سياسة مجتمع

محسن ابراهيم في ذكراه: المقيم الدائم بأسئلته بيننا ومعنا

زكي طه

بيروت 4 حزيران 2025 ـ بيروت الحرية

قبل خمس سنوات غادرنا أمين عام منظمتنا محسن ابراهيم، وترك لنا قلقه حول مستقبل المنطقة وقضاياها المزمنة. رحل وخلَّف وراءه جعبة ملأى بالأسئلة والتساؤلات حول أوضاع بلداننا العربية ومصيرها. لكنه ترك لنا أيضا إرثاً ثميناً من المواقف والرؤى، ومن المراجعات النقدية للتجارب السياسية والنضالية التي شارك في تأسيسها وإطلاقها والخوض في غمارها. وآخرها مراجعته لتجربة منظمتنا، التي كان أميناً عاماً لها مع كل ما تعنيه الكلمة من مواصفات القيادة والدور. وهي المراجعة التي كان المبادر الوحيد لها بكل جرأة ومسؤولية على كل المستويات الفكرية والسياسية والتنظيمية والنضالية في آن. وهو الذي لم يتردد في ذكرى أربعين رفيقه الشهيد جورج حاوي، من الإفصاح عن بعض أهم أخطاء الحركة الوطنية واليسار، والتحذير من خطر تصاعد الحراك الطائفي على مستقبل ومصير البلد.

حاذر محسن ابراهيم في مراجعته النقدية، عزل التجارب التي انخرط فيها عن السياق العام لأوضاع المنطقة الحافلة بالأحداث والتطورات. ولذلك لم يقع في الاستسهال والتبسيط لأنه كان من أكثر المعنيين بها، وباعتبارها تجارب البلد والمنطقة في آن. لقد امتلك جرأة النقد والنقد الذاتي وغايته تحديد الأخطاء والاستفادة من دروس تلك التجارب، مدخلاً لتجديد التزامه بالأهداف النبيلة التي بررت اطلاقها والانخراط فيها  بإرادة حرة وعزم لا يعرف التردد. وعليه لم يخشَ يوماً من الاعتراف بالخطأ، خلافا للذين يرفضون الاعتراف بأخطائهم، ويتهربون من الإقرار بالحد الأدنى من مسؤولياتهم عنها. والأفدح أن بعضهم لم يتوانَ عن ادعاء بطولات لم تكن لهم  وتزوير وقائع مثبته. لكن الأخطر كان لدى من آلت إليهم شعارات المقاومة، الذين لم يتعلموا من اخطاء التجارب السابقة، بل أمعنوا في تكرارها، واستسهلوا الاستثمار في الانقسامات الطائفية والمذهبية والعرقية لمجتمعات بلدانهم، وبذلك تحوّلت ساحات مشرعة للتدخلات الخارجية، وميادين للصراعات الداخلية التي لا تنتهي.

سنوات خمس مضت على رحيل رفيقنا محسن ابراهيم، وهو المقيم الدائم بيننا ومعنا، ونحن نستعيد اسئلته ونعيد صياغتها وفق متطلبات اللحظة الراهنة التي آلت إليها اوضاع المنطقة، لأنها تشكل امتداداً لما سبقها من محطات، شكلت الاطار الزمني السياسي والفكري لمسيرته مناضلاً وقائداً حزبياً ومفكراً تقدمياً. نستحضر قراءاته للأحداث وتحليله لها للإفادة منها. نستعيد مراجعاته للتجارب السابقة وغايتنا أن تشكل حصانة لنا، ونحن نجدد التزام الاهداف التي تشاركناها معه عقوداً طويلة من النضال في سبيل تحقيقها، نبني على ما كان صائباً، ونحاذر تكرار الأخطاء. وعليه، كانت ولا تزال دليلاً مرشداً لنا ونحن نقرأ ونتابع المفاعيل التدميرية للسياسات الاميركية في المنطقة، تنفيذاً لاستراتيجية الفوضى الخلاقة، وغايتها احكام سيطرتها عليها. وهي السياسات التي بدأت مع احتلال العراق وتدمير دولته ومؤسساته. ومع مؤتمر السلام العربي الاسرائيلي والهدف منه تصفية القضية الفلسطينية. وكلاهما شكلا الارضية التي استندت إليها تدخلات النظام الايراني والحكم التركي اللذين نجحا في استغلال سياسات وممارسات أنظمة الاستبداد العربي، التي شرَّعت أبواب بلدانها للتدخلات الخارجية. وفي هذا السياق تصاعد حضور الدورين الإيراني والتركي وارتفعت وتيرة تدخلهما في الاوضاع الداخلية للبلدان العربية وفي أزماتها المتفجرة، من خلال دعم وتوظيف التنظيمات الاصولية الطائفية والمذهبية. ما أدى إلى تفكك مجتمعاتها ودولها، وإلى تبدل أوجه الصراع في المنطقة حول مختلف قضاياها وأزماتها.

ومع تطور الاحداث وانفلات الصراعات الأهلية، استطال واستمر بلا جواب سؤال محسن ابراهيم حول ما سيتبقى من سوريا قبل أن ينتهي نظام الاسد. ولم تختلف عنه الاسئلة حول مخاطر الدعم الخارجي لتلاعب حماس بوحدة الشعب الفلسطيني، وتسعير الانقسام والصراع على السلطة، بالتزامن مع تصاعد الخطر الاسرائيلي الذي يهدد وجوده وقضيته الوطنية وحقوقه على أرضه. كذلك بقيت بلا أجوبة الاسئلة المتعلقة بمستقبل العراق واليمن وليبيا والسودان و… وفي موازاة ذلك تناسلت على غير انقطاع الاسئلة حول مستقبل لبنان، في ظل الانقسام الأهلي المستدام بقوة تصاعد خلافات اللبنانيين ونزاعاتهم التي لا تنتهي حول قضايا الهوية والنظام والدولة والمواطنة والعدالة الاجتماعية، بالتوازي مع الهروب من مراجعة تجاربهم وانتظار الحلول من الخارج.

في المحصلة وبعد خمس سنوت على رحيل محسن ابراهيم، لا نرى مبالغة في القول إن مسار الاحداث والتطورات في أوضاع المنطقة، لم يكن مفاجئاً بقدر ما كان متوقعاً على نحو اجمالي، نظراً لافتقاد الدول العربية حصاناتها الوطنية والقومية، وسهولة التلاعب بوحدة مجتمعاتها، جرَّاء ارتهان قواها الداخلية للخارج، وصعود الاصوليات الطائفية والمذهبية والعرقية بكل تشكيلاتها،  التي حاصرت الاحزاب القومية والوطنية واليسارية التي انتهت فعاليتها وتاكل وجودها وأدوارها، جراء هروبها المتمادي من مراجعة تجاربها وإعادة النظر بمقولاتها وبرامجها.

اليوم وبعد خضوع المنطقة باسرها لأحكام  عصر السيطرة الاميركية الكاملة. نفتقد القائد محسن ابراهيم، كما نفتقد معه ياسر عرفات وكمال جنبلاط ومعروف ومصطفى سعد وانعام رعد وجورج حاوي وجورج حبش ونايف حواتمة وسواهم، من القادة الشجعان الذين حفلت تجاربهم النضالية بالأحداث والمواقف الرائدة كل من موقعه، لأنها كانت وثيقة الصلة بقضايا شعوب المنطقة العربية ومجتمعاتها، وفي القلب منها قضية فلسطين. تجارب ظللتها لعقود طويلة شعارات الوحدة والتحرر والتحرير والتقدم والمصير المشترك. وفي سبيلها تعددت أطر وجبهات النضال والمواجهة، وفي سياقها كثرت السجالات والمعارك الفكرية والسياسية، كما حدثت حروب كبرى، شكلت بمجملها تاريخنا الحديث.

اليوم، ومع دخول المنطقة العربية، بلداناً ومجتمعات عصر الانحطاط، نفتقد محسن ابراهيم الذي كان يراه زاحفاً، وقد أصبح أمراً واقعاً، استناداً لنتائج الحرب الاسرائيلية المستمرة خلال العامين الاخيرين. ليس ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة والضفة الغربية، وغايتها النيل من وجوده على ارضه وتصفية قضيته الوطنية عبر استغلال الانقسام القائم بين قواه في اطار الصراع على السلطة، وحسب، إنما أيضاً بفعل التطابق الاميركي ـ الاسرائيلي حول الأهداف التدميرية لتلك الحرب التي تقاطعت وتشابكت أهدافها، مع أهداف ومصالح القوى الإقليمية ممثلة بإيران وتركيا، عبر تبني المعارك التي تحولت ذرائع لمسلسل لا ينتهي من الحروب المدمرة، التي لم تزل تتوالى فصولاً كارثية على كل من سوريا واليمن ولبنان، بالتزامن حرب الابادة والموت قتلاً وجوعاً التي تنفذها اسرائيل ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة امام انظار العالم أجمع.

يجري ذلك بالتزامن مع تقدم مسارات التطبيع العربي مع اسرائيل، وبالتوازي مع التسليم المطلق من دول المنطقة ونظمها الحاكمة لشروط وتوجهات الإدارة الاميركية على النحو الذي يتوافق مع الدور والمصالح الاسرائيلية على سائر الجبهات في المنطقة. بدءاً من إدارة المفاوضات في ظل استمرار الحرب الاسرائيلية، لتصفية الوجود الفلسطيني في قطاع غزة، والسعي لقطع الطريق امام حل الدولتين، ورفض اي دور للسلطة الفلسطينية. إلى رعاية تقاسم النفوذ في سوريا بين تركيا واسرائيل، بعد خضوع الحكم الجديد فيها لدفتر الشروط الاميركي بما فيه  بدء التطبيع مع اسرائيل مقابل رفع العقوبات.

وفي لبنان تمارس الإدارة الاميركية اقصى الضغوط من أجل إلزام لبنان بتنفيذ بنود اتفاق الهدنة وفق شروط اسرائيل، بما فيها مطالبته بالتطبيع معها. وهي التي لا تكتفي برفض الانسحاب من المواقع التي تحتلها، بل تتمادى في تصعيد عدوانها عليه، عبر الاحتلال الدائم لأجوائه ومن خلال مسلسل اغتيال كل من ترى فيه مصدر خطر أمني او عسكري ضدها، هذا عدا عمليات التدمير التي ينفذها طيرانها الحربي على امتداد الاراضي اللبنانية.

رحل محسن ابراهيم في زمن الأسئلة الصعبة، لكن بلداننا ومجتمعاتنا أصبحت في الزمن الاشد صعوبة وخطورة. زمن القلق على مصير وقضية الشعب الفلسطيني وحقوقه في وطنه. زمن تجدد الأسئلة   الكبرى حول مستقبل سوريا كياناً وطنياً ومجتمعاً أهلياً متنوعا ودولة واحدة. زمن احتدام الاسئلة حول مصير لبنان وامكانية اعادة بناء الدولة فيه، وسط ادمان اللبنانيين الهروب من مسؤولياتهم عن انقاذ بلدهم، وعلى تكرار إضاعة الفرص المتاحة لخلاصه، ورفض تخلي قواه عن الارتهان للخارج والاستقواء  به ضد بعضهم البعض، والتهرب من الاحتكام للحوار الجاد حول قضاياهم الخلافية كما حول المصالح والحقوق المشتركة بين مواطنيهم، والأخطر انتظار الحلول من الخارج.

في الذكرى الخامسة لرحيل محسن ابراهيم نتوجه بالتحية للشعب الفلسطيني في صموده ونضاله وتضحياته كي يكون له دولة في وطنه. والتحية لجميع للبنانيين الذين يراودهم حلم بقاء لبنان ويسعون لتحقيقه، كي يبقى وطناً لجميع ابنائه. والتحية أخيراً إلى كل الشهداء والمناضلين والقادة الذين نفتقدهم اليوم، وفي طليعتهم محسن ابراهيم.