نص كلمة منظمة العمل اليساري الديمقراطي العلماني التي القاها رئيس مكتبها التنفيذي الرفيق زكي طه في المهرجان السياسي الحاشد بمناسبة الذكرى السادسة والسبعين لتأسيس حزب البعث العربي الاشتراكي، الذي أقيم في فندق الكومودور في بيروت صباح يوم الاحد الواقع فيه 9 نيسان الحالي، بدعوة من حزب طليعة لبنان العربي الاشتراكي وجبهة التحرير العربية، تحدث فيه كل من: إضافة الى الرفيق زكي طه، الأخ فتحي ابو العردات أمين سر فصائل منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان. الرفيق حنا غريب أمين العام للجنة المركزية للحزب الشيوعي اللبناني. والرفيق حسن بيان عضو القيادة القومية ورئيس حزب طليعة لبنان العربي الاشتراكي.
أيها الرفاق والأصدقاء والصديقات
في ذكرى تأسيس حزب البعث العربي الاشتراكي تحية للمؤسسين الاوائل ولمناضليه جميعاً، قيادات وكوادر وأعضاء على امتداد عالمنا العربي، في مسيرتهم النضالية الطويلة، ومحطات تاريخهم ومنعطفاته الصعبة.
تحية للذين التزموا إعلاء رايات العروبة والوحدة وقضية فلسطين، نضالاً وقتالاً وتضحيات، في شتى الميادين والساحات الوطنية والقومية. وقد دفعوا أثماناً كبرى، قوافل من الشهداء، وأعداداً لا تحصى من المنفيين والمعتقلين، لكنهم لم يكلُّوا ولم ييأسواُ.
ومع التحية يحضر واجب الوفاء وقد كنا مع من سبقنا، شركاء لهم من مواقعنا المختلفة، من أجل القضايا التي تأسس حولها عشرات الحركات والاحزاب القومية والاممية والوطنية. وكان لكل منها شعارات، ظللت أفكارها وطموحاتها وتجاربها. وعليها نهضت ثورات وحدثت انقلابات وتشكلت وحدات.
أيها الاصدقاء والرفاق
هي مرحلة بعضنا وسمها بعصر النهضة والاحلام الجميلة، وبعضنا وصفها بعصر الهزائم والاحلام المكسورة، والحقيقة هي كلاهما معهاً.
وأشد ما يقلقنا اليوم، ونحن نحتفل بذكرى التأسيس مع الرفاق في حزب طليعة لبنان العربي الاشتراكي وجبهة التحرير العربية، هو نتائج تجاربنا جميعاً على امتداد ما يقارب قرن من الزمان، وأحوال أوطاننا وشعوب عالمنا العربي، وما حل بها من تفكك ودمار، لكل ما كان قيّماً وحضارياً وإنسانياً في تاريخنا ومجتمعاتنا.
لقد آمنا بالوحدة العربية ورأيناها ملكَ أيدينا، وصدقنا أن تحرير فلسطين سهل وهو قاب قوسين أو أدنى. تقاسمنا اللوم احتجاجاً على تأخر الإنجازات الموعودة. وتبادلنا الاتهامات حول تعثر مسيرة التقدم والوحدة والاشتراكية، وهربنا جميعاً ولم نزل، إلى إحالة فشلنا على مؤامرات اميركا واسرائيل. ولم نتورع عن تبادل تهم الخيانة والتآمر معهما.
وها نحن الآن أسرى انهيارٍ متمادٍ لا نرى قعراً له. نسأل انفسنا، ماذا بقي حياً من هوياتنا القومية والوطنية والانسانية، بعدما ارتدت مجتمعاتنا طوائف ومذاهب وقبائل وأعراق متناحرة.
ما هو مصير كياناتنا الوطنية دولاً ومجتمعات، وهي الآن ساحات قتل وتشريد وتهجير وتدمير ونهب لثرواتنا. هي مسرح صراعات أهلية، وحروب تدميرية مفتوحة، تشارك فيها إيران وتركيا وروسيا، وبعض دول أوروبا وسواها وتديرها أميركا، ومعها إسرائيل على نحو معلن لا يحتمل الالتباس.
وماذا أنتجت رهانات الحكام والقادة والأحزاب والمثقفين، الذين انتظروا مجيء الحرية والديمقراطية على ظهر الدبابة الاميركية، ومن عواصم الدول الأخرى، وما يُعقد فيها من لقاءات ومؤتمرات.
