سياسة مجتمع

أوروبا الحداثة تتراجع أمام الشعبوية والتطرف

هل يجب التذكير بالدور الروسي المفترض في وصول ترمب إلى الرئاسة؟ أتبدو تلك الأشياء كلها عبثاً، أم أنها أقرب إلى إعادة صياغة النظام الدولي برمته،

هل انتهى مشروع العقلانية والتنوير؟ هل انفلت التطرف المعاصر غرباً وشرقاً ليضع نهاية وهم بأن الحداثة ومشروعها الضخم، هي “نهاية التاريخ”، وفق توقعات سادت في عقول النخب غرباً وشرقاً، من هيغل إلى فرانسيس فوكوياما؟

الأرجح أنه يصعب الإفلات من تلك الأسئلة المرّة التي لا تخلو من بعض الحدّة، مع مطالعة نتائج الانتخابات الأوروبيّة. قبل كل شيء، لنفكر باللحظة التي سبقت الحدث المدوي في القارة العجوزة. قبل انتخابات البرلمان الأوروبي، جرت انتخابات الهند، أضخم ديمقراطية في العالم والأكثر قرباً إلى الاقتباس اللصيق بالغرب، وتجددت الشعبية الكاسحة لحزب “بهاراتيا جاناتا” تحت قيادة رئيس الوزراء نارندرا مودي. ويشتهر حزب جاناتا بابتعاده عن الطابع العلماني الحداثي الذي يمثّله “حزب المؤتمر” الذي قاد استقلال الهند وأعطاها سلسلة زعماء تاريخيّين يمتدون من المهاتما غاندي إلى نهرو وأنديرا غاندي وغيرهم، مع شوائب وثغرات عميقة في ذلك المسار. ولا يُخفي حزب “جاناتا” تبنيه خطاباً شعبويّاً يخاطب العصبية الهندوسيّة ويُعادي الإسلاموية  في أشكالها كلها، بل يصل إلى معاداة دينية معلنة للإسلام.

قبل انتخابات البرلمان الأوروبي، جرت انتخابات أستراليا التي حملت مفاجأة مهولة بفوز ضخم لـ”الائتلاف الوطني القومي” الحاكم بعد أن راج في صفوف الليبراليين والديمقراطيين واليسار أنهم بصدد انتخابات لا يمكن أن يخسروها! ويمزج ذلك الائتلاف خطاب البروتستانتية الإنجيلية المتجددة، مع نزعة عرقية بيضاء، ربما كان المانفستو الذي نشره منفذ الهجوم على مسجدي “كرايست تشيرش” في نيوزيلندا، نسخة مشتقة منه لكن بتطرف صريح، مع تذكر أن أحد وزراء الائتلاف انبرى لدفاع مضمر عن تلك المقتلة العنصرية.

كلمة السر هي تفكيك أوروبا

قبل الانتخابات الأوروبية، استطاع مستشار الرئيس دونالد ترمب أن ينظم علانية تحالفاً لأحزاب اليمين الشعبوي في أوروبا، استناداً إلى مؤسسة “الحركة” التي أسسها في بروكسل بعد إقالته من البيت الأبيض. ووجد بانون في إيطاليا التي استسلمت في 2018 للشعبوية بعد أن تسلم السلطة فيها تحالف من “حركة 5 نجوم” وحزب “رابطة الشمال” (يترأسه وزير الخارجية سالفيو مالديني الذي يضمن كلامه اقتباسات معلنة من خطب بينيتو موسوليني، قائد الفاشيّة في الحرب العالمية الثانية).

قبل الانتخابات الأوروبية، كان الهدف المعلن لتحالف أحزاب اليمين القومي والديني في أوروبا هو الفوز بثلث مقاعد البرلمان الأوروبي كي يستطيعوا تعطيل عمل ذلك البرلمان ومجمل مؤسسات الاتحاد. ولقد حققوا ما سعوا إليه، بل أكثر. لا يمكن التشديد أكثر على النقطة المحورية في ذلك التحالف الشعبوي: منع ظهور قوّة أوروبية منسجمة تكون قطباً عالمياً آخر في النظام الدولي. بوضوح، يرفع تحالف اليمين الشعبوي شعار “أوروبا الأمم” بديلاً من “الاتحاد الأوروبي”. ويكشف ذلك “سراً” معروفاً: اللعبة الاستراتيجية الفعلية في أوروبا هو الحفاظ على أوروبا مفككة وعدم انسجامها لتكون قوّة متآلفة. عند تلك النقطة، ربما يمكن التفكير في التقاطع بين ترمب وفلاديمير بوتين الذي وصفته صحيفة “لوموند” الفرنسيّة أخيراً بأنه “عراب أحزاب اليمين الشعبوي في أوروبا”. هل يجب التذكير بالدور الروسي المفترض في وصول ترمب إلى الرئاسة؟ أتبدو تلك الأشياء كلها عبثاً، أم أنها أقرب إلى إعادة صياغة النظام الدولي برمته، على أسس بعيدة تماماً عما تراكم من بداية مشروع العقلانية والتنوير ووصولاً إلى النظام العالمي لما بعد الحرب العالمية الثانية وسقوط الكتلة الشيوعية والعولمة الأميركية الآحادية وما بعدها؟ كيف “يصدف” أن يعادي العولمة الحديثة رئيس البلد الذي صنعها وروّجها، بل فرضها، عالمياً؟

