صحف وآراء مجتمع

“هيئة التبليغ الديني” كمحكمة تفتيش

محمد حجيري*

يمكن اختصار ما فعلته “هيئة التبليغ الديني” في المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في قرارها بـ”الإجماع” بشأن من وصفتهم بـ”بعض مرتدي الزي الديني”، بأنه أشبه بـ”بمحاكم التفتيش” في زمن أوروبي غابر. فلأسباب إيديولوجية وحزبية نافلة وفجّة، أتّخذت الهيئة قراراً يعتبر 15 شيخاً شيعياً أو معمماً “غير مؤهلين للقيام بالإرشاد والتوجيه الديني والتصدّي لسائر الشؤون الدينية والأحوال الشخصية المتعلّقة بأبناء الطائفة الإسلامية الشيعية، إما للإنحراف العقائدي أو للإنحراف السلوكي أو للجهل بالمعارف الدينية وادعاء الانتماء للحوزة العلمية”… واقتصر البيان على عناوين عامّة وشكليات، من دون تفاصيل وشرح لأسباب الإجراءات المتّخذة…

ومن بين الأسماء التي يطاولها القرار، وجوه نعرفها، وأخرى نجهلها ولم يسبق أن اطلعنا على مواقفها… وتصدّر الواجهة الشيخ ياسر عودة إمام مسجد “السجاد” في الضاحية الجنوبية، وهو مقرّب من مؤسسات المرجع الشيعي الراحل السيد محمد حسين فضل الله، وسبق أن تعرّض لضغوط وتهجّمات كثيرة أجبرته قبل ست سنوات على وقف برنامجه الديني على قناة “البشائر” الدينية. ويوم انتشر مقطع فيديو له يعرب عن استيائه من الواقع المعيشي في لبنان، داعياً الشعب اللبناني إلى “الثورة” لتغيير هذا الواقع، اعتبر بعض المواطنين أن كلامه صرخة تعبّر عن وجعهم اليومي، ورأى فيه البعض الآخر “مدسوساً” هدفه تعكير الصف الشيعي.

أما الشيخ محمد الحاج حسن، فسبق أن أسس “التيار الشيعي الحر”، وتمرّد على مواقف الثنائي الشيعي. وليست هذه المرة الأولى التي يكون فيها موضع جدل. ففي العام 2016، أصدرت “الأمانة العامة للأوقاف الشيعية” بياناً اتهمته فيه بأنه لم ينتسب إلى الحوزة الدينية، و”ما يقوم به الرجل لا علاقة له لا من قريب ولا من بعيد بشخص رجل الدين وهو مثير للشبهات”… لمجرد أنه كان يظهر عبر بعض وسائل الإعلام…

وقرار “هيئة التبليغ الديني”، يأخذنا إلى مآل تحولات المشيخات الشيعية وانتشار العمائم والمعمّمين في لبنان. وإذا تخطينا مرحلة العزوف والانكفاء عن تلقي التعليم الديني النجفي في الأربعينيات والخمسينيات، من بعض العائلات البارزة (الأمين، شرف الدين)، وتحوّل مجموعة من الشخصيات، من التعليم الديني، إلى الانضواء في التيار الماركسي بعد رحلة إلى النجف (محمد شرارة، حسين مروة)، فإن “الأسباب في العزف عن طلب العلم الديني ليست عرضية ولا عابرة، وهذا ما تثبته على نحو أو آخر روايات أصحاب الشأن وذكرياتهم” (وضاح شرارة –”دولة حزب الله”)، وجزء منها التحوّلات الثقافية والإيديولوجية وعدم القدرة على مواكبة العصر.

وفي الستينيات، برزت مجموعة من رجال الدين الشيعة، الآتين من قم والنجف. أوّلهم كان الإمام موسى الصدر الذي وصل العام 1960، بعد سنوات قضاها في مدينة قم الإيرانية حيث وُلد ودرس، قبل أن ينتقل إلى النجف ليستكمل دراسته الدينية. لحق بالصدر، اثنان سيتركان بصمتهما على الطائفة الشيعية، لكن بدرجة أقل من الصدر، وهما السيد محمد حسين فضل الله والإمام محمد مهدي شمس الدين…

لكن في العقود الأخيرة، يقول الكاتب زهير هواري في مقال منشور في “السفير” (10/07/2007)، تطور عدد رجال الدين الشيعة إلى ما هو غير مسبوق على صعيد الطائفة. كانت الحوزات القديمة ضعيفة القدرات، والإمكانات، وكان عدد طلابها محدوداً، لأنها كانت بالأساس مرتبطة برجل دين واحد ومعه عدد من الأساتذة، وكانت تدرّس كل شيء، من القراءة الى الحساب، الى النحو والصرف والقرآن وغيرها. وكانت الحوزة المحلية في جنوب لبنان، عبارة عن مدرسة دينية تقود إلى النجف، وكانت الرحلة إلى النجف غير متوافرة أو مُيسّرة للكثيرين. لكن العائدين من رحلتهم العلمية هذه، كانوا يعودون “علماء بالمعنى الفعلي للكلمة. أكثر الأسماء الكبرى التي عرفها الجنوب وما زال، هي من هذا القبيل”…

