كتب جورج الهاشم
الوطنيون العرب كُثر في استراليا. ناشطون، يعقدون اجتماعات، يخطبون، يصدرون بيانات، يوقعون عرائض، يتظاهرون، والنتيجة واحد على عشرة. لماذا؟ عند كل صفعة اسرائيلية، وما أكثرها، نستيقظ للحظات، نصرخ، نهدد، نجتمع، نخطب، نتظاهر، نخطب من جديد ونتفرّق. نعود الى نوم ثقيل لا نستيقظ منه الا على دوي صفعة أخرى. لماذا لا يتوقف الوطنيون ويسألون أنفسهم: ماذا حققنا لقضايانا الوطنية والعربية في استراليا؟
منذ سنوات كثيرة، دعت احدى الجمعيات، كل الوطنيين المهتمين لتدارس كيفية الرد على عدوان اسرائيلي مجرم على لبنان، وكل اعتداءاتها مجرمة. كان في القاعة جمهور كبير، كلهم متحمسون لرد الصاع صاعين. بيانات، خطابات، دعوة للتظاهر، تعميمها على وسائل الاعلام، دعوة رجال الدين، لا أعلام في التظاهرة الا الأعلام اللبنانية، المتكلمون… رفعت يدي وقلت: وبعد ذلك ماذا نفعل؟ لا شيء. نعود الى بيوتنا. قلت وماذا نحقق؟ أنا لست ضد التظاهر إذا كان من ضمن خطة عامة. أما التظاهر والعودة الى البيت، فهذا لن أؤيده أبداً. طرحت خطوتين وقتها: الاولى آنية وهي أن إحدى الجمعيات المتحمّسة، و المشاركة في الاجتماع، كانت على بعد اسبوعين أو ثلاثة من حفلتها السنوية التي سيحضرها رئيس وزراء استراليا المؤيد الاعمى لاسرائيل. قلت أقترح على الجمعية الفلانية أن تسحب دعوتها لرئيس الوزراء على خلفية تأييده لاسرائيل. وهذه وحدها سيكون لها وقع يعادل عشرة تظاهرات. أما الخطة الطويلة الامد فهي انشاء لوبي عربي دائم، واضح السياسة والأهداف، يشتغل بالسياسة ويمارس الضغط على السياسيين الاستراليين، ويمنح الدعم بمقدار ما نأخذ منهم. وكانت تظاهرة حاشدة ثم سنة 2014 صرَّح رئيس مفوضية شؤون الجاليات، والعضو التنفيذي في مجلس الأمناء اليهود في نيو ساوث ويلز، السيد فيك الهادف داعماً اسرائيل في حربها ضد غزة. وفي موقعه كان من المفترض أن يكون محايداً، ويعمل على تقريب الجاليات من بعضها البعض. ثار العرب وتداعوا لاجتماع عُقِد في مجلس الجاليات العربية. حضرتُ مع أكثر من اربعين شخصية عربية فاعلة كلٌ في مجاله. كان هناك اتفاق على ممارسة الضغط على حكومة الولاية لإقالة الهادف من منصبه. وكان هناك اتفاق أهم بضرورة العمل المشترك من ضمن لوبي عربي منظَّم يمارس الضغط على الحكومات الاسترالية لصالح القضايا العربية. بالنسبة للهدف الاول فقد أثمر استقالة الهادف من منصبه. أما بالنسبة للهدف الثاني فقد كلَّف الحاضرون لجنة مصغَّرة من أربعة أشخاص كنت أحدهم لتقديم ورقة عمل حول اللوبي وأهدافه. وعلى امتداد عدة اجتماعات أنجزت اللجنة مهمتها، وتمّ عقد اجتماع موسع لمن كلّفها لمناقشة ورقة العمل. وبعد مداخلات واقتراحات ولجنة اخرى وتمييع انتهينا إلى لا شيء، أو إلى شيء شبيه باللاشيء.
من المثلَين أعلاه يتبيَّن بوضوح أن التظاهر ضد اسرائيل، رغم أهميته، لا ينفع ولا يغيّر شيئاً بالنسبة لسياسة استراليا من الصراع العربي الاسرائيلي. والنتيجة دائما مخيّبة ومحبطة. بينما الضغط على حكومتنا الاسترالية، ينفع ويحجز لنا موقعاً في تقرير ولعب دور تأثيري على السياسة العامة. وهذا أنفع بكثير لقضايانا من التظاهر لمجرد التظاهر. فلو أن كل جالية في مهاجرنا عملت للتأثير على حكومتها، وتستطيع بعمل منظَّم أن تفعل، لتغيَّرت مواقف كثيرة.
والبارحة، خلال انتفاضة القدس والحرب على غزّة، وحتى الآن، وبسبب الممارسات الاجرامية لجيش الاحتلال الصهيوني الموثقة صوتاً وصورة بفضل وسائل التواصل الاجتماعي، كسب الحق العربي الكثير من المؤيدين في المجتمع الاسترالي. تظاهرات الاستراليين والناشطين العرب الحاشدة عمًت وتعمّ معظم المدن الاسترالية. بعض فروع الأحزاب الاسترالية وبعض البلديات اتخذوا مواقف صريحة بإدانة الممارسات الاسرائيلية. أصوات استرالية فاعلة أعلنت ادانتها لاسرائيل. العرائض وقّعها الألوف من المواطنين وأُرسلت إلى جامعات استرالية لتحثّها على فكِّ تعاملها مع جامعات اسرائيلية. ومثلها تمَّ ارسالها الى السياسيين الاستراليين، يطالبونهم بادانة الاحتلال وممارساته. شرائح وازنة من الاعلام أنصفت أكثر الجانب العربي. وحملات دعم كثيرة نُظِّمت وتُنظّم لدعم أهالي فلسطين. أي أن الجو العام الاسترالي أظهر من الدعم والتأييد الكثير، وأثبت انه توّاق للوقوف الى جانب عدالة القضية الفلسطينية. ولكن وللأسف، هذه الهبّة ستخبو قريباً، كما العادة، ونعود لننتظر اعتداءً اسرائيلياً مجرماً آخر.
باختصار، كسبت القضية الفلسطينية جولة رغم أن معظم أعمالنا هي ردود أفعال ارتجالية. الطريقة الوحيدة، في بلد يُدار بلغة الارقام، أن نفهم أصول العمل السياسي لنتمكّن من التأثير على القرار. الاحزاب الرئيسية الاسترالية تتنافس دائماً على خدمة اسرائيل وتأييد سياساتها. ورؤساء الوزراء المتعاقبون بغالبيتهم يتفاخرون بصداقاتهم لاسرائيل. وفي الوقت نفسه يتنافسون على تشتيت الصوت العربي، وتقديم الفتات له. الصوت االيهودي الموحّد يؤثِّر انتخابياً في مقاعد قليلة جداً، ويؤثّر في مواقف حكوماتنا الاسترالية المتعاقبة بشكل فاعل لأنه موحّد، اضافة إلى تأثيرهم المالي والاعلامي. بينما الصوت العربي، لو توحَّد، بامكانه أن يُسقط حكومة ويرفع اخرى. فأيهما أنفع لقضايانا الوطنية: التظاهر، والبيانات، والخطابات ثم النوم العميق؟ أو العمل المنظَّم، ومن ضمنه التظاهر، الذي يجبر الحكومات الاسترالية على الوقوف مع قضايانا، ويدفعها الى أن تكون صوتنا في المحافل الدولية؟ العمل المنظّم وحده هو الذي يجعل لصوتنا صدى، وهو الذي يمكّننا، أو لا يمكّننا، من التأثير. فهل نتعلم الدرس ونستفيد من تجاربنا وتجارب الآخرين ومن تنامي الدعم الاسترالي لقضايانا العادلة؟
الوطنيون العرب في استراليا يبذلون جهوداً جبّارة ولكنها متفرقة وموسمية. تؤثّر في بعض المرّات ولكن بشكل محدود جداً. فمتى نتعلم من الديموقراطيات الغربية المثابرة بالعمل وكيفية تنظيم أنفسنا؟ وكيف نصبح مقررين فعليين في سياسات البلد العامة ومنها السياسة الخارجية؟
Leave a Comment