مجتمع

وسائل التواصل الاجتماعي وإشكالية ومخاطر “سيف ذي حدين”

عائدة خداج ابي فراج

في خضم هذه الطفرة الإلكترونية ألتي تجتاح العالم، والتي حولت النعمة ألمعرفية الى نقمة في كثير من الأحيان، والمرتبطة بأنماط روبوتية تحركها وتتحكم بها. من هنا لا بد من تسليط الضوء على الادمان الألكتروني والرقمي، ومعالجة هذه الظاهرة التي ينخر سوسها جميع الفئات العمريّة دون استثناء، والتي تحولت الى آفة تنتشر كالنار في الهشيم على امتداد رقعة هذا العالم المصاب في أكثر من مفصل.

ولا يخفى على أحد ما لوسائل التواصل الاجتماعي من إيجابيات، إلا أنها كالعولمة التي ولدت من رحمها موضوع مثير للجدل. فهي سيف ذو حدّين يحيي ويميت في آن، حسب وجهة استعماله. وليس بوسع أحد أن ينكر أن هذه الوسائل هي نافذة نطل من خلالها على العالم المتحضر والمتقدم علميّاً و”تكنولوجيّا”. ولكن يبقى السؤال هل هذا العالم المتحضر الذي تجتاحه الفردانيّة، ويسوده التفكك الأسري وألإجتماعي هو محض إيجابيات، وأربعة من أًصل عشرة من سكانه يرتادون العيادات النفسيّة حسب ألإحصاءات الأمريكيّة الأخيرة ؟ ألا نخشى أن  تهب رياحه فتقتلعنا من جذورنا الوطنيّة والقومية، فنحلق بأجنحة شمعيّة مستعارة تذوب عند ملامستها أشعة الشمس، فنسقط من شاهق مستلبي الهويّة، غرباء عن محيطنا وناسنا؟

ومما لا شك فيه أيضاً أن هذه الوسائل هي مصدر معرفة ومعلومات تصلنا بآخرالإكتشافات العلميّة التي نحصل عليها في اللحظة وبكبسة زرّ عجيب. وهي تعزز المستويات العلميّة والثقافيّة عن طريق النقاش وتبادل الآراء مع الآخر، فتنمي عند الناشئة القدرة والجرأة على إبداء الرأي دون الأخذ  بعين الإعتبار الضغوطات الإجتماعيّة التي تقف في معظم الأحيان حائلاً دون ذلك. وهي أيضاً تنمي علاقات الصداقة بين من باعدت بينهم المسافات، وتسهل عمليّة تبادل المعلومات مع رفاق الدراسة، وتعزز بينهم آفاق التعاطف الإفتراضي. وكذلك تنمي قدراتهم على كيفيّة التعاطي مع التكنولوجيا المتطورة. ولكننا في الوقت عينه نتساءل بريبة وحذر هل فعلاً تستعمل هذه الوسائل في وجهتهاالصحيحة؟ وهل المدمنون على استعمالها يتوخون فقط العلم والمعرفة، أم أنها تحولت بين أياديهم إلى وسائل تسلية ومضيعة للوقت، تكشف المستور من خصوصياتهم الفرديّة، فتعرضهم للإبتزاز على أيدي أصدقاء إفتراضيين يشكلون أحياناً خطراً عليهم وعلى أسرهم ؟

وسؤال آخر يتبادر إلى أذهاننا وهو: هل هذه المعلومات التي تنقلها هذه الوسائل بمجملها دقيقة، وصحيحة، وموثقة، وخاضعة للمراقبة والمحاسبة؟ ألا يعتمد قسم كبير منها على السرقة الفكريّة دون الإشارة إلى المصدر أو المرجع؟ ألا تتوخى بعض الوسائل الإعلاميّة أسبقيّة نقل الخبر دون أن تتحرى مصادره أو صدقيّته؟ فأين الرقابة في كل هذا؟ أو ليس المتلقي هو الضحيّة في أكثر الأحيان؟

ومما لا شك  فيه أيضاً أن هذه الوسائل قد قرّبت المسافات بين شعوب الأرض على تنوع حضاراتها وثقافاتها ومشاربها الفكريّة والعقائديّة، حتى بالغ البعض ووصف العالم برمته بقرية كونيّة لا حدود لها أو فواصل جغرافيّة. ولكن هل يعني ذلك أن نصبح أتباعاً لثقافات وحضارات الآخرين متنكرين لتراثنا وثقافتنا وحضارتنا العريقة ؟ ألم يكن ألمهاتما غاندي مدركاً لخطورة التبعّية لثقافات أخرى حين قال: “أشرّع نوافذي على حضارات العالم قاطبة، شرط ألاّ تقتلعني من جذوري”.

لقد اخترع الإنسان الآلة لتكون في خدمته وخدمة مسار تقدمه، ولكن أن يتحول الإنسان عبداً لها، يدور في فلكها، تسوده وتتحكم بحياته الخاصة والعامة بسبب تماديه وإفراطه في استعمالها دون حسيب أو رقيب، فهذا ما يرفضه كل عاقل فطن. لقد تمادى الإنسان العصري في التعاطي مع آلات صمّاء، بكماء، مجردة من الحس الإنساني، فحولته بدوره إلى نمط ممكنن، وفرغته من مضمونه الإنساني ليصبح “زائدة  دوديّة في جسد الآلة المعدنيّة”، حسب تعبير المفكر الفرنسي  روجيه غارودي، بدل التواصل والحوار مع إنسان آخر غير الإفتراضي، أي مع عقل آخر عملاً بما قاله الإمام عليّ بن أبي طالب “إضرب الرأي بالرأي فيتولد الصواب”.

والمؤكد أن هذا الإدمان على وسائل التواصل الألكترونيّة، والتمادي والإفراط في استعمالها من أفراد العائلة كافة على حد سواء، سيؤدي لا محالة إلى تفكك أواصر العائلة  النواة الأولى في تكوّن المجتمعات والحضارات. فما أن تجتمع العائلة، هذا إذا اجتمعت، حتى ينزوي كل فرد منها في ركن، وهاتفه المحمول الذي ينقله إلى عالم إفتراضي بدل التقارب، أو اللحمة التي كانت تسود العلاقات العائليّة عن طريق الحوار وتبادل الآراء، للتوصل إلى الرأي الصواب. لقد تحولت العلاقات العائليّة بمعظمها إلى نوع من المساكنة، ينفرد كل برأيه، ويلجأ إلى أناس إفتراضيين لحل مشاكله، أناس لا تربطه بهم الأطر الثقافيّة والفكريّة والإجتماعيّة التي اعتاد عليها في حضن عائلته ومجتمعه، ما يؤدي إلى الإغتراب عن الذات الإجتماعيّة، فيقع الفرد في التقليد وتبني مفاهيم تقتلعه من الجذور وترمي به في متاهات يصعب عليه الخروج منها والعودة إلى أحضان العائلة، فيتوه في فردانيّته ويتخذ أحياناً القرارات الخاطئة. فردانيّة تغربه عن الذات والجماعة والكون، فتتحول ألأنا إلى جحيم، وينكفئ الفرد داخل شرنقة الذات الخانقة التي تؤدي به في أكثر ألأحيان إلى التوحد. لقد تفاقمت ظاهرة التوحد بين الناشئة بشكل ملحوظ في ظل انتشار وسائل التواصل الاجتماعي والإدمان عليها في بلدان العالم قاطبة، خاصة المتقدمة تكنولوجياً والتي استدركت الأمر وتقوم بإنشاء مراكز خاصة لإحتضان الأشخاص الذين يعانون من التوحد الذي أصبح  ظاهرة عصريّة بامتياز تؤدي إلى العزلة الإجتماعيّة.

وهذه الفردانيّة ستؤدي إلى رفض العائلة والإمتثال لمبادئها وتقاليدها، وإلى تحدي مشورة الوالدين، والتحرر من جميع الروابط العائليّة تماماً كما هو سائد في الغرب. إن هذا اللاإنتماء العائلي سيؤدي على المدى القريب إلى اللاإنتماء إلى الجماعة  وتراجع المهارات الإجتماعيّة، وبالتالي إلى اللاإنتماء الوطني. فهل هذا هو المطلوب؟

والتفكك الأسري لا ينحصر فقط في العلاقة ما بين الأهل والأبناء، بل يتعداه ليصيب العلاقة الزوجيّة في الصميم. إن ظاهرة تفشي الطلاق في ازدياد، والقناعة التي كانت تسود الحياة الزوجيّة أصبحت شبه معدومة، لأن وسائل التواصل الاجتماعي كشفت الحجب عن عالم إفتراضي يتماهى معه الزوجان ويسعيان لتقليده والسير في ركابه، عالم يتنافض في معظم الأحيان والواقع المعيوش.

أما على الصعيدين الثقافي والتربوي، فقد باعدت هذه الوسائل ما بين الناشئة والكتاب خير أنيس وجليس، والذي استبدل بآلة معدنيّة صمّاء بكماء. فالكتاب الذي تتواصل معه بكافة حواسك أصبح مركوناً فوق الرفوف وفي الأدراج. لقد فقدت الناشئة الشغف لاقتناء  كتاب نضعه تحت وسادتنا، نضمه إلى صدرنا، نتلمس أوراقه، نطوي صفحاته، نسطر الجمل الجميلة والهامة، ونكتب التعليقات على هوامش متنه. إنها متعة ثقافيّة في طريقها إلى الزوال، تتلاشى معها الحمبمية التي تربطك بالكتاب.

إننا نعترف أن هذه الوسائل توصل المعلومة إلى الناشئة بسرعة وبكبسة زر، لكنها لا تترسخ في ذهن طالب العلم، فهي للإستعمال اللحظي والآني. فالذاكرة النعمة التي يمتاز بها الإنسان ستحل محلها الآلات المبرمجة والمعلومات التي تشبه إلى حدّ بعيد وجبات الطعام السريعة.

وهذا التباعد بين الناشئة والكتاب انعكس سلباً على لغتنا العربيّة الأمّ وعلى جماليتها. لقد تحولت لغة هذه الوسائل إلى لغة هجينة، أقصت الحرف العربي ليحل محله الحرف اللاتيني والأرقام والطلاسم التي يصعب فهمها. فنشأ ما يسمى باللغة  “العربيزيّة” وهي مزيج من اللغتين العربية والإنكليزيّة.  وفي حال استعمال اللغة العربيّة تكون أقرب إلى العاميّة الركيكة على مستوى المعنى والمبنى والجماليّة.

إن الإنعكاسات اللغويّة والثقافيّة السلبيّة هذه لم تطل الفرد فقط، بل أصابت المؤسسات الثقافيّة ودور النشر والصحف والمجلات في الصميم. إن القراءات على هذه الوسائل قد أدت إلى إقفال العديد من الوسائل الإعلاميّة المكتوبة ودور النشر، وضربت حقوق الكتّاب عرض  الحائط، فأصبح الفكر بضاعة كاسدة، والكاتب عرضة للسرقة الفكريّة والمعنويّة.

وقد طالت هذه الطفرة الألكترونيّة  الصحة الجسديّة والنفسيّة للأفراد الذين يفرطون في استعمالها عامة والناشئة خاصة. لقد أثبتت الإحصاءات أن نسبة ألأطفال الذين يستعملون النظارات الطبيّة في ازدياد لتبلغ تقريبا “4/10%” مقارنة بالنسب السابقة، وذلك بسبب الإستعمال المتواصل لهذه الوسائل الذي يجب ألاّ يتعدى الساعتين في اليوم. وقد أثبتت الدراسات أيضاً أن المشاكل النفسيّة لدى الناشئة تتفاقم بسبب التوتر والقلق اللذين يصيبان ألأطفال لدى استعمالهم لهذه الوسائل، إضافة إلى الخلل في الجهاز العصبي بسبب استعمال اليدين بشكل متواصل، والتحديق، وإلتواء الظهر، والجلوس دون حركة لساعات متتالية، وتناول الوجبات السريعة أمام الحاسوب القادر على القيام بمئات المليارات من العمليات الحسابيّة في ثوان معدودة، مما أدى إلى تضاعف عدد الأطفال المصابين بالسمنة المفرطة التي  ستتسبب لاحقاً  بأمراض القلب والشرايين والسكري وغيرها من الأمراض. وحسب الإحصاءات الطبيّة، يعاني ألأطفال المدمنون على هذه الوسائل من الإجهاد الدائم وعدم القدرة على النوم والشعور بالإكتئاب والإحباط والإنزواء.

ومن أخطر سلبيات هذه الوسائل هي دخول الأطفال إلى المواقع ألإباحيّة التي تهدد الثوابت الأخلاقيّة في الصميم، وكذلك الاستقرار النفسي لديهم. فالطفل عرضة لمشاهدة علاقات شاذة خارجة عن المألوف، فيتعرف على الحياة الجنسيّة بطريقة مغلوطة وغير سليمة، فيها الكثير من الإثارة وتحريك الشهوات والشذوذ الجنسي، فيقع ألأطفال في تجارب بعيدة كل البعد عما هو طبيعي ضمن ألأطر ألأخلافيّة التي تحفظ سلامتهم الجسديّة والنفسيّة، وهذا ما يسهل عمليّة ألإبتزاز الجنسي للناشئة.

إن ظاهرة  الإبتزاز الجنسي فد تفشت بشكل مثير للقلق والخوف. فالشكاوى المقدمة إلى المراجع ألأمنيّة في ازدياد كل يوم، وتزداد معها نسبة الإنتحاربين الناشئة والبالغين على حد سواء، خوفاً من الفضائح الأخلاقيّة التي تسبب لهم المذلّة والعار في محيطهم الاجتماعي. وعمليّة  الإبتزاز  الجنسي تدمر  نغسيّة الناشئة وتفقدهم الحس بالأمان والثقة بالنفس، وتخلق لديهم الشعور بالخوف من الآخر، وعدم الثقة حتى بالوالدين والأصدقاء. وقد تؤثر مستقبليّاً على علاقتهم بالشريك، وتخلق لديهم الشك والغيرة غير المبررة بسبب فقدانهم الثقة بأنفسهم.

والإبتزاز قد يطال معظم النواحي الحياتيّة، فالهندسة  ألألكترونيّة الحديثة قادرة على اختراق خصوصيّات كل فرد منا. تراقب منازلنا وتحركاتنا ومداخيلنا ومدخراتنا، تسهل عمليّة السطو على منازلنا في غيابنا، وتراقب نقاط ضعفنا كي تسهل عمليّة ألإبتزاز.

ويترافق ألإبتزاز مع ظاهرة انتشار الجرائم الألكترونيّة خاصة تلك التي تستهدف النساء وتستدرجهن للخيانة الزوجيّة، وتستهدف أيضاً القاصرات والقاصرين وهم الفئة المستهدفة التي يسهل إبتزازها واستغلالها عاطفيّاً. وقد أدى ذلك إلى تراجع المنظومة الأخلاقيّة والقيميّة السائدة في مجتمعاتما، وازدياد نسبة جرائم الشرف ضد النساء، خاصة بعد تفشي جائحة كورونا التي أدت إلى العزلة والإبتعاد عن الآخر، ما أدى إلى انتشار الجرائم الألكترونيّة بمختلف أنواعها مثل التحرش الجنسي والتهديد بالسلاح والإرهاب، وفضح المستور لدى كافة الفئات والتي باتت تشكل حسب الإحصاءات المتوفرة 35 % مقارنة بالجرائم الجزائيّة الأخرى.

ففي هذا العصر الذي بات يسمى بعصر التقنيّات المتقدمة تكمن الخطورة بسبب توفر هذه التقنيّة، وسهولة الوصول إليها واستعمالها في انتهاك خصوصيّات هواتفنا المحمولة، واستخدام ما فيها من معلومات شخصيّة واعتمادها كوسيلة للضغط على الضحيّة وابتزازها جنسيّاً ومعنويّاً وماليّاً، فترضخ لطلبات المبتز خوفاً من تنفيذ تهديداته، وهذا ما استدعى الكثير من الدول إلى وضع التشريعات من أجل مكافحة الإبتزاز وتجريمه، ومن بينها لبنان.

بعد انتشار هذه الظاهرة صنّف القانون اللبناني الإبتزاز بالجريمة. وبحسب المادة 650 من قانون العقوبات “يعاقب كل شخص يهدد شخصاً آخر بفضح أمر  ينال من شرفه أو كرامته أو إعتباره، بالحبس من شهر إلى سنتين وبالغرامة الماليّة”. وتؤكد مصادر مسؤولة في قوى الأمن الداخلي “أن نسبة شكاوى  جرائم الإبتزاز والتحرش تطال شريحة كبيرة من المجتمع تشكل النساء والقاصرات 80% منها، وذلك عن طريق إرسال صور شخصيّة بوضعيات غير لائقة، أو من خلال قرصنة الصفحة أو الحساب الشخصي”. ويضيف المصدر “أن فئة الفتيات التي تتراوح أعمارهن بين 10 و14 سنة  يشكلنّ النسبة الكبرى من ضحايا الإبتزاز. وأن العقوبات المفروضة لا تسهم في الحد من الجريمة أو ردع مرتكبيها. وغالباً ما تكون  الغاية من عملياّت ألإبتزاز ماديّة خاصة في هذه الظروف الإقتصاديّة الضاغطة، أو جنسيّة من أجل السيطرة على الضحيّة واستغلالها وصولاً إلى التهديد بالخطف أو القتل”. ويضيف المصدر “إن الإبتزاز الألكتروني هو جريمة العصر نظراً لما يتركه من آثار نفسيّة سلبيّة على الضحايا وأن 12% قد يتأثرن مدى الحياة، لذلك تعمد بعض الضحايا إلى الإنتحار”.

ويعتبر “وادي زمّ ” في المغرب من أخطر وأقوى مواقع ألأبتزاز الجنسي في العالم الذي تعشش فيه أعتى  المافيات ألألكترونيّة القادرة على التسرب إلى كافة خصوصيات الأفراد والمؤسسات وملاحفتهم وابتزازهم أينما كانوا وحيثما حلوا.

وماذا عن الأخطار التي تسببها العاب الأطفال الألكترونيّة التي تدور حول العنف والعنف المضا د، والقتل وسفك الدماء، ومطاردة الآخر وإلغائه من الوجود، والنشوة التدميريّة التي تتركها على المنتصر؟ إن الغرب الذي يدعي التقدم والديمقراطيّة يصدر هذه ألألعاب كي يبرر عنفه ضدنا نحن أبناء العالم الثالث حيث يعشش العنف والإرهاب كما يدعون، بحجة أن الحدث التاريخي هو فعل وردة فعل. ومن يراقب إصدارات كتب الأطفال التي صدرت في الولايات المتحدة الأمريكيّة في الآونة الأخيرة والتي احتلت مرتبة الأكثر مبيعاً بين كتب الأطفال ويبلغ معدل بيعها الملايين، تدور حول العنف المشروع للدفاع عن النفس متوسلة أعلى درجات العنف والقسوة ضد الإرهاب الذي نعلم جيداً أين يموضعه الغرب وهو صانعه، متناسياً جرائمه المتنقلة بين دول العالم والتي يصعب تعدادها لكثرتها. وقد أيّد عدد كبير من علماء النفس الأمريكيين هذه الإصدارات وظاهرة الأفلام الألكترونيّة بحجة أنها تساعد في خلق الإنسان الأمريكي القوي الذي لا يقهر، والقادر على هزيمة بل إبادة أعدائه وإلغاء الآخر إلى أي عرق أو دين أو بلد ينتمي إليه. وأن هذه الألعاب تعزز الثقة بالنفس خاصة بعد الكوارث التي خلفتها حرب فيتنام والتشوهات النفسيّة التي أصابت جيلاً كاملاً من الأمريكيين والتي تجددت بعد أحداث 11 أيلول. ولا ننسى موجة أفلام العنف التي ابتكرها الأمريكيون لمطاردة صنيعهم بن لادن تمهيداً لقتله في عقر داره. وليس هذا الكلام للدفاع عن ظاهرة ألإرهاب، وأولى ضحاياها المواطن العربي، أو للدفاع عن “البنلادينيّة” بل لإلقاء الضوءعلى العنف المضاد الذي طال العالم العربي برمته ويعمل لتفتيته وإضعافه.

وماذا بعد، هل ننتظر حتى يقع جيل كامل في المحظور، ويتحول الإدمان ألألكتروني إلى آفة إجتماعيّة من نوع آخر تصعب السيطرةعليها؟  لقد بدأ ما يسمى بالربيع، هذا الحراك بسبب انقطاع الإنترنت عن العاصمة نتيجة عطل في الكابلات الرئيسيّة. وهذا الحدث يكفي للدلالة على الأثر الكبير لهذه الوسائل على الفئات الشبابيّة، والتي باتت حاجة  يوميّة بالنسبة إليهم بعدما تحولت إلى نوع من الإدمان المفرط . لذلك بدأ العالم برمته يتحسس مخاطر هذا الإدمان الذي يغرِّب الناشئة عن ذواتهم وتراثهم الثقافي والوطني ويرمي بهم في عالم إفتراضي. ومن بين هذه الدول الصين التي  يبلغ تعداد سكانها  1/7 سكان العالم التي اتخذت منذ سنوات قراراً بإقامة مخيمات صيفيّة لمعالجة الناشئة من هذا الإدمان الخطير. وكانت اليابان، وهي إحدى مصادر هذه الألكترونيات، قد سبقتها في الحد من استعمال الوسائل ألألكترونيّة في المدارس.

واستناداً الى ما تقدم، ونظراً لتفشي هذا الإدمان بين جميع الفئات العمريّة، أصبح من واجب الجميع السعي لإيجاد البدائل الناجعة للحد من هذا الإدمان بتضافر جهود الهيئات الحكوميّة الرسميّة والتربويّة وفعاليات المجتمع المدني بمؤسساته وجمعياته. وأولى حلقات التصدي لهذه الظاهرة هي إعادة اللحمة إلى العائلة والعمل على تماسكها. إن تفكك العائلة أدى إلى الفردانيّة وساهم في خلق عالم إفتراضي يلجأ إليه الفرد في أوقات الضيق بدل استشارة أفراد العائلة ألأقرب إليه والأشد حرصاً على مصلحته من أصدقاء إفتراضيين. وعلى الأهل الذين هم بدورهم ضحايا هذا الإدمان، أن يكرسوا الوقت المتاح لجمع العائلة، وشد أواصرها ومعالجة مشاكلها واجتراح الحلول التي يشارك فيها الجميع، وتشجيع الأبناء والبنات على إبداء الرأي في كافة المواضيع كي يشعر الجميع بحقيقة انتمائهم إلى هذه الخليّة الإجتماعيّة الموحدة، والقائمة على المحبة والتفاهم والديمقراطيّة، وليس على السلطة البطريركية  التي ينفرد  بها ربّ العائلة.

أما فيما يختص بالدولة فيترتب عليها إيجاد البدائل العملانيّة والأنشطة الرياضيّة والكشفيّة، وإشراك الناشئة في الحياة الإنتاجيّة والإقتصادّيّة والإجتماعيّة بالتعاون مع الجمعيّات المدنيّة المختصة كي يصار إلى حصر وسائل التواصل هذه في إطارها المعرفي والعلمي. وعلى المجتمع المدني مؤازرة الدولة عن طريق تعميم النوادي الرياضيّة والثقافيّة والترفيهيّة، وتشجيع الشباب على أخذ المبادرات وابتكار الأنشطة وتنظيمها، والمشاركة في الأعمال  التطوعية في مواسم القطاف وجمع المحاصيل الزراعيّة، أي إشراكهم في الحياة الإنتاجية.

وقبل وبعد، علينا إعادة الإعتبار إلى الكتاب وجعله في متناول الجميع، وتزويد المدارس بالكتب على أنواعها وإغناء مكتباتها وفرض القراءات اللاصفيّة، وإنشاء المكتبات العامة، وتفعيل دور الثقافة والمثقفين الذين شبههم المفكر رئيف خوري بـ “المُخل الذي ينحني كي يرفع”.

إننا ندق ناقوس الخطر ونحذر من التمادي  والإفراط في استعمال وسائل التواصل الاجتماعي، والعمل عل حصرها في إطارها العلمي والمعرفي، والتنبيه من مخاطرها على الفئات العمريّة  كافة وخاصة عل الناشئة، والشروع  في وضع حد لهذا الإدمان ـ الآفة عن طريق نشر ثقافة الإعتدال كي يسود مبدأ الوسط الذهبي ألأرسطي لما فيه خير الجماعة في مجتمعنا العربي والعالم برمته المصاب في أكثر من مفصل.

Leave a Comment