قد يحلو للبعض وصف ما يجري، بأنه حرب ضد الامبريالية الاميركية أو مقاومةً ضد اسرائيل، فيما الحقيقة أن الدول المتصارعة في المنطقة وعليها، ومعها ملاحقها وردائفها الأهلية الطائفية والمذهبية في مجتمعاتنا، جُلّ طموحها أن تقبل بها اميركا في عداد وكلائها المعتمدين، إلى جانب العدو الاسرائيلي حليفها الوحيد في المنطقة، الذي استغل الصراعات الطائفية، واصبح حليفاً مميزاً لبعض الانظمة وحامياً وشريكاً لحكامها، في السياسة والاقتصاد والأمن، والباقي على لائحة الانتظار.
أيها الاصدقاء والرفاق،
من السهل تحميل الامبريالية الاميركية والصهيونية العالمية، المسؤولية عن هزائمنا، وإعفاء أنفسنا من الفشل في تحقيق أحلامنا وما ناضلنا من أجله. وهذا فيه بعض الحقيقة. لكن أكثر الحقيقة، يكمن في الأجوبة عن الاسئلة الصعبة، التي أدمنا الهروب منها. إنها في وعينا لقضايانا، وفي نظرياتنا التي آمنا بها، وفي برامجنا وممارساتنا جميعاً، وفي ما ادعيناه صواباً مطلقاً لا يأتيه الباطل من خلفه أو أمامه..
الأسئلة كثيرة ومتشعبة، وأهمها، كم كانت قراءَاتنا لواقعنا تخيلات ورغبات، وليس حقائق قائمة تسند طموحاتنا. لماذا استخفيّنا بالمذهبية والطائفية وبإنقساماتنا الأهلية. وها هي الآن تأسر حاضرنا ومستقبلنا، وتعيدناً إلى كهوف الماضي وما يحتشد فيها من أساطير وخرافات. لماذا خوّنا كل من شكك بطروحاتنا وشعاراتنا ونبذناه. لماذا قتلنا الرأي الآخر المعارض وأقصينا المخالف. لماذا ولماذا هُزمنا وأين هي انتصاراتنا. ولماذا لا نصدق أننا نتحَمل جزءاً كبيراً مما أصابنا.
أيها الأصدقاء والرفاق،
كئيب هو المشهد العربي حولنا، رغم الإرهاصات والانتفاضات التي لم نُحسن التفاعل معها، لكن ما يخفف الوطأة هو شعاع الضوء والأمل الذي يأتينا من فلسطين وشعبها، الذي لم يزل يصنع تاريخه، ويكتبه بالدم والتضحيات والنضال، وعبر قوافل الشهداء والمعتقلين والاسرى. شعبٌ يُجدد وحدته يومياً على أرض وطنه، الذي يمزقه الاحتلال والاستيطان. وحدةٌ هي أقوى من خلافات الفصائل والتنظيمات وانقساماتها. وحدةُ شعبٍ يعرف كيف يقاوم ويفاوض ولا يستسلم. شعبٌ لا يقبل الوصاية من هذا الحاكم أو ذاك النظام، عربياً كان أم أعجمياً. شعبٌ لا يعرف الاستسلام واليأس، مهما أشتدت غطرسة الاحتلال الاسرائيلي، وأطبق الصمت الدولي والضغط الاميركي، وتواطوء من طبّع معه من الانظمة العربية أو من ينتظر. شعبٌ أدهش العالم بصموده ووحدته، وهما مصدر حصانته وضمانة قضيته وحقوقه ومصيره، حتى تحقيق أهدافه وإقامة دولته الوطنية المستقلة على أرضه.
