مجتمع

كورونا وملاريا ولقاح السل و… هيئة انقاذ وطني!

إذ لا يفيد في الوقاية، ولا يحصل من يستخدمه إلا على التأثيرات الجانبية للدواء، وبعضها شديد السميّة ويُحدِثْ اضطراباً في القلب ويؤثر في وظائف الكليتين. بانتظار نتائج تجارب واسعة عن دواء الملاريا، يجب ألا يعطى إلا للحالات المصابة بكورونا، وتكون قيد العلاج تحت إشراف طبي.

لعل الإجراء المُلِحْ الذي يحتاجه لبنان في مواجهة كورونا يتمثل في تشكيل هيئة إنقاذ وطني! ليس إجراءً طبياً لكن الاضطراب الواسع (يحتاج نقاشات عميمة وعميقة) الذي يرافق كورونا، يوحي بأن إدارة أزمة الوباء من دون بُعدْ سياسي أمر مشكوك في نجاحه. نعم. بشكل طارئ يجدر التفكير في تشكيل هيئة إنقاذ وطني تكون نوعاً من “الجسر السريع” بين سلطات الدولة الثلاثة، وتضم القوى الأساسية السياسية في البلاد.

سيحاول المقال التركيز على جوانب علمية في جائحة كورونا، لكن من الصعب التفكير في نجاح التصدي للفيروس (رغم النتائج الجيدة محلياً حتى الآن) من دون طرق باب السياسة.

لنعد إلى العلم. ولعل البداية الأهم تكون في معاودة التذكير بأن المعرفة العلمية سيّالة ومتغيّرة ومتبدلة وقابلة للنقد والنقض، بل أن كارل بوبر (فيلسوف ألماني اشتغل على العلوم الحديثة) شدّد على أن “ما ليس قابلاً للنقض ليس علماً”، بل يكون إيديولوجيا أو دين. ليس تناقضاً في التفكير العلمي أن يظهر بين زمن كتابة المقال ووصوله إلى القارئ مثلاً، معلومات علمية تتعارض مع كلماته. لو لم يكن العلم متغيّراً وسيّالاً ويتوجب مقاربته بعقل نقدي، لما تطوّر العلم بل لتحجّر وتجمّد على غرار ما حصل له طويلاً عندما هيمنت أفكار أرسطو ومدرسته على العلوم.

عنصرية في “سوشيال ميديا”

في سياق نقدي، يجدر لفت النظر إلى العنصرية المؤسفة التي تتسربل بأردية “الأخبار الكاذبة” الرائجة عبر السوشيال ميديا. ليس كورونا مرضاً صينياً، ومن المأساوي أن يصدق البعض أنه جاء نتيجة علاقة جنسية لصيني مع خفاش! ثمة قناة تلفزيونية محلية تنقل عن قناة أجنبية أنه جاء من أفعى أكلت ثعباناً، ثم نقلته إلى الإنسان. ما تنشره المواقع العلمية المرجعية (سيسمّيه المقال “الرأي العلمي”)، أن الطريقة التي تحوّر فيها فيروس انفلونزا من عائلة كورونا ليصبح له الصفات التي يملكها “كورونا المستجد” (يسمّى أيضاً “سارس كوفيد 19”)، غير واضحة حتى الآن.

في بداية المرض، أشارت أوساط طبية صينية إلى أنه انتقل عبر أحد القوارض (“آكل النمل الحرشفي”) الذي يستهلكه بعض الصينيين (وغيرهم) كمقوٍ جنسي. ولم تستمر الصين في تبني ذلك التفسير. واستطراداً، لا زالت أوساط علمية أميركية تشير إلى أن الصين لم تفصح عن معلومات وبائية كافية عن كورونا، بما في ذلك الخزان الحيواني للفيروس.

ببداهة، يصل النقاش عن أصل الفيروس إلى إمكان أن يكون مصنّعاً في مختبر دولة متقدمة، ثم خرج منها إما عمداً (كضربة بسلاح بيولوجي أو ربما عبر تصرف فردي متطرف) أو انفلت عن طريق الخطأ.