الأمل: البيئة والشباب

لا بأس من جرعة أمل بسيطة، وكذلك تقديم نقد للكلمات السابقة أيضاً. ربما يصعب المماراة في تخلخل المؤسسات السياسيّة في أوروبا، بل أن فرنسا (الرمز الأكثف للحداثة والتنوير والعقلانية) تتأرجح بين شعبوية مارين لوبان (وحركة “السترات الصفر”) وحزب الرئيس إيمانويل ماكرون “إلى الأمام” الذي جاء أيضاً في موجة رفض للمؤسسات السياسيّة في بلاده. هل يعني ذلك نهاية العلمانية والتنوير التي لا يكف ماكرون عن رفعها في وجه الشعبوية؟ ربما مبكراً الإجابة بنعم.

فاز حزب “بريكست” بقيادة نايجل فاراج بـ31% من الأصوات، فهل يعني ذلك أن الخروج التفكيكي لبريطانيا من الاتحاد الأوروبي، بات أمراً محتماً؟ لا توحي استقالة تيريزا ماي ولا فوز أنصار البقاء في الاتحاد في الانتخابات المحلية التي سبقت الأوروبية، بأن الإجابة هي نعم.

تضعضع التحالف الذي تقوده المستشارة انجيلا ميركل، لكنه صمد في وجه “حزب البديل” بشكل واضح. حتى في السويد صعد فيها حزب “ديمقراطيو السويد” الشعبوي في 2018، تقدم فيها “الحزب الديمقراطي الاشتراكي” و”حزب الاعتدال” (من اليمين الليبرالي المحافظ)، على حساب اليمين الشعبوي والأحزاب التقليدية سوية.

ربما لاشيء أدل على أن القول الفصل لم ينطق في مصير المشروع العلمانية والتنوير، أكثر من التقدم المذهل الذي أحرزته أحزاب الدفاع عن البيئة في أوروبا كلها، بل صارت رابع قوة في الاتحاد الأوروبي. وتقف تلك الأحزاب على طرف نقيض مع الشعبوية، ولنتذكر أيضاً موقف ترمب المعادي للبيئة أيضاً. يلفت ارتفاع نسبة الشباب بين مؤيّدي أحزاب الخضر، وهو أمر يشبه ما يحدث في أميركا ودولاً غربية كثيرة، بما فيها أستراليا.

لنتذكر أن هيغل أعطى مصطلح “نهاية التاريخ” معناه الثقافي الحاضر. وأورد في “فينومينولوجيا الروح” أن الوعي الإنساني يتطوّر كظاهرة تاريخيّة، وينتقل عبر محطات في الحضارة الإنسانيّة. واعتبر عصر النهضة بداية انتقال الوعي الإنساني من الشرق إلى الغرب. ووصف الاصلاح البروتستانتي بأنه “شمس عصر الأنوار” الذي اكتفى من الدين بالتدين الفردي، مع إعطاء العقل حرية تدبير حياة الإنسان ودينه سويّة. وسار كارل بوبر في مسار اعتبار حداثة الغرب “نهاية التاريخ”، وأنها المحطة الأخيرة للوعي الإنساني.

للحظة ما، بدا الأمر كذلك. ومثّلت هزيمة الشيوعية، بعد اندحار النازية والفاشية، لحظة لفرانسيس فوكوياما، للقول بأن الغرب “نهاية التاريخ”.

قبل الانتخابات الأوروبية، أقر فوكوياما بأن “نهاية التاريخ” لم تأت بعد، مشيراً إلى صعود الشعبوية وكذلك “رديفها” الإسلاموي المعاصر.

[author title=”أحمد مغربي” image=”http://”]كاتب لبناني[/author]