أيها الاصدقاء والرفاق
نلتقي اليوم وأمامنا ذكرى 13 نيسان 1975، وقد كان لنا عشيتها قبل نصف قرن، كمٌّ كبير من القراءَات والنظريات والبرامج والطموحات. كنا جميعاً خلالها قوى واحزاباً قومية وشيوعية واشتراكية وناصرية. لم نكن عُراة كما نحن اليوم. كانت صفوفنا حاشدة وشوارعنا مزدحمة وراياتنا عالية خفاقة. كانت المقاومة الفلسطينية حليفاً وشريكاً لنا، في تحمل الاعباء والتضحيات على الجبهات في الداخل وفي مواجهة العدوان الاسرائيلي على الجنوب وكل لبنان. كما وأن الانظمة القومية والوطنية والاممية، في العراق واليمن الجنوبي وليبيا والاتحاد السوفياتي، لم تبخل علينا بكل اشكال الدعم، سياسةً ومالاً وسلاحاً. لكن السؤال الذي يصفع أذاهاننا وعقولنا اليوم هو: أين نحن مما كان، وإلى ماذا انتهت مغامرتنا الكبرى، ولماذا فشلنا في حماية ما لم تدمره الحرب الاهلية، وما نحن عليه راهناً من انهيار وتحديات مصيرية، مع عودة مجتمعنا طوائف وجماعات متنازعة على الهوية والانتماء، بقيادة زعماء أحزاب وتيارات، ترفع رايات المقاومة والسيادة والاصلاح ومكافحة الفساد. هدفها التعمية على مشاريع الهيمنة الطائفية والفئوية وسياسات المحاصصة والنهب، وتغطية الاستقواء والارتهان للخارج، على حساب الوطن ومصير أهله.
أين أكثرية اللبنانيين في أعقاب انتفاضة تشرين المجيدة في 2019، التي ضاعت بين منصات استسهال التغيير، وهم الآن منقسمون: بين يائس ينتظر الفرج على يد الخارج وكأنه فاعل خير، لا عمل لديه سوى تحقيق رغباتنا ومعالجة أزماتنا بالنيابة عنا، وكأنه بريء منها. وبين من يكتفي برفع الشعارات وإدامة التحركات، والتشاطر في توزيع المسؤوليات على منظومة أحزاب الطوائف والمصارف. التي تعرف جيداً كيف تدير مصالحها وخلافاتها، وفق معادلة الشراكة والخصومة في آن.
أما قسطنا من المسؤولية على امتداد عقود ثلاثة منذ اتفاق الطائف، معطوفاً على سنوات الحرب الأهلية، فإن تغطيته قائمة في ممارساتنا وتهربنا من الاسئلة والحقائق الصعبة، وقد اصبح تجاهلها قاتلاً ومصدر طعن بجدارة معارضتنا، خلافاً لقوى السلطة التي تعرف جيداً ماذا تريد وماذا تفعل. ما يعني أن كلانا شئنا أم أبينا، مسؤول عن الانهيار وعن تحلل الدولة بكل مؤسساتها وأجهزتها وقطاعاتها، هي عن سابق اصرار وتصميم، ونحن بنتيجة أوهامنا وهروبنا، أو عجزنا أمام الوقائع القاهرة. وهذا ما يبقي البلد أمام مصير مجهول، مقيمٍ بين تهديدات العدو الاسرائيلي بتدميره، ومفاعيل التعطيل وخطر تجدد الاقتتال الأهلي على رافعة أوهام الهيمنة الطائفية بقوة السلاح والردود التقسيمية عليها، وانتظار ما يقرره الخارج لنا.
أيها الرفاق والاصدقاء
باستطاعتنا جميعاً أن نختار محطات من تاريخنا، أو اياماً مجيدة من تجاربنا، كانت لنا فيها صولات وبطولات. وأن نحتفل بها وكأنها كل الماضي الذي يطعن به واقعنا العربي واللبناني الصعب والمؤلم.
إن تضحيات شهدائنا ومناضلينا وأجيالنا وشعوبنا، تستحق التكريم. لكن التكريم لا يكتمل إلا عبر تجديد مسيرتهم، وإعلاء راية الأهداف النبيلة التي التزمناها معاً. أهداف التقدم والتطور والديمقراطية على طريق الوحدة وتحرير فلسطين.
أيتها الرفيقات أيها الرفاق
لأن أهدافنا لا تحققها الرغبات والأماني والشعارات، علينا مراجعة تجاربنا وبرامجنا وتحديد اخطائنا وخطايانا، بشجاعة ودون خوف، كي نضمن عدم تكرارها في ما نسعى إليه من محاولات، وكي نتفادى لعنة التاريخ والأجيال القادمة التي تنظر إلينا وكأننا ننتمي إلى عصر مضى ولن يعود.
بيروت 10 نيسان 2023
Leave a Comment