والحال، أنه مع ظهور “حزب الله” اللبناني، مستفيداً من سلسلة من الأحداث، أهمها ظهور الثورة الإسلامية الخمينية في إيران 1979، مروراً باختفاء أو خطف موسى الصدر في ليبيا قبلها بسنة، والأهم من ذلك الحرب الأهلية والحرب الإسرائيلية على لبنان، على هذا الواقع بدأ الترسخ المكاني للحزب في بداياته في منطقة بعلبك الهرمل. وكانت إعادة الاعتبار للحوزة الدينية، جزءاً أساسياً في تأسيس حزب الله أو الحزب الخميني ونشأته… يقول وضاح شرارة في كتابه “دولة حزب الله”: “أدرك الاسلاميون الخمينيون أنّ أزمة السلك الديني، سلك علماء الدين، عميقة وشاملة، وأنّ عليهم أن يتصدّوا لكل وجوهها معاً وإلاّ باءت معالجتهم لها بالفشل. لذا عمدوا إلى مداواتها وجهاً بعد وجه. فبذلوا المال لمن يحتاجه من طلبة ومدرّسين، وقرّبوا المدارس والحوزات من أماكن السكن ونشروا الأولى في الثانية، ولم يقفوا عند توجيه النقد المرّ إلى انكفاء التدريس الديني، بل نصبوا مثالاً لرجل الدين وعالمه يقوم على التغلغل في الحياة الاجتماعية اليومية وتعهّد كل ظواهرها بالرعاية والرأي والإشارة. ولما تنكّبت عائلات العلماء القديمة طريقة العلم وطلبه، انصرف الاسلاميون الخمينيون عنها، واستخرجوا طلبة وعلماء من عائلات ومناطق لا عهد لها سابقاً بالعلم والعلماء، وأمكنوها من الدراسة والعمامة”.

ويُنسب إلى الشيخ عباس الموسوي، تأسيس أول عمل تبليغي شيعي منظّم في البقاع انطلاقًا من الحوزة، حيث كان يوزع أتباعه على البلدات والقرى، ويتم إرشادهم وتوجيههم ويتم اختيار الموضوعات وطريقة النقاش… ويحكي حسن نصر الله، أمين عام حزب الله، أنه درس على يدَي الموسوي في النجف منذ العام 1976. وبعد هروبهما من العراق، أسس الموسوي حوزة “الإمام المنتظر” في لبنان في فبراير/شباط 1978، ودرّس فيها للطلاب اللبنانيين العائدين معه من العراق. لاحقًا، جمع الموسوي في حوزته عددًا من المعلمين العائدين من النجف، و”غداة افتتاح حوزة الإمام المهدي في عين بورضاي بعلبك، ألقى الشيخ محمد يزبك كلمة المدرسة، مؤكداً، بحسب الصحيفة التي نقلتْ الخبر، أنّ “سلامة الخط، وبناء الفكر الاسلامي، لا يكونان إلا من خلال الحوزات العلمية التي تجمع الجميع تحت راية الإسلام، وفي خدمة الإسلام”… و”لا يخفي القائمون على الحركة الاسلامية الشيعية بلبنان شبه ما يتوقعونه من طلبة المدارس الدينية بما يقدر عليه الثوريون المحترفون، قوام الحزب الشيوعي اللينيني الستاليني، من مرونة عمل، وتعبئة سريعة، وانتشار عريض في ثنايا المجتمع الذي يعملون لأجل حكمه، والقبص على أزمته”(وضاح شرارة – المرجع نفسه).

وأدّت زيادة عدد رجال الدين الشيعة الدارسين في الحوزة الإيرانية أو المتأثرين بها، والمنتشرين في كل البقاع والأرجاء اللبنانية، إلى إعداد قاعدة جماهيرية وتنظيمية شيعية كبيرة مرتبطة بالقيادة المركزية في طهران، من خلال اعتماد تلك القاعدة على إيران في أمور المعتقد والمعاش اليومي. وأخذ جمهور المساجد بالتغير بشكل كبير، فقد حلّ المراهقون والشباب مكان الرجال البالغين، ولم يعد الكلام يقتصر على الصلاة، بل على جلسات سياسية، ومن هنا أخذ الفقيه يتحوّل إلى فاعل في تنشئة اجتماعية من أجل مشروع سياسي راديكالي جديد. و”تتباين الأرقام في عدد الحوزات العلمية في لبنان، ففيما يذكر البعض أن العدد الإجمالي هو 30 حوزة موزعة على المحافظات اللبنانية باستثناء الشمال، يستقر الرقم لدى بعض المشتغلين في هذا المجال على 38 حوزة. ويعبّر مثل هذا الرقم، سواء الأدنى أو الأقصى، عن فوضى لا مثيل لها، خصوصاً أن المسألة تخضع لتجاذبات منها ما هو مرجعي ـ ديني ومنها ما هو سياسي”(زهير هواري – “السفير” 10/07/2007).

وبحسب المتداول، سيطرت القوى السياسية والحزبية على مفاصل الحوزة العلمية اللبنانية، فصار لا يُقبل في صفوفها الدراسية فيها بين لبنان وإيران إلا من يأتي عنه تقرير من جهات الأمر الواقع! وتحولت العمائم من “نخبوية فقهية لاهوتية يتعب أصحابها في الكثير من الدراسة والتعمق، إلى فعل جماهيري يظهر الولاء الحزبي ويبدّيه على المسار الاجتهادي، وانتشار المعممين بطريقة سهلة جعل الراحل الشيخ محمد مهدي شمس الدين يقول: “بالزي الكامل مع القليل من العلم”.

وعدا عن الهيمنة على الحوزة، وهي متوقعة، فكل من يحاول أنْ يغرّد خارج “سيستام” الجهاز الحزبي الإيراني، يكون عرضة لاتهامات وضغوط شتى. فقد تمّ تهجير الشيخ المرجع، علي الأمين، من صور في الجنوب اللبناني، نتيجة مواقفه ورفضه لغزوة بيروت في 7 أيار/مايو 2008، فانتقل إلى بيروت وأقام فيها منذ ذلك الحين. وفي كانون الأول/ديسمبر 2019، وفور عودته من مؤتمر حواري بين الديانات والثقافات عقد في البحرين، وُوجه الأمين بحملة تتهمه بأنه التقى على هامش المؤتمر مع شخصية دينية يهودية، فأصدر على الفور بياناً نفى فيه الخبر، مؤكداً أن “لا أساس له من الصحة”. وذكر وقتها أنه “لم يعلم بوجود تلك الشخصية إلا بعد انتهاء المؤتمر، وأن من يُدعى إلى المشاركة في المؤتمرات لا يتم إبلاغه مسبقاً بجنسيات المشاركين وأديانهم ودولهم”. وبعد مرور خمسة أشهر على المؤتمر أثير الموضوع من جديد.

وبعد تهجير الأمين، اتهم الشيخ حسن مشيمش بالعمالة وسُجن، بسبب تقرّبه من الشيخ صبحي الطفيلي ومعارضته “حزب الله”. اعتقلته السلطات الأمنية السورية على معبرها الحدودي من لبنان في 7 يوليو/تموز 2010، أثناء توجّهه براً إلى مكة في السعودية، واتهمته بـ”العمالة للعدو الصهيوني”، وزجت به في سجونها. في 11 تشرين الأول/اكتوبر 2011، أطلقت سراحه، وسلّمته إلى السلطات اللبنانية التي احتجزته وسجنته وحاكمته بالتهمة عينها. في غضون العام 2017، غادر لبنان إلى فرنسا طالباً من سلطاتها اللجوء السياسي اليها، وسرعان ما انتقل إلى ألمانيا بعد ضغوط من السلطات الفرنسية.

وفي العام 2019 تقدم المحامي معن الأسعد، بدعوى، بوكالته عن المجلس الشيعي ودار الإفتاء! وادَّعى فيها على الشيخ محمد علي الحاج العاملي، مطالباً باتخاذ قرار بمنعه من التعرض بالقدح والذم والتشهير بحق المدعيَين وتغريمه مبلغ خمسين مليون ليرة عن كل أمر يقدم عليه في هذا الخصوص أمام كل ما هو مرئي ومسموع ومكتوب وكافة وسائل التواصل الاجتماعي. ومما جاء في الدعوى أنه “أعطى آراء واستشارات حقوقية في مقابلة على برنامج “بدا ثورة” التلفزيوني، من دون أي صفة كونه ليس محامياً”. وحصل ذلك على خلفية مطالبة الشيخ الحاج “بإجراء إصلاحات في المجلس الشيعي، وبعدم بيع المساجد والأوقاف، وباعتماد معايير قانونية للتوظيفات، وبأن تكون المؤسسة الدينية الشيعية لكل أبناء الطائفة”.

وتعرض الشيخ عباس الجوهري، لمضايقات، لمجرد أنه معارض. وتعرض شيخ آخر لمضايقات لمجرد أنه تلا الفاتحة في جنازة الراحل لقمان سليم الذي اغتيل قبل أكثر من سنتين. وفي شباط 2022 تبرّأ المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في لبنان، من السيد علي الحسيني، الذي ظهر في برنامج “فوق الـ18” على قناة “الجديد” يعزف على آلة البيانو، وقال في إطلالته ان صوت المطربة فيروز “ليس عورة”. وقالت “هيئة التبليغ الديني” في بيان، إن الحسيني “خرج عن النظام الاسلامي العام بطريقة التهتك الفاضح، محاولاً إلصاق ثقافة منافية للإسلام بدين الاسلام، والإسلام منه براء”، واعتبرت الهيئة أن الحسيني ظهر في البرنامج المذكور “هاتكاً لأحكام الشريعة الغراء، ومن المتهتكين بإرتدائه للزي المحترم”… ووصفته بأنه “من المنتحلين لصفة عالم دين”…

*نشرت عفلى صفحات المدن الالكترونية في الجمعة 2023/08/18

Leave a Comment