بعيداً من نظريات المؤامرة، هناك علم صعد منذ بداية الألفية الثالثة إسمه “البيولوجيا التركيبية” Synthetic Biology، وقد حفزته القفزة العلمية التي حدثت في علوم الجينات. باختصار قاسٍ، يعمل خبراء “التركيبية” على صنع فيروسات من أنواع جديدة ويعطونها مواصفات وفق ما يرتأونه (نعم، العلم يعمل على هذا المستوى)، كي يدرسوها، ويتجهزوا لمواجهتها. ولأنه من الواضح إمكانية استخدام الفيروسات (والميكروبات) سلاحاً بيولوجيا، برزت مسألة “بحوث الاستعمال المزدوج” Dual Use Research، التي تعقد لها مؤتمرات مستمرة، وذلك من بين الأسباب التي تجعل الدول المتقدمة على إطلاع على ما يعمل عليه بعضها بعضاً.

هل صُنِع “كوفيد 19” بواسطة “البيولوجيا التركيبية”؟ الاحتمال وارد. هناك سابقة تتمثّل في أن مختبراً أميركياً صنع فيروس يملك مواصفات “سارس” كلها في الفترة التي شهدت انتشاره! ومع ذلك، لم يوجه أحد (ولا الصين) اتهاماً إلى أميركا بأنها نشرت “سارس”، بل ما زال الرأي العلمي حتى الآن أن “سارس” تحوّر في الحيوانات ثم انتقل الى الإنسان. وقد حصل ذلك في مجموعة من فيروسات تنتمي إلى عائلة “كورونا” (التي تشمل الأنفلونزا الموسمية وأشباهها) كـ”حمى الإبل” و”أنفلونزا الطيور” و”أنفلونزا الخنازير” وغيرها.

واستطراداً، يكفي تذكّر أن أقوى ضربات الأنفلونزا في التاريخ حدثت عند ختام الحرب العالمية الأولى، وعُرِفَتْ بـ”الجائحة الإسبانية”، ولم يكن للصين علاقة بها، بل تركزت في الغرب ودوله، وألحقت بالولايات المتحدة خصوصاً أضراراً مأساوية، وأصابات ووفيات مليونية.

وبخصوص دواء الملاريا، لقد كرّر البروفسور الفرنسي ديدييه راوول تجربته مرتين، وأعلن نتائج الثانية في 27 آذار الجاري، وشملت أكثر من ثمانين شخصاً [والأولى عشرين]، وقد حقق نجاحات مهمة في علاج كورونا بدواء الملاريا الذي يستخدم مع مُضاد حيوي من نوع معين. في لبنان، يستخدم العلاج نفسه، وثمة معلومات إيجابية عنه. ويتمثّل الرأي العلمي الآن في التحذير خصوصاً من أخذ دواء الملاريا للوقاية. إذ لا يفيد في الوقاية، ولا يحصل من يستخدمه إلا على التأثيرات الجانبية للدواء، وبعضها شديد السميّة ويُحدِثْ اضطراباً في القلب ويؤثر في وظائف الكليتين. بانتظار نتائج تجارب واسعة عن دواء الملاريا، يجب ألا يعطى إلا للحالات المصابة بكورونا، وتكون قيد العلاج تحت إشراف طبي.

هناك تجارب مقدامة عن استعمال لقاح السل (“بي سي جي” BCG) في مواجهة كورونا، عبر إعطائه للطواقم الطبية. ثمة تجارب جارية في هولندا وألمانيا وأستراليا والهند وبريطانيا. إذا ثبتت فعاليته، سيكون انفراجة كبرى لأن “بي سي جي” معروف ويُعطى للبشر منذ عقود، وتأثيراته معلومة. ومنذ سنوات، أُخرِجَ “بي سي جي” من برنامج اللقاح الوطني اللبناني، لأسباب عدة. لم لا يُجرّب لبنان الآن الانخراط في التجارب العلمية عن طريق “بي سي جي”؟

حدث سوء فهم واسع لمفهوم “مناعة القطيع” Herd Immunity، إذ يُستخدم في سياق الرأي العلمي للإشارة إلى تَكَوّن مناعة ضد مرض ما لدى أعداد كبيرة من السكان، فتنكسر حلقة انتشاره وتنقله بينهم. لا يعني ذلك السماح للمرض بالانتشار، بل إنه مفهوم علمي يستعمل في وصف طريقة تعايش البشر مع جراثيم وبائية مختلفة، وكذلك يعتبر أحد الأسس العلمية لبرامج اللقاحات الواسعة على غرار الحصبة والنكاف والحصبة الألمانية وشلل الأطفال (الأخير فيه بُعْدٌ آخر هو التنافس على البقاء بين فيرس اللقاح و”نظيره” المُسبب للمرض) وسواها.

[author title=”احمد مغربي” image=”http://”]كاتب لبناني[/author]