ألان غريش*
قوبل مشروع القرار الذي يدين “مأسسة دولة إسرائيل لنظام الفصل العنصري الناتج عن سياستها الاستعمارية”، والذي ينوي البرلمان الفرنسي مناقشته غداً (4 أيار/مايو) باحتجاجاتٍ غاضبة وصيحات استياء واتهامات متوقَّعة بمعاداة السامية. وغالباً ما يمكن تفسير ردود أفعال كهذه بتغاضي أصحابها عن واقع الصهيونية الاستعماري. منذ عصر “الاكتشافات الجغرافية الكبرى”؛ في القرن الخامس عشر؛ نشأت حركة غزو كبيرة للقارات بقيادة أوروبا، عُرِفت في التاريخ باسم “الاستعمار”. في كتابه Terra nullius (2017)، عرَّف الصحافي السويدي سفين لينكفيست “الأراضي الخاوية”، التي كانت قابلة للغزو، بأنها “تلك الأراضي التي لم تكن تنتمي إلى أي حاكم مسيحي في العصور الوسطى. بعد ذلك، صارت “الأراضي الخاوية” هي التي لم يطالب بها أي بلد أوروبي، والتي تصبح من حق أول بلد أوروبي يغزوها. إنها أراض مقفرة، أراض مهجورة”.
اتخذ الاستعمار شكلين: في معظم الحالات، كان بضعةُ آلاف من الإداريين والجنود القادمين من البلد المستعمِر هم الذين يتولون مهمة إدارة البلدان التي تم احتلالها. من ناحيةٍ أخرى، كان “الاستعمار الاستيطاني” مصحوباً بهجرة أعداد هائلة من الأوروبيين؛ كما حدث في أميركا الشمالية وإفريقيا الجنوبية والجزائر ونيوزيلندا وأستراليا، وأخيراً في فلسطين (ولكن في سياق مختلف تماماً، إذ كان ذلك في القرن العشرين وتزامن مع بداية الحركات الكبرى المناهضة للاستعمار)؛ وبتحوُّل ديموغرافي. ولعلَّ ما سهَّل تلك الهجرة مشاعر التفوُّق التي سيطرت على المستعمرين، كما ذكر المستشرق ماكسيم رودنسون في نصٍّ شهير نُشِر عام 1967 بعنوان “إسرائيل، فعلٌ استعماري؟”، والذي قال فيه: غرس التفوُّق الأوروبي؛ حتى في وعي الأشخاص الأكثر حرماناً من بين من شاركوا في المشروع الاستعماري؛ فكرة أن أي أرض خارج أوروبا قابلة للاحتلال من عنصر أوروبي. (…) وأن ما كان عليهم سوى إيجاد أرضٍ خاوية. لم يكن الأمر يتعلّق بالضرورة بخوائها من السكان، لكنه كان نوعاً من الخواء الثقافي، خارج حدود الحضارات. ذلك الاستعلاء، حتى ولو لم يؤدِ إلى مجازر (وهو ما كان أمراً نادر الحدوث)، كان مبرِّراً لكل أشكال التمييز الذي مورس ضد السكان المحليين ورسَّخ؛ في الحياة كما في القوانين؛ للـ”فصل” بين الوافدين الجُدد و”السكان الأصليين”، ولـ”هيمنة” الأولين على الآخرين، أي فصلاً عنصرياً فعلياً حتى قبل شيوع ذلك المصطلح. استند النظام بأكمله إلى التمييز في الحقوق (الفردية منها والجماعية)، وكذلك التمييز بين المستعمرين و”السكان الأصليين” (الذين تم تقسيمهم وفقاً لعدد لا يُحصى من الفئات: حضاري، متطوّر، هجين، عرق مختلط، إلخ).
النصوص الدينية كـ”سند مُلكية”!
ينفي المدافعون عن الصهيونية أن يكون لها أي علاقة بالمشروع الاستعماري. فالصهيونية؛ التي نشأت في القرن التاسع عشر؛ قدّمت نفسها كحركة تحرُّر مماثلة لحركات الشعوب المقموعة التي عاشت في ظل الإمبراطوريات الكبرى متعددة الجنسيات، كالإمبراطوريات العثمانية والقيصرية والنمساوية المجرية، من الصرب إلى السلوفاكيين، ومن البولنديين إلى الكروات. فقد كان اليهود يطالبون مثلهم بدولةٍ خاصة بهم. ولكن، على عكسهم، لم يكن هدفهم تأسيسها حيث كان يعيش غالبية اليهود، ولكن على أرض فلسطين، حيث كان عددهم محدوداً. وتحجَّجت الصهيونية بالروابط التاريخية والدينية التي تربط اليهود بتلك الأرض بموجب الكتاب المقدّس، أي بنص ديني يعود تاريخه إلى آلاف السنين، وأرادت الحركة أن تستخدمه كنوع من سند الملكية. ومن المفارقة التاريخية أن غالبية مؤسّسي الحركة كانوا ملحدين. هل يمكن الاستناد إلى نصوص أسطورية للمطالبة بأرض؟ أيمكن لنصٍّ كالكتاب المقدس قد ثبت أنه ذو صلة ضئيلة بأحداثٍ حقيقية – رغم أنه يُدرَّس ساعة يومياً في حصص التاريخ (وأعني التاريخ) في كافة المدارس الإسرائيلية – أن يكون سند ملكية؟
بالرغم من ذلك، يقبل العديد من الغربيين الذين يدّعون العلمانية ويرفضون أي أوامر باسم النصوص الإلهية أو الحقوق البالغة في القدم، تلك الحجج.
مؤخّراً، أشادت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين “بالشعب اليهودي الذي تمكن أخيراً من بناء وطنه في أرض الميعاد”. ميعاد مع الله؟ لو طبَّقنا هذه المبادئ في بلدٍ آخر، لكانت النتيجة ألف عام من الحروب، كما يتّضح من إعلان موسكو أن أوكرانيا ليست سوى “روسيا الصغرى”، أو إعلان صربيا أن كوسوفو مهد شعبها. ولمَ لا تطالب فرنسا إذاً بمدينة “إكس لاشابيل” (واسمها اليوم “آخن” وتقع في ألمانيا)، التي كانت عاصمة إمبراطورية شارلمان “ملك الفرنجة”؟ لسنا هنا بصدد إنكار الروابط الدينية التي تربط اليهود بالأراضي المقدّسة، فعلى مدار قرون من حكم الدولة العثمانية، كان بإمكان اليهود أن يؤدّوا شعائر الحج وأن يُدفنوا في القدس على أمل أن يكونوا أوّل من يشهد القيامة بقدوم المسيح المخلِّص. لم يكن ليخطر ببال أحد أن يمتدِح استقرار “الحجّاج الأوائل” في أميركا باسم حقهم في إقامة “مدينة الرب”، ولا غزو الأوروبيين (الأفريكان) لأفريقيا الجنوبية بحجة أنهم “الشعب المختار”.
اشتراكية الغزو
لتنفي عن نفسها تهمة الاستعمار، طرحت الحركة الصهيونية ثلاث حجج أخرى، حتى وإن عفا على بعضها الزمن، ألا وهي: طابعها الاشتراكي، وبُعدِها المناهض للإمبريالية، وغياب بلد استعماري أتى منه المستوطنون(…). في أربعينيات القرن الماضي، عارضت بعض الجماعات الصهيونية الوجود البريطاني، وأحياناً اتخذت تلك المعارضة شكل عمليات إرهابية دموية (وهو ما لا تحب الأجيال التالية تذكُّره). ولكن، هل يجعل ذلك من الصهيونية حركةً مناهضة للإمبريالية؟ فلولا دعم لندن القوي، وهي القوة الإمبريالية التي كانت مسيطرة عالمياً في النصف الأول من القرن التاسع عشر، لم يكن الـ”يشوف” (المجتمع اليهودي في فلسطين) ليصبح كياناً سياسياً واقتصادياً وعسكرياً مكتفٍ ذاتياً في ثلاثينيات القرن العشرين. استراتيجية قائمة على التفرقة بين البشر غذَّت الطبيعة الاستعمارية للحركة الصهيونية استراتيجية التفرقة بين المستوطنين والسكان الأصليين، كتلك التي كانت متّبَعة في إفريقيا الجنوبية والجزائر.
لا شك أن هذه التفرقة اتخذت أشكالاً مختلفة وفقاً للسياقات الجغرافية والتاريخية والسياسية، لكنها كانت تعني في كل مكان تمتُّع المستوطنين بحقوق أكبر. في فلسطين، رسم وعد بلفور (1917) خطاً فاصلاً بين اليهود الذين اعتبروها “وطناً قومياً” لهم، والمجتمعات الأخرى (مسلمون ومسيحيون) التي لم يكن بإمكانها المطالبة سوى بحقوقٍ مدنية ودينية. على الميدان، وبحماية بريطانية، أطلقت الحركة الصهيونية ما أسمته “احتلال الأراضي” (أي تخليصها من فلاحيها العرب) و”احتلال العمل”، الذي كان يرفض اختلاط العمال اليهود والعرب. هذا “التطور المنفصل” لـ”اليشوف”، الذي عزّزته الهجرة الجماعية لليهود الفارين من الاضطهاد النازي، كان من شأنه أن يؤدّي إلى إنشاء مؤسسات وجيش واقتصاد “منفصلين” تماماً. على عكس مشاريع الاستعمار الاستيطاني الأخرى (في الجزائر وجنوب إفريقيا)، كان هدف الصهيونية هو إنشاء دولة قومية للمستوطنين، وبالتالي التخلص من السكان الأصليين. وقد تم تحقيق هذا الهدف جزئياً بطرد ما بين 600 و700 ألف فلسطيني بين عامي 1947 و1949، وخلق مواطَنة يهودية لا تشمل السكان الأصليين. وقد خضع من تبقى منهم (حوالي 150 ألف فلسطيني) لـ”نظام عسكري” ومشروع “استيطان داخلي”؛ خاصةً مصادرة الأراضي؛ حتى عام 1966، بنيّة “تهويد الجليل”. وضع احتلال الضفة الغربية والقدس الشرقية وغزة في حزيران/يونيو 1967 السلطات الإسرائيلية أمام تحدٍّ جديد، بتغيّر ميزان القوى الديموغرافية، إذ أصبح عدد اليهود يفوق عدد الفلسطينيين على أرض فلسطين التاريخية. ولحل تلك المعضلة؛ طالما لم تتحقق شروط نكبة جديدة؛ تعيّن على الصهيونية إقرار نظام للفصل العنصري وتوسيع نطاقه من أجل تعزيز “الدولة اليهودية”. نظام عرقي يتيح ترسيخ التفوُّق اليهودي دون أي تعقيدات، ويؤسس لـ”الفصل” بينهم وبين الفلسطينيين، وهو تتويج لاستيطان بدأ منذ أكثر من قرن. هذا هو الدليل الذي يرفض معارضو قرار 4 أيار/مايو الاعتراف به. لا نملك سوى أن ننصحهم بتأمل كلمات بنتاغرويل في “الكتاب الثالث” للكاتب الفرنسي فرانسوا رابليه: “إذا كانت تغضبكم الإشارات، فكم ستغضبكم المعاني المُشار إليها”.
*نشر على موقع 180 في 4/ /5/2023
Leave a Comment