنة على منطقة باتت مسرحاً للتكالب عليها، كما حدث عندما باتت مجرد ممتلكات الدولة العثمانية المهزومة في الحرب الأولى، وتَرِكة تتنازع عليها القوى الاوروبية المنتصرة أي بريطانيا وفرنسا خلالها.

[1] – الميموني ، المصدر السابق نفسه .

[2] – “الانخراط الأميركي المتجدد في الشرق الأوسط وإعادة تشكيل الأولويات : الحالة السورية انموذجا” ، مجلة ابحاث استراتيجية ، العدد(15)،(2017).

[3] – والتر راسل مِيد ، “نهاية الحقبة الويلسونية: لماذا فشلت النزعة الدولية الليبرالية “، ترجمة جلال خشيب ، البوصلة الجيوبوليتكية، العدد (57) ،(2021).

[4] – أحمد عبد الحكيم ، “بايدن والشرق الأوسط”… ماذا تخبئ دفاتر الإدارة الأميركية الجديدة” ، موقع اندبند نت عربية ، 20 /1/ 2021، شوهد في 16/3/2021، في : https://www.independentarabia.com

[5] – اتجاهات السياسة الأمريكية تجاه قضايا الشرق الأوسط في عهد بايدن – مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية (ahram.org.eg)

[6] – الاندبندنت عربية / الأربعاء 18 نوفمبر 2020

[7] – المدن الالكترونية / 04/07/2021

[8] – تصاعدت الهجمات المتبادلة بين كل من اسرائيل وايران، وباتت تنذر بالتوسع في أعقاب الهجوم الذي تعرضت له سفينة اسرائيلية بواسطة طائرات مسيرة مطلع شهر آب / أغسطس 2021 الذي اتهمت اسرائيل ايران بتدبيره، مؤكدة أنها سترد عليه. عدد من المراقبين فسروا التصاعد في الهجمات البحرية الايرانية أنه رد على ما تتعرض له مواقعها في سوريا من غارات جوية.

[9] – غزة- عربي21- 5 كانون الثاني /  يناير 2021

[10] – المصدر السابق نفسه .

[11] – غزة- عربي21- أحمد صقر# الثلاثاء، 05 يناير 2021

[12]  – الاندبندنت عربية / الأربعاء 18 نوفمبر 2020 . ومن المعروف أن الولايات المتحدة تتابع تزويد الجيش اللبناني بالمساعدات العسكرية والتدريبية، وقد باتت هذه المساعدات  بمثابة العمود الفقري لتجهيزات الجيش اللبناني وسط تدهور ميزانيته وصولاً الى حاجاته القصوى إلى الأغذية وقطع الغيار وغيرها من الأمور اللوجستية اليومية.

[13] – المدن الالكترونية ،  02/07/2021

Leave a Comment