سياسة

تيار العهد يعالج الانهيار الشامل بحرب وجود انتحارية

 كتب زكـي طـه*    

“إن جوهر الأزمة الحكومية في لبنان ينبع من تناحر الزعماء اللبنانيين على السلطة، وبلدهم أمام انهيار مالي شامل يشبه سفينة تغرق بلا قبطان”. هكذا اختصر مسؤول السياسة في الاتحاد الأوروبي الوضع اللبناني، متجاهلاً عوامل الخارج المقررة. ومع تناحر الزعماء على السلطة وإسقاط جميع المبادارات الإنقاذية واقتراحات الحلول، دخلت الأزمة طور الإستعصاء، وأصبح لبنان في مواجهة تحديات مصيرية، هي الأخطر في تاريخه منذ التأسيس، بالنظر لإنسداد الأفق أمام الحد الأدنى من التسويات.

يستمر ذلك بالتزامن مع انهيار الدولة ومؤسسات الحكم والإدارة العامة وجميع قطاعات الخدمات الضرورية في البلاد، في مقابل سيادة الفوضى الأهلية الشاملة مختلف شؤون الحياة. وما يزيد من مخاوف اللبنانيين وينذر بأشد الأخطار، ما صارت عليه أحوال المؤسسة العسكرية والاجهزة الأمنية المحاصرة بتخلي أهل الحكم عنها، وعدم توفير الحد الأدنى من الإمكانات لها، ما انعكس سلباً على جملة المنتسبين لها وسائر اوضاعها وأضعف قدرتها على تأدية أبسط واجباتها.  

 لم يعد خافياً أن القوى السياسية الحاكمة تتبارى في التحضير لما هو قادم من نزاعات بينها، وفق قواعد اللعبة التي يتقنها الجميع. كل طرف يعد العدة لخوض معاركه إثباتاً لوجوده وفي سبيل حماية وضعه ومواقعه وساحاته من العواصف القادمة والمحتملة، وليس من أجل معالجة ما هو راهن من أزمات ساهم في انتاجها. الأهم بالنسبة لكل منهم تكريس وجوده بانتظار التسويات القادمة والحلول المؤجلة لأزمات المنطقة. ولذلك، وفي موازاة الاستعصاء القائم والمستمر ينصرف زعيم كل تيار أو حزب لترتيب شؤون تنظيمه وتحشيد صفوف جماعته تحصيناً لمواقعه واستعداداً لشن الهجمات ضد خصومه أو لصدها في آن. 

 وفي هذا السياق يتقدم العهد وتياره الجميع في الافصاح عن معاركه “الوجودية”، مع سائر أطراف السلطة، مكرراً ما كان دأبه من مواقف متصلبة، علّه يستعيد شرعيته المتهالكة. يقع ذلك في إطار السعي لتنفيذ المشروع الأصلي للعماد ميشال عون، المتمثل بتصفية الحساب مع اتفاق الطائف تحت راية استعادة صلاحيات الرئيس المسيحي لتعزيز موقعه، إلى جانب حماية مواقع الطائفة “المحررة” على يد التيار الذي يحارب لاختزال تمثيلها باعتباره الأقوى. وهذا ما يعطيه ليس حق الطلب والنقض والرفض وحسب، بل العمل لتكريس أعراف تتجاوز الدستور، وتعلو عليه بقوة الأمر الواقع في حال رفض الآخرون تعديله.

   لم يكن رئيس التيار في خطابه الأخير، قليل الوضوح في ما أعلنه باسم العهد، وهو ما يفسر سلوكهما التعطيلي قبل الرئاسة ومعها. فالرئيس يطالب بصلاحيات شبه مطلقة، تتعلق بآلية الاستشارات النيابية لاختيار الرئيس المكلف، في سبيل التحكم  بالتكليف وتشكيل الحكومة وعملها في آن، بما يجعله رأس السلطة التنفيذية كما كان الأمر قبل الطائف. هذا بالإضافة إلى الحلول مكان المجلس النيابي والمجلس الدستوري في تفسير الدستور والقوانين، ورفض كل ما لا يتناسب مع نفوذ التيار ومصالحه داخل مؤسسات الدولة.

وفي مسار السعي لتحقيق تلك الأهداف، فإن سلاح العهد وتياره كان ولا يزال يعتمد منطق التعطيل باسم الميثاقية وحقوق المسيحيين. أما مصادر قوة العهد والتيار المُدعاة فهي مستمدة من الاستثمار في موازين القوى الداخلية المختلة، والاستقواء بتحالفه مع القوى المتحكمة بالواقع وفق قواعد الغلبة والفرض التي يمثلها حزب الله  باسم المقاومة وادعاءات حمايته للبلد.  وخلافاً لكل ادعاء يعرف القاصي والداني أن العهد أكتسب عن جدارة بقوة مشروعه وممارساته، صفة أكثر العهود انتاجاً للأزمات وأخطرها، وهي التي تحاصر الكيان وأهله وتدفع بهما نحو المجهول. أما العزلة الداخلية الخانقة والضغوط المحلية والخارجية التي لم يسبق أن تعرض لها رئيس قبله، فإن انعكاساتها على التياره تقوده إلى المزيد من الخلافات والانقسامات وتشتت بنيته وخسارة أكثرية شعبيته، والخوف من تداعيات سقوط مشروعه المؤكد. وبما أن العهد يرى أن هزيمته في معركة تشكيل الحكومة قد تؤدي إلى انهيار تياره وتفككه، فإن نهج التصلب والرفض لكل الصيغ الممكنة والتصعيد إلى الحد الأقصى لا تعدو سوى محاولات لتعويمه خلال ما تبقى من ولايته، أو انتزاع بعض المكاسب التي تعوض فشله المريع.  

    ولذلك لم يكن استنجاد رئيس التيار بأمين عام حزب الله، سوى تأكيد على حاجة العهد لدعم  ونصرة الحزب له. اعتقاداً منه أن ما كان من حاجات متبادلة في السابق لا يزال قائماً. خصوصاً وأن الطرفين يفتقدان إلى حلفاء فعليين يمكن الركون إليهم.. ولأن العهد والتيار يخوضان معركة وجودية تبدو وكأنها الأخيرة لتحقيق مشروعهما وتثبيت دور التيار وموقعه في السلطة، فإن رئيس التيار وباسم العهد لم يتردد في محاولة إحراج أمين عام الحزب، عبر وضع حقوق المسيحيين في عهدته وإئتمانه عليها. ولذلك كان الإفصاح عمّا يدور في الغرف المغلقة من شكوى واحتجاج أو طلبات لم يُستجب لها، وإشهارها في العلن تحت عنوان “نقبل ما يقبله الحزب لنفسه”.  

  لقد تاه عن رئيس تيار العهد، أنه وفي ضوء تطورات الصراع الاقليمي والدولي في المنطقة وعليها، وعلاقة حزب الله  ودوره في استراتيجية محور الممانعة بقيادة النظام الايراني، فإن حاجة حزب الله للعلاقة مع التيار لم تعد كما في السابق. خصوصاً بعدما اصبح الحزب الطرف الأقوى والأكثر تحكما بقواعد اللعبة الداخلية في الصراع على السلطة. ولذلك بدا طلب استعانة رئيس التيار باسم العهد و”المسيحيين”، إلى أمين عام الحزب، أقرب إلى الإحتجاج على أداء الاخير حيال أزمة تشكيل الحكومة. لأن الحزب لم يتبنَ خطاب العهد والتيار وطريقة تعاملهما، ولم ينجدهما في مواجهة الآخرين المختلفين عنه ومعه في كل شيء. إذ إن الحزب اتخذ ولم يزل وضعية المواكب للمعارك الدائرة بين سائر شركائه في السلطة، وخسائرهم جميعاً هي ارباح لديه، وقد أضاف لها استغاثة رئيس التيار القابلة للتوظيف لمصلحته في اكثر من اتجاه. وهذا ما يساهم في تمكين الحزب من استغلال مضاعفاتها وتجلياتها في خدمة مشروعه وسياساته، ومتابعة تنظيم أوضاع بيئته الحاضنة وترتيب شؤونها، بانتظار الآتي صراعاً أو اتفاقاً  في إطار التوافقات الاقليمية الدولية القادمة حول المنطقة ولبنان ضمنها.  

وبانتظار عودة الاهتمام بالملف اللبناني المركون جانباً بعد نفض اليد من منظومة السلطه، فإن العقوبات التي لوَّح بها الموفد الأوروبي ستضاف إلى ما سبقها. وهي التي أضافت إلى الأوضاع المأزومة أصلاً الكثير من الصعوبات والتعقيدات، لأن من استهدفتهم أحسنوا استغلال نتائجها ومضاعفاتها، فتحولت عبئاً على اللبنانيين وجعلتهم ضحايا سياسات منظومة السلطة والعقوبات عليها في آن. لأن من اصابتهم استخدموها مادة تضليل وتبرير لتبادل تهم الخيانة والاستقواء بالخارج، ولتزخيم صراعاتهم المفتوحة، ليس على السلطة وحسب، إنما حول موقع البلد ودوره في سياق أزمات المنطقة وحروبها الأهلية المدارة اقليمياً ودولياً في سبيل تقاسم السيطرة والنفوذ عليها.  

  وفي ظل العجز عن تشكيل حكومة، ومع تصاعد مضاعفات الانهيار العام الذي يطال شتى شؤون حياة اللبنانيين واسرهم، ومع اتساع حالة الفلتان والفوضى الأهلية على المستويات كافة، فإن ما يقلق اللبنانيين، إلى جانب خطر امتداد نيران أزمات المحيط إلى الداخل بعدما فقد الجميع حصاناته، هو تبادل دق طبول معارك “الوجود” الانتحارية بين زعامات احزاب الطوائف وخطر اندلاع حروب “التحرير” و”الإلغاء” العبثية والمدمرة مرة اخرى، والتي لم تنجُ منها طائفة أو منطقة خلال سنوات الحرب الأهلية.

*أمين سر المكتب التنفيذي لمنظمة العمل الشيوعي في لبنان

Leave a Comment