*عزة الحاج حسن
منذ أكثر من 4 سنوات، حين تفجّرت الأزمة المالية والمصرفية في لبنان واحتجزت أموال المودعين، لم تُحرز السلطات المعنية أي تقدّم على صعيد إعادة الودائع أو تحديد مسبّبات الإنهيار وتوزيع المسؤوليات.
لم يحظ المودعون، منذ سنوات وحتى اليوم، سوى على سجالات غير مجدية وتبادل اتهامات وتقاذف للمسؤوليات بين المصارف ومصرف لبنان والسلطة السياسية. ويردّد البعض بان السلطة السياسية هي من أسّس لجريمة العصر بإنفاق مليارات الدولارات. ويرى آخرون أن المصارف هي من أساءت إدارة أموال المودعين، فيما يخلص البعض إلى أن حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة شكّل العقل المدبر لعملية الإختلاس الكبرى.
لكن في حقيقة الأمر أن المودعين تعرّضوا لعملية سطو منظّمة من منظومة متكاملة، تقوم على سياسيين ومصرفيين ورجال أعمال وحتى قانونيين. فالنموذج اللبناني يُعتبر فريداً من نوعه لجهة تقاطع المصالح، فهناك سياسيون يملكون مصارف وسياسيون مساهمون في عدة مصارف ومصرفيون تولوا الشأن العام كوزراء أو نواب او قضاة. حتى أن هناك سياسيين يملكون شركات متعهّدة خدمات عامة. وهنا نرى نموذج السياسي البائع والشاري للخدمة العامة في الوقت نفسه. باختصار، تشهد الساحة اللبنانية كافة النماذج التي أسست وسهّلت عملية اختلاس الودائع.
علاقات تضامنية
هناك علاقة تشاركية تضامنية بين السياسيين والمصرفيين تعود إلى عقود من الزمن ومستمرة حتى اللحظة. وقد شكّلت بشكل أو بآخر التغطية للأزمة المالية المصرفية التي تفجّرت عام 2019. تلك العلاقة لا تزال مستمرة حتى اليوم لإبراء ذمة السلطتين السياسية والمصرفية من مسؤولية الأزمة. فالشراكة الوثيقة بين القطاع المصرفي والسلطة السياسية، لا تقتصر على المساهمات والتعاون وغيره، بل ترقى إلى مستوى الشراكات الحقيقية وعلاقات النسب وشراء الحصص وتأسيس الأعمال المشتركة داخل وخارج البلد.
ومن خلال الترابط الوثيق بين المصرفيين والسياسيين، باتت سلطة جمعية المصارف تتخطى السلطتين التشريعية والتنفيذية. ولطالما نجحت في تعطيل قرارات إصلاحية وتجيير أخرى لصالحها. وإذا ما عدنا لارتباطات بعض رؤساء جمعية المصارف، نجد أن الراحل ريمون عوده (بنك عودة) تسلم رئاسة جمعية المصارف عام 1993 ثم تسلّم مهام وزير بحكومة فؤاد السنيورة عام 2008 ضمن تحالف 14 آذار. فريد روفايل (البنك اللبناني الفرنسي) تسلم رئاسة الجمعية عام 1997، و1999 شغل منصب وزير مال ووزير عدل ووزير ما كان يُعرف سابقاً بوزارة البرق والبريد والهاتف في حكومة الرئيس سليم الحص. جوزف طربيه (بنك الاعتماد اللبناني) تسلم رئاسة جمعية المصارف عام 2001 و2003 و2009 و2011 و2015 وكان رئيس إدارة ضريبة الدخل في وزارة المالية من العام 1970 إلى 1988، ورئيس الرابطة المارونية من 2007 إلى 2013 بكل ما تضم من قيادات سياسية مارونية.
أما أعضاء جمعية المصارف، فعدد كبير منهم شغل مناصب سياسية رفيعة، لاسيما أن هناك 18 من كبار المصارف تعود ملكيتها لسياسيين سابقين أو حاليين، أو إلى شخصيات منتمية إلى عائلات سياسية. وهو ما يشير إلى أن العلاقة بين الطرفين متحكمة بشكل أو بآخر بالقرارات السياسية في البلد. وهو ما يفسّر أيضاً أسباب تهرب المصارف من تحمّل مسؤولياتها تجاه المودعين، وحمايتها من قبل الحكومات المتعاقبة والسلطتين التشريعية والقضائية.
بنك الموارد
عرضت “المدن” في سلسلة حلقات من برنامج “اقتصاد لايت” كيفية تقاطع المصالح بين المصرفيين والسياسيين، من خلال رسم خريطة ملكية وإدارة كل مصرف على حدة، بدءاً من بنك الموارد وSGBL مروراً ببنك عودة ووصولاً إلى مصارف BBAC وIBL وMed وLGB ومصارف أخرى.
فالمصارف تؤمن مظلة حماية من شركاء ومساهمين وعلاقات قرابة ونسب وروابط أخرى لا تنتهي. فمدير ورئيس مجلس إدارة بنك الموارد على سبيل المثال، مروان خير الدين العضو والمؤسس للحزب الديمقراطي اللبناني، سبق وترشّح على الانتخابات النيابية على لوائح الثنائي الشيعي، وتلقى دعماً لا محدوداً على كافة الصعد لكنه انهزم. إلا أن علاقته بالسلطة السياسية لا تقف عند طموحه السياسي وعلاقاته الحزبية. فقد سبق لخير الدين أن تعيّن وزيراً بين الأعوام 2011 و2014، كما تربطه علاقة نسب مع السياسي طلال ارسلان. فزوجة الأخير هي شقيقة خير الدين. وتمتد العلاقات العائلية إلى خارج دائرة أرسلان. فوالدة مروان خير الدين هي شقيقة النائب السابق والوزير أنور الخليل، المدعوم من حركة أمل.
وإلى جانب خير الدين في مجلس إدارة بنك الموارد، هناك مجيد جنبلاط النائب السابق لحاكم مصرف لبنان. وتربطه ايضاً علاقة نسب مع أرسلان. فمجيد جنبلاط هو زوج أخت طلال إرسلان. كما يضم مجلس إدارة المصرف نفسه ابراهيم حنا ضاهر وزير الدولة السابق لشؤون التنمية الإدارية (2004-2005).
وكان سبق لخير الدين أن تولى منصب عضو مجلس إدارة بورصة بيروت (بين الأعوام 1994 و1999) في وقت كان يشغل فيه أيضاً منصب مستشار ارسلان حين تولى الأخير مناصب وزارية عديدة. وهنا نرى الصورة الجامعة للسياسي المصرفي وصاحب القرار في مؤسسة عامة ترتبط بشكل أو بآخر بعمل المصارف.
SGBL
مصرف آخر سبق له أن ساهم بالإطاحة بالحلول المطروحة للخروج من الأزمة المالية المصرفية، الواقعة منذ سنوات، لأن الحلول ببساطة تتعارض مع مصالح كبار المصرفيين، وهؤلاء يملكون سلطة القرار في مجلس النواب.
فرئيس مجلس إدارة مصرف سوسيتيه جنرال SGBL انطون الصحناوي هو ابن أخ مؤسس المصرف في لبنان أنطون ميخائيل صحناوي، الذي شغل منصب وزير البرق والبريد والهاتف منتصف الستينيات، وهو ابن عم نقولا الصحناوي عضو مجلس النواب ووزير سابق للاتصالات وابن نبيل الصحناوي، الذي يشغل منصب عضو مجلس إدارة في البنك نفسه.
أنطون الصحناوي الذي يشغل أيضاً مقعداً ثانياً في مجلس إدارة المصرف، كممثل لإحدى الشركات المساهمة، لا تقتصر سلطته السياسية على علاقات القربى، إنما تتعداها إلى مروحة واسعة من الشراكات والتحالفات السياسية.
انطون الصحناوي خاض الانتخابات النيابية طولاً وعرضاً، ودعم لوائح انتخابية في غالبية المناطق اللبنانية. وبالمحصلة، وصل إلى مجلس النواب عدد كبير من النواب المدعومين منه. وقد دعم الصحناوي في الانتخابات الأخيرة لوائح وأفراد، بينهم جورج عقيص وجان طالوزيان ونديم الجميل ووائل بو فاعور، الذي تربطه به علاقة متينة، وراجي السعد الذي تربطه به علاقة قربى.
كما يرتبط الصحناوي بعلاقة خاصة بنادر الحريري، نجل النائبة بهية الحريري والمدير السابق لمكتب الرئيس سعد الحريري. وعلاقات الصحناوي تتجاوز السياسيين إلى القضاة. فالقاضي شربل أبو سمرا الذي نظر بأكثر من دعوى بحق الصحناوي تربطه صلة قرابة بالنائب طالوزيان المحسوب على الصحناوي. فالنائب طالوزيان هو زوج أخت القاضي أبو سمرا، التي تشغل أيضاً منصباً إدارياً في بنك سوسيتيه جنرال.
بنك عودة
بنك عودة نموذج آخر تتقاطع فيه المصالح السياسية والمصرفية بشكل فاقع، فالراحل ريمون عودة مؤسس المصرف، تولى رئاسة مجلس الإدارة حتى وفاته، وشغل منصب وزير شؤون المهجرين. أي أنه كان وزيراً ومصرفياً في الوقت نفسه. كما شغل أيضاً منصب رئيس جمعية المصارف.
بعد الوزير السابق ريمون عودة، استلم رئاسة مجلس إدارة المصرف سمير حنا، المصرفي المقرب جداً من رياض سلامة. شارك حنا بجريمة الهندسات المالية التي اعتبرها البنك الدولي مقدمة الانهيار المالي. فقد ورد اسم بنك عودة وسمير حنا بقضية رياض سلامة وإبنه وشقيقه الحافلة بتهم الفساد وتبييض الاموال.
سمير حنا الذي صدر بحقه قرار بحث وتحرٍ بجرم إساءة الأمانة والاحتيال والإفلاس الجزائي، لديه شبكة أعمال في البلد تفوق الوصف، متعددة الاختصاصات. وقد توسّعت أعماله لتشمل ابنه المتعاقد عبر شركته مع معظم المصارف، وصهره المدير التنفيذي لبنك عودة، الذي استفاد عبر شركاته من أموال الدعم.
وإلى جانب ارتباط بنك عودة بإحدى الشركات المملوكة من ابن رياض سلامة، وتمريره لمعظم عملياته المالية المشبوهة بأوروبا، فهو يجمع مساهمين مقربين من شخصيات سياسية بارزة، منهم فهد الحريري شقيق سعد الحريري وطه ميقاتي شقيق نجيب ميقاتي.
وقد أثبت ميقاتي انتمائه للمصرف من خلال الدفاع الشرس عنه، ووقف ملاحقته والوقوف بوجه القاضية غادة عون بالقضية المرفوعة على البنك، بتهمة تبييض الأموال والإثراء غير المشروع.
BBAC
نماذج أخرى من المصارف لا تقل خطورة عن سابقاتها بتجاوزاتها وعلاقاتها مع السياسيين، منها بنك BBAC، فنائب رئيس مجلس إدارة بنك بيروت والبلاد العربية على سبيل المثال، هو وزير التربية القاضي عباس الحلبي، الذي تولى أيضاً وزارة إعلام بين عامي 2021-2022 وعضو مجلس إدارة البنك أمين رزق، نجل النائب والوزير السابق الراحل إدمون رزق.
وفي البنك نفسه هناك نموذج واضح من تناقض الصلاحيات، فعضو مجلس الإدارة فاروق محفوظ هو عضو سابق في لجنة الرقابة على المصارف، وممثل المؤسسة الوطنية لضمان الودائع، أي المؤسسة المتخصصة بحماية أموال صغار المودعين بالمصارف اللبنانية.
IBL
بنك إنتركونتيننتال لبنان IBL الذي يترأسه النائب السابق سليم حبيب، لديه مساهمون فاعلون أو كانوا فاعلين بالحياة السياسية متل النائب السابق إيلي الفرزلي، الذي تولى وزارة الإعلام (2004-2005). وكان النائب السابق الراحل محمد بيضون مساهم بـIBL وفي الوقت عينه كان مسؤولاً كبيراً في حركة أمل، وحمل حقائب وزارية عديدة، منها وزير الإسكان والتعاونيات (1990-1992) ووزير الطاقة والمياه (1992- 2000-2003).
Bank med
بنك البحر المتوسط مثال آخر على التماهي السياسي والمصرفي بالبلد، فإسم المصرف يرتبط باسم رئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري وأبنائه. الحريري الذي أمّن وصول رياض سلامة إلى حاكمية مصرف لبنان سنة 1993.
يضم مجلس إدارة بنك البحر المتوسط الوزيرة السابقة ريا حفار الحسن، التي تولت وزارة الداخلية والبلديات (2020-2019) ووزارة المالية (2011-2009)، ونازك عودة الحريري أرملة رئيس الحكومة الأسبق ووالدة زوجة نزار دلول ابن النائب والوزير السابق محسن دلول (2004-1991).
ولا ننسى أن المصرف مملوك من مجموعة ميد القابضة، وهي الشركة المسؤولة عن تشغيل استثمارات عائلة الحريري والمملوكة بجزء كبير منها من رئيس الوزراء السابق سعد الحريري (2009-2011)، (2016-2020).
Credit Libanais ومصارف أخرى
في مجلس إدارة بنك الاعتماد اللبناني النائب والوزير السابق مروان حمادة، ممثل الحزب التقدمي الاشتراكي ووزير التربية والتعليم العالي (2016-2019)، وتولى أيضاً وزارة الاقتصاد والتجارة (2003-2004) ووزارة المهجرين (2000-2003) إلى جانب الوزير السابق سمير مقدسي وزير الاقتصاد والتجارة 1992.
وفي مجلس إدارة بنك لبنان والخليج الأمر نفسه. هناك النائب السابق أنطوان شادر أحد محامي حزب الكتائب، والمدعي العام التمييزي السابق القاضي سعيد ميرزا. لذلك ليس مستغرباً أن نسمع عن رئيس مجلس إدارة بنك اشترى يختاً بـ20 مليون دولار خلال الأزمة، وآخر شقة في لندن وسواه شركة في أفريقيا، في وقت يلعب فيه القضاء اللبناني دور المتفرّج على جريمة العصر، والمودعون يتسوّلون أموالهم من المصارف.
وكما شهدنا تشابكاً بالمصالح في فرنسبنك، من خلال مؤسس المصرف الوزير السابق عدنان القصار، الذي تولى وزارة الاقتصاد والتجارة (2004-2005) ويملك حصة وازنة في بنك بيروت والبلاد العربية والبنك اللبناني للتجارة BLC هناك أيضاً في البنك اللبناني للتجارة نفسه الوزير السابق نعمة طعمة من 2005 إلى 2008، وكذلك في بنك لبنان والمهجر وبيبلوس وFNB وبنك بيروت وسرادار وسيدروس وسواهم.
بالمحصلة، إن مسألة التواطؤ بين السلطة السياسية والمصارف لا تقتصر على كبرى المصارف، بل تشمل أيضاً المصارف المتوسطة والصغيرة، فالمرتكب واحد، بمعنى أن الحاكم والفاسد والسارق والقاضي هم كيان واحد.
*نشرت في المدن يوم الأحد 2024/05/12
Leave a Comment