سياسة مجتمع

هل تنقذ هدنة غزة لبنان من خطر الدمار؟

زكي طه

 بيروت 31 كانون الثاني 2024 ـ بيروت الحرية

على وقع التصعيد الميداني على جبهة الجنوب في سياق المعركة المفتوحة التي قررها حزب الله مساندةً لغزة، وفي ظل حركة الموفدين الدوليين الذين ينقلون رسائل التهديد والتحذير من مخاطر رفض الحزب ولبنان، تنفيذ القرار الاممي الرقم 1701. تمكن المجلس النيابي وحكومة تصريف الاعمال من تجاوز سيل الاعتراضات على مبدأ التشريع في ظل الفراغ الرئاسي، ونجحا في تمرير الموازنة السنوية التي تؤبد الانهيار المالي والاقتصادي، وتسرّع استكمال إفقار أكثرية اللبنانيين.

في المقابل تتوالى محطات تصعيد معركة الحزب في مواجهة العدو الاسرائيلي على جبهته الشمالية. والتي شكلت مخرجاً لعدم الدخول في الحرب التي قررتها اسرائيل بذريعة عملية “طوفان الأقصى”، بدعم وتنسيق كامليْن مع الولايات المتحدة الاميركية ضد الشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية.

صحيح أن الحزب والعدو الاسرائيلي، التزما إبقاء المعركة تحت سقف ما يسمى “قواعد الاشتباك”. الحزب لا يريد حرباً لا مصلحة له فيها. واولويات اسرائيل تحقيق أهداف حربها في قطاع غزة والضفة الغربية. لكنها لم تتأخر عن اتخاذ الترتيبات التي تضمن لها الحد الادنى من الخسائر بانتظار تبدل اولوياتها. أما أهالي قرى وبلدات المواجهة فمتروكين لهمومهم، في ظل غياب الدولة اللبنانية ومؤسساتها المغلوب على أمرها امام قرار فتح المعركة، وسط تجاهل تام للمخاطر التي تهدد مجمل أوضاع البلد.

من الواضح أن المساندة المرجوة لم تحقق أهدافها، لأن المعركة غير متكافئة عسكرياً وتفتقد إلى توازن القوى. أمّا المبالغات السياسية والاعلامية التي رافقتها فهي لتبرير استمرارها. ومع اتساع المدى الزمني للحرب، وتقدم جيش الاحتلال على جبهة غزة، كان من الطبيعي أن يبادر إلى تصعيد عمليات القصف وأن تتسع رقعة المواقع المستهدفة على جانبي الحدود، وترتفع مستويات الخسائر الناجمة عنها.

صحيح أن العدو يسعى أولاً لتحقيق أهدافه حيال الوجود والقضية الفلسطينية. تسانده في ذلك القيادة الاميركية التي كثفت ضغوطها على قيادته لتجنب من مخاطر فتح جبهة ثانية على الحدود مع حزب الله. ورغم التهديدات التي لم تزل تتوالى حول تدمير لبنان، إلا أن طرفي الحرب الاميركي والاسرائيلي وجدا في القرار 1701 مخرجاً للتحكم بمسار المواجهة مع حزب الله على الصعيدين السياسي والميداني. وعليه تشكلت جبهة من الدول الغربية المؤيدة لاسرائيل والداعمة لها، تتولى الضغط على لبنان ومطالبته بتنفيذ القرار، من خلال نقل التهديدات بمختلف اللهجات، وتحميل الحزب مسؤولية الحرب التدميرية عليهما.

ومع تقدم مسارات الحرب الاسرائيلية التدميرية على جبهتي قطاع غزة والضفة الغربية، في إطار محاولات تحقيق أهدافها تحت مرأى ومسمع العالم أجمع، سواء الذي يرفض وقف اطلاق النار أو العاجز عن فرض ذلك. فقد كان من الطبيعي رفع وتيرة رسائل التهديد الاسرائيلية حيال لبنان والإكثار من الاعلانات عن اقتراب موعد الحرب عليه في حال فشل الحل الدبلوماسي الذي يتضمن تنفيذ القرار 1701. في موازاة المبادرة إلى رفع وتيرة التصعيد الميداني والتوسع في عمليات القصف المركز خارج منطقة الشريط الحدودي، إلى جانب استهدف قيادات عسكرية للحزب والفصائل الفلسطينية المشاركة في المعركة، وصولا الى الضاحية الجنوبية للعاصمة، الامر الذي وضع قيادة الحزب امام تحديات اضافية.

صحيح أن الحزب ربط معركته بوقف اطلاق النار في غزة، لأنها اساساً تقع في اطار توجه النظام الايراني لتغطية قرار عدم مشاركته المباشرة في الحرب القائمة، والاستثمار بمعارك المساندة التي كلفت بها قوى جبهة الممانعة. والسعي لفتح ابواب التفاوض الاميركية المقفلة معه، عبر سياسة التصعيد المتدرج في عمليات الجبهات التي يتحكم بها. وامام التنصل الايراني من المسؤولية عن قرار قوى المساندة بذريعة أنه لا يريد حرباً شاملة، وجدت تلك القوى أن معاركها دخلت طرقاً مسدودة وغير متكافئة، ليس من حيث الجدوى وحسب، بل ايضا على صعيد الاكلاف الباهظة التي فُرضت عليها، وسط انعدام قدرتها على الانسحاب منها خوفاً من الانعكاسات السلبية على أوضاعها وادوارها المستقبلية.

هذا الواقع الصعب والمعقّد وضع قيادة الحزب امام تحديات استمرار المعركة من ناحية، ومواجهة المخاطر المترتبة عليها على الصعيدين الخاص واللبناني العام، في ظل الانهيار العام لبنية الدولة وأجهزتها وشلل مؤسسات السلطة، وغياب المرجعية الدستورية الشرعية. هذا عدا الانهيار الاقتصادي والمالي وحالة الفوضى السياسية والامنية. خصوصاً وأن معركة المساندة التي بدأها الحزب، قد ساهمت في تصعيد انقسام اللبنانيين ليس حول أهدافها وجدواها ومخاطرها وحسب، إنما أيضا حول مختلف قضايا البلد وشؤونه وأزماته الداخلية المزمنة والمعقدة، كما في مواجهة التهديدات الاسرائيلية الزاحفة.

ليس سراً أن قيادة الحزب ليست بوارد الخضوع للتحذيرات والتهديدات التي يحملها الموفدون الدوليون، أو الاستجابة لنصائحهم باعتبارهم يتبنون المصالح والاهداف الإسرائيلية، وفي طليعتهم الموفد الأميركي. غير أنه في المقابل شديد الحرص على محاذرة الوقوع في فخ التصعيد الاسرائيلي، ومحاولة ابقاء المعركة ضمن حدود السيطرة على مسارها تحت سقف قواعد الاشتباك، وعدم الانزلاق نحو حرب لا مصلحة له فيها. ورغم اعتداد قيادة الحزب بقوته وبحجم ترسانته العسكرية وقدرته على الحاق كم كبير من الخسائر والدمار بإسرائيل، إلا أنه يدرك تبدل اولويات حربها، واستعداد مجتمعها لتحمل اكلاف حماية وجودها وأمنها.

أما المبالغة بشأن الخلافات في صفوف القيادة الاسرائيلية، وتضخيم التباينات حول سبل تحقيق أهداف الحرب، فهي تبقى في اطار التعبئة. ولا يختلف عنها الرهان على الخلاف مع الادارة الاميركية التي يشكل الكيان الاسرائيلي نقطة الارتكاز الاساسية في استراتيجيتها للسيطرة على المنطقة والهيمنة على مواردها. يؤكد ذلك دورها الرئيسي وتدخلها في سائر الأزمات والصراعات والحروب القائمة دون منافسة. لأن الدول الاوروبية الاساسية تحولت إلى ملاحق لها، بينما روسيا والصين تفتقدان إلى وجود ركائز سياسية أو قوى حليفة لهما.

من الواضح أن السياسة الاميركية التي تلتزم المصالح والأهداف الاسرائيلية، لم تزل تحاذر دفع الامور نحو الانفجار على الحدود اللبنانية على نحو يصعب التحكم بمساراته. لكنها ليست بوارد تسهيل محاولات الحزب لتعزيز دوره في لبنان باعتباره امتداد للنفوذ الايراني. وعليه تتابع الإدارة الاميركية الجهد الذي بدأته في اطار ترسيم الحدود البحرية مع لبنان، والسعي لاستكماله على الحدود البرية. وفي هذا السياق كانت محاولاتها المتكررة لتعديل القرار 1701، وكذلك مساعيها الراهنة لتنفيذه وفق صيغة تضمن مصالح وأمن اسرائيل واستقرارها، وتحاصر حزب الله وتقيّد دوره وحركته في آن.

وبصرف النظر عن التهديدات المتكررة والمواعيد الافتراضية، فإن استجابة الحزب للطلبات الاسرائيلية، أو للأفكار الاميركية ليست بالسهولة التي يتصورها البعض، سواء في الداخل اللبناني أو الخارج الدولي والاقليمي. عدا أنها لن تدفع به نحو استسهال الخروج على قواعد الاشتباك والدخول في حرب مفتوحة لا يريدها. يعني ذلك أن دعوات التهدئة قبل وقف اطلاق النار في غزة محكومة بالفشل. ليس فقط لأنه يرفض الأفكار المطروحة لتنفيذ القرار 1701 وحسب، بل لأنها أيضاً تتطابق مع وجهة النظر والمصالح والاهداف الاسرائيلية، عدا أنها ليست مطروحة للبحث والتفاوض.

ولذلك فإن الحزب ليس بوارد تعميق مأزقه الراهن، عبر تقديم تنازلات مجانية والانسحاب من المعركة. في المقابل هو ليس بصدد الاندفاع في مسارات التصعيد وتحمّل مسؤولية حرب تدميرية، قد تطيح بموقعه ودوره في لبنان والمنطقة. ولأنه الاقوى بين اطراف الازمة اللبنانية، ويمتلك قدرات تعطيلية وعوامل قوة سياسية وعسكرية يستحيل تجاهلها. خاصة في ظل حالة الاهتراء والتفكك على صعيد بنية النظام وتشرذم قواه الطائفية المغلقة على أية تسويات انقاذية، وانعدام المبادرة لديها لاستعادة مؤسسات الدولة وتفعيل اداراتها واجهزتها المعطلة والمشلولة، في موازاة حالة الاستسلام امام الانهيار الاقتصادي والمالي، وتصاعد حدة الأزمات والصراعات التي جعلت لبنان محكوماً بقوة فوضى الامر الواقع الطائفي، الذي يتشارك المسؤولية عنه مع سائر اطراف السلطة وقوى الاعتراض والمعارضة على السواء منذ سنوات.

وعليه، فإن معركة المساندة مستمرة على الصعيدين السياسي والميداني، على وقع ما يريده حزب الله ويسعى إلى تحقيقه والحصول عليه عبر معركته، بقوة الأمر الواقع، وبصرف النظر عن الاكلاف التي يُحمّلها للبلد بانتظار نهاية الحرب على غزة. وما لم يعد باستطاعة اسرائيل القبول به من خسائر بانتظار نتائج الجهود الدبلوماسية المحكومة بالفشل بشأن تنفيذ القرار 1701، والانتقال إلى تنفيذ تهديداتها والدخول في حرب مفتوحة باهظة الاثمان.

في وقت لا يشكل فيه استحضار الملف الرئاسي، وإحياء اللجنة الخماسية، سوى تