سياسة

لبنان المقيم بين الأوهام والفراغ وانتظار الحلول

زكي طه

لا شك في أن الاتفاق السعودي ـ الايراني برعاية الصين الذي جرى الاعلان عنه قبل شهرين في بكين، قد ساهم في خلط الاوراق بشأن النزاعات القائمة في المنطقة. كما دفع سائر الجهات والاطراف المعنية بها، لإعادة النظر بأدوارها وطموحاتها، بعد التدقيق في دوافع الاتفاق وأسبابه، واستكشاف استهدافاته ومفاعيله بشأن العلاقة بين البلدين، وحول أزمات المنطقة وملفاتها في امتداد الصراعات الاقليمية والدولية المحتدمة.

ولذلك تعددت القراءات للاتفاق، ولم تتوقف التحليلات بشأنه، وحول مسار تنفيذه وفق أداء غايته تطبيع العلاقات بين البلدين وإعادة بناء الثقة بين الدولتين. بدءاً من استئناف العلاقات الدبلوماسية، بعيداً عن الضجيج الاعلامي. لكن الملفت لغاية الآن أن قضايا المنطقة وأزماتها المتفجرة، التي هي موضع خلاف ونزاع مستمر، لا تزال خارج إطار البحث المشترك بينهما. رغم التهدئة ووقف الاشتباك الاعلامي، الذي بات ملزماً لسائر الاطراف والجهات التابعة أو الملحقة بكليهما.

أزمات تنتظر تسويات

وخلافاً لجميع التوقعات والتحليلات التي راجت، حول حلول وتسويات جاهزة لأزمات المنطقة ومشكلاتها. فإن الاتفاق قد شكل نقطة انطلاق لمسار مختلف من العمل والجهد المتواصل، لإعادة ترتيب أدوار الطرفين المعنيين به، بسلاسة وهدوء في مختلف ساحات المنطقة، استناداً إلى مصالحهما الاقليمية وعلاقاتهما الدولية. والأهم سعيهما من مواقعهما المختلفة إلى تحصين أو استعادة مواقع، يحرص كل منهما على حمايتها وعدم التفريط فيها، بصرف النظر عن مصير الاتفاق، أو ما ستؤول إليه أوضاع تلك البلدان.

وعليه، لم يكن غريباً أن تتعمد الاطراف المحلية التابعة أو الملحقة بالبلدين، استغلال موسم التهدئة لتحقيق مكاسب عجزت عن تحصيلها في الحرب. وأن تتشدد في عدم التفريط بما لديها من أوراق قوة داخلية، ورفض تقديم تنازلات مجانية لا مصلحة لها فيها. ما يعني أن أداء تلك القوى كان ولا يزال منسقاً مع الدولة الداعمة لها. لأنه لا مصلحة لها في اضعافها أو التخلي عنها، بانتظار موسم البحث عن تسويات جادة لأزمات المنطقة، وفق صيغة تقاسم المصالح والنفوذ فيها. وهو موسم لا مكان له راهناً في جدول أولويات الجهات الاقليمية والدولية الفاعلة فيها والمتصارعة عليها. لأن من يدفع أكلاف نزاعات المنطقة المندلعة منذ سنوات، قتلاً وتهجيراً ودماراً هم مجتمعاتها وبلدانها وشعوبها.

وإذ يصح القول أن أزمات المنطقة ومشكلاتها قد دخلت طوراً انتقالياً. لكنه طور مفتوح على شتى الاحتمالات. لأن الطرفين السعودي والايراني لا يمكنهما وحدهما التقرير بشأن أي منها، بمعزل عن سائر الاطراف الداخلية، أو القوى الخارجية المتدخلة والمشاركة فيها. والتي لا يمكن تجاهل أدوارها وأوزانها ومواقعها ومصالحها المتعددة والمتباينة والمتناقضة في آن، والتي تستند إلى استراتيجيات، يستحيل بعيداً عنها قراءة مسارات الصراع المتشابكة على صعيدي المنطقة والعالم في ميادين السياسة والاقتصاد والأمن.

هكذا هو الحال في اليمن في اعقاب التواصل السعودي مع الحوثيين. حيث ورغم نجاح عملية تبادل الاسرى، لا يزال مسار البحث “المعقّد” عن تسوية أو مخرج ما متعثراً. ولا يختلف عنه الوضع في سوريا، التي سيبقى مصيرها معلقاً. رغم نجاح رئيس النظام الايراني في توقيع كمّ لا يحصى من اتفاقات التعاون الاستراتيجي في شتى الميادين والمجالات، مع رئيس النظام السوري ثمناً لحمايتهما من السقوط. في مقابل الانفتاح العربي وخصوصاً السعودي على هذا النظام، ومطالبة رئيسه الشروع في البحث عن حل سياسي ومعالجة قضية النازحين ووقف انتاج وتهريب المخدرات، والحفاظ على وحدة سوريا وعروبتها، لتبرير قرار عودتها إلى الجامعة العربية.

يضاف إلى ذلك متابعة الجهود التي يبذلها الطرفان، حول الشأن العراقي بكل تشعباته، في ظل استعصاء الانقسام الأهلي، وتوزع العراق ولايات وأقاليم مذهبية وعرقية، وسط تعثر مسار إعادة توحيده وبناء مؤسسات واجهزة الدولة فيه. أما نضال الشعب الفلسطيني وتضحياته في سبيل حقوقه وقضيته  فإنه يبقى ميداناً سهلاً للاستثمار الاقليمي بسبب جذرية مخططات وسياسات حكومة اليمين الصهيوني المتطرف، وحِدَّة الانقسام الفلسطيني برعاية محوري ايران وتركيا، في موازاة مسار التطبيع العربي مع العدو الاسرائيلي. الأمر الذي يفاقم ارتباك مؤسسات السلطة وأجهزتها المحاصرة بعدم قدرتها على مواجهة انفلات مشاريع الاستيطان، وتصاعد العدوان  المتواصل، والعجز عن تعطيل الضغوط الاميركية بذريعة عدم الوقوع في فخ التطرف الاسرائيلي.

الدوران على الذات

وفي سياق الاتفاق ومفاعيله، يتجدد دوران ملفات الأزمة اللبنانية على ذاتها، وعبر التنقل بين الداخل والخارج. سواء بين قوى السلطة المتصارعة، التي تتقن جيداً قراءة المعطيات والربط بينها، لتحديد موقفها منها ووجهة تعاملها معها على نحو يتناسب مع أهدافها وطموحاتها الفئوية والمصالح التي تعبر عنها أو تنطق بها، وفق الشعارات التي تظلل خلافاتها ومنازاعاتها المستمرة. والاستثمار في انعدام الضغوط الفعلية المعارضة التي تجبرها على تعديل أدائها وممارساتها، والتوقف عن إدارة الظهر لمضاعفات الانهيار وتحلل مؤسسات الدولة وأجهزتها، والاستمرار في تجاهل معاناة اللبنانيين، بانتظار ما ستسفر عنه لقاءات ومشاورات عواصم الخارج.

وعليه، من الطبيعي أن تكون يوميات اللبنانيين حافلة، بكثرة التحليلات والاستنتاجات، الحاشدة بمختلف المواقف والاستهدافات السياسية الفئوية المتناقضة على رافعة الرهانات الخاطئة والمدمرة. وأن تتكاثر وتتناسل مناورات التضليل والتعمية الاعلامية لتبريرها وتسويقها في آن. ولهذا السبب تنتفي الحاجة للتذكير بمواقف قيادات أحزاب الطوائف، والسجالات وتبادل الاتهامات  بين تياراتها المتصارعة، لتغطية أدائها وممارساتها. سواء حول الاستحقاق الرئاسي، أو سائر ملفات ومشكلات البلد وقضاياه الموروثة أو المستجدة، بعدما خرجت عن السيطرة.

ولدى التدقيق في مضمون بيانات الجهات الخارجية، التي تكرر مطالبة المسؤولين بالاسراع في انتخاب رئيس للجمهورية قادر على تحقيق تطلعات الشعب اللبناني، والعمل على اقرار الاصلاحات الضرورية. نجده بمجمله، ومعه لازمة عدم التدخل في الشؤون الداخلية للبنان، يعكس مأزق تلك الجهات وفشلها في التوافق حول تسوية الحد الادنى القابلة للنفاذ بالنسبة لرئاسة الجمهورية. هكذا كان الامر ولا يزال قبل اجتماع ما سمي اللجنة الخماسية في باريس، وبعده عبر الاتصالات واللقاءات التي لم تفلح في إيجاد المخرج المناسب أو الممكن. هذا ما أكدته بيانات وزارتي الخارجية في أميركا وفرنسا، وبيان الاتحاد الاوروبي وكندا واليابان. كذلك المواقف التي أدلى بها كل من وزير خارجية ايران، والسفير السعودي في بيروت في اعقاب لقاءاتهما مع المسؤولين اللبنانيين.

خلاصة القول، وبعيداً عن تبسيطات اللبنانيين ورغباتهم، وعن ادعاءات قوى السلطة ورهاناتها، فإن معالجة الأزمة السياسية في لبنان، لا تزال امام طريق مسدود، جراء جذرية انغلاق الاطراف المحلية، وارتباطاتها بسياسات الجهات الخارجية المتباينة والمتناقضة. فرنسا المنفتحة على ايران وحزب الله، واميركا التي تحاصرهما بالعقوبات، بينما تتحصن السعودية بدروس تجاربها وخيباتها المريرة مع الجميع. ولأن لبنان كما سواه من دول المنطقة، لا يتقدم أولويات اهتمامات الدول الباحثة عن مصالحها، فإن انتظار اللبنانيين للتسوية سيطول، ومعها فراغ الرئاسة والسلطة معاً. أما القائم والمستمر إلى أمد غير منظور، فهو إدارة الفوضى الأهلية بالمزيد منها، عبر محطة جديدة من تأزم أوضاع البلد، ومن العودة إلى تبادل تقاذف المسؤوليات والاتهامات حول مشكلاته، بين قوى الداخل المتنازعة ومشاركة الجهات الخارجية الباحثة عن مصالحها، بصرف النظر عن دعاوى عدم وجود مرشحين لها.

ومع استمرار الواقع الصعب الذي يأسر حياة اللبنانيين المقهورين، وتصاعد المخاطر التي تهدد مصير كيانهم ومستقبلهم، تتجدد التحديات والخيارات الصعبة امامهم. لكن الاخطر فيها والأكثر كلفة هو التسليم بالأمر الواقع. بينما يبقى خيار تجميع القوى واستنهاضها لتجديد المواجهة، الخيار الوحيد الأكثر جدوى وجدية رغم الصعوبات التي تنتصب أمامه.

Leave a Comment