د. بول طبر
استراليا 27 شباط 2025 ـ بيروت الحرية
يبدو لي أن الصعوبة التي نواجهها، ورثة روحية انتفاضة 17 تشرين، 2019، في بناء موقع نضالي متجذر في وسط شعبي يرى مصلحته في ذلك، تعود إلى أمر أساسي: طغيان المدخل الطائفي، ومن ثم المداخل الأهلية الأقل اتساعاً، لإيجاد الحلول لمختلف المشاكل التي نواجهها في لبنان، أكان في الداخل اللبناني أم بالعلاقة مع الخارج وعلى رأسه، الخطر الصهيوني المتجسد بالكيان الإسرائيلي.
ومن تجليات طغيان هذا المدخل، التسليم بأولية شعار “المواجهة مع إسرائيل وحلفائها”، رغم تهافته المستمر، لدى أوساط الشق “الممانع” من السلطة الحاكمة، وتقديمه على أي إعتبار آخر، موصولاً على مستوى الشأن الداخلي اللبناني بخطاب سياسي طائفي مقابل للخطاب الطائفي المنتشر في أوساط المعسكر “السيادوي”. ورغم تأزم خطاب كل من المعسكرين المتمثل بالأوضاع المتردية التي تعيشها أغلبية الشعب في لبنان، لم نصل بعد إلى حالة تتوفر فيها ما يكفي من الفرص الموضوعية لانتشار أوسع لخطاب وطني وديموقراطي، وخطاب يقوم على مبدأ العدالة الإجتماعية، كمدخل غير ” أهلي” لحل الأزمات المتنوعة التي يواجهها اللبنانيون. ولم تتوفر بعد القوى السياسية المفترض أن تنتسب إلى الطرح الوطني المطلوب، وأن تكون متفلتة من أية قيود “أهلية” وعلى رأسها القيود التي التي تفرضها المكونات الطائفية-الإقتصادية للسلطة، لاطلاق أوسع لعملية بناء الموقع الوطني والديموقراطي واليساري لمواجهة هذه الأزمة المركبة في لبنان.
لقد تأسس لبنان كدولة ونظام ومجتمع على مبادىء ومعايير طائفية (وأهلية أخرى من مناطقية وعشائرية وعائلية) عملت على تسخير العلاقات الرأسمالية الوافدة والمصالح التي تشكلت حولها لشرْعنة وجوده والنظام الذي قام على تلك المبادىء والمعايير. أدى ذلك على امتداد السنوات التي تلت إستقلال لبنان عام 1943 وصولاً إلى اتفاق وقف إطلاق النار بين لبنان وإسرائيل في 27 تشرين الثاني، 2024، إلى التطييف السياسي والإجتماعي للمجتمع اللبناني من كل جوانبه. والمقصود بعبارة التطييف السياسي والإجتماعي هو القول بأن جميع القوى السياسية الرئيسية، أكانت مسيطرة أم مسيطَر عليها، أصبحت قوى تنْتظمها المعايير والعصبيات الطائفية وما إلى ذلك من علاقات وعصبيات أهلية دون مستوى ما تشمله الهوية الطائفية التي تمثِّل الإطار الأوسع لتنظيم السلوك السياسي والإجتماعي للأفراد في لبنان. صحيح أن أبناء الطوائف غير المارونية (وليس زعماؤها) لم تكن بأغلبيتها ملتحمة بعصبيات الطوائف التي تتحدر منها، لا بل كانت تتأطر في معارضتها للعصبية المارونية المسيطرة آنذاك، تارة في أحزاب قومية عربية (ناصرية وبعث ومنظمة التحرير الفلسطينية) وطوراً في أحزاب يسارية-شيوعية. إلا أن التأطير الطائفي لقوميي وشيوعيي الامس أصبح طاغياً، وتراجعت في المقابل التجمعات النقابية العمالية والقطاعية (طلاب ومعلمون على سبيل المثال) وتقلصت شعبية الأحزاب اليسارية والعلمانية. والمجال غير متوفر في سياق هذه المقالة لأتطرق إلى الأسباب العديدة والمتنوعة التي أدت إلى تراجع وانحسار الأحزاب القومية والشيوعية، إلا أن المؤكد هو أن محصلة هذا التراجع كانت تصاعد انفكاك الفاعلين السياسيين في لبنان من الأطر القومية والشيوعية وحتى الليبرالية، والتحاقهم المتزايد بالقوى والأحزاب الطائفية المواجهة لقوى وأحزاب المارونية السياسية (أساساً حزب القوات اللبنانية والتيار العوني..).
إن غلبة التطييف المعمَّم الذي أشير إليه، تؤكده مضاعفاته على بنية الدولة بمختلف مؤسساتها وعلى آلية عملها في مجالات الحَوْكمة وإدارة الشأن العام (محاصصة وتقاسم الخدمات العامة، التوظيفات، التنمية إقتصادية، إلخ). ويضاف لها تداعياته على العلاقات الإقتصادية، ومنها تعطيل الاصطفافات الطبقية التي يمكن أن تستولدها مصالح الفئات المسْتَغَلَّة والمشكَّلة عبر تلك العلاقات لجهة تشكيل النقابات بمختلف القطاعات وظهور الأحزاب السياسية التي تدافع عن تلك المصالح. ومن جهة الفئات المتحكمة بالنظام الإقتصادي الرأسمالي السائد في لبنان، وقد كان صائباً تحديدها بفئة “المصرفيين والمستوردين والعقاريين”. وهي التي لا تعتمد فقط على قوانين تؤمن لها مصالحها المشتركة وعلى أجهزة الدولة القمعية للحفاظ على تلك المصالح، بل تستند أيضاً بصورة رئيسية على الطائفية السياسية والولاءات الأهلية الأكثر ضيقاً لتفتيت أي معارضة “طبقية” ممكنة لمصالحها من جهة، ومن جهة ثانية، لتنظيم وإدارة مصالحها بالذات.
وعليه على سبيل المثال، يصبح طغيان طائفة بعينها في صفوف الفئات المسيطرة على الإقتصاد في لبنان من أوليات الأفراد “البرجوازية” من تلك الطائفة. وأي قراءة ملموسة لسلوك “البرجوازية” في لبنان تظهر أن اللحظات التي تتوحد فيها مواقفها لا تشكل سنداً لإفراز وطن للجميع وتصنيع دولة وثقافة وطنية تؤمن من خلالها، كما هي حال البرجوازيات في المجتمعات الأوروبية الرأسمالية، هيمنتها على الفئات التي تستغلها، دولة ذات هوية شمولية (ضمن حدود الدولة المعنية) تنبذ المعايير الأهلية في تحديد آلية عملها في التعاطي وإدارة الشأن العام (للكشف عن العلاقة بين المواطنة والوطنية وبين الإستغلال الطبقي، أنظر إلى كتابات غرامشي عن الهيمنة). بل العكس كان ولا يزال صحيحاً: كان سلوك “البرجوازية” في لبنان عاجزاً عن إدارة تفجر واحتدام الصراع مع الفئات التي تستغلها من خارج منطق وآلية الصراع الطائفي.
وكما ذكرنا سابقاً، وخصوصاً بعد انهيار المعارضة القومية واليسارية لرموز النظام والقوى السياسية المسيطرة (في مرحلة ما بين منتصف الستينات وبداية السبعينات)، إستأثرت الأطر والقوى السياسية الطائفية في المجال السياسي، الأمر الذي يجعل القوى التي ترفع راية العدالة الإجتماعية في وجه الإستغلال والبرامج الوطنية في وجه الحلول الطائفية والأهلية وإدارتها للدولة والتحكم بوظائفها (التي تشتمل على الدفاع عن إستقلال لبنان وحدوده)، غير مسموعة ومهمشة في أسوأ الأحوال.
على ضوء هذه القراءة لما وصلت الأمور إليه في لبنان من تفتيت للدولة والمجتمع والإقتصاد، ينبغي التفكير في أزمة المعارضة الليبرالية واليسارية في لبنان وتلمس طريق الخروج من أفقها المسدود بطرح السؤال اللينيني: ما العمل؟
هنا أسارع للقول أن الجواب (أو الأصح أن نقول الأجوبة) على هذا السؤال يجب أن ينطلق من مسلمة تفيد أنه لا فائدة من الجواب الذي يفترض ما هو غير موجود راهناً في الإجتماع والسياسة في لبنان. أي افتراض وجود دولة موحدة بالحد الأدني مما يسمح بدرجة من العلاقات والتفاعل بين “اللبنانيين” تسمح لهم بوعي مصالحهم المشتركة العابرة للإنقسامات الأهلية السائدة في ما بينهم في الوقت الراهن. فلا إستغلال العمال والمأجورين ولا المستَغِلّون قادرون، كل من جهته، على أن يتشاركوا في الرؤية والتنظيم وأن يتجاوزوا الأطر الأهلية (طائفية وغيرها) التي تحجزهم ضمن قيودها الضيِّقة. ذلك أن المشكلة الأساسية التي يواجهونها في المرحلة الراهنة، دون تغييب المشاكل للفئات الشعبية الواسعة، كالإستغلال والسيطرة وغياب الحرية والمساواة، هي بناء دولة المواطن والقانون بالحد الأدنى المنصوص عليه في اتفاق الطائف.
وعندما يتم الشروع الفعلي بتنفيذ تلك المهمة، يبدأ اللبنانيون بتحسُّس واخْتبار انتمائهم الوطني اللبناني، وتعود الأواصر المشتركة لتترمَّم. وعلى هذا الأساس يصبح من الممكن الكلام والتحشيد السياسي على أسس تجمع بين أصحاب المصلحة في مواجهة السيطرة والدفاع عن الحرية والديموقراطية وتأمين العدالة الإجتماعية على قاعدة إلغاء استغلال الإنسان للإنسان.
Leave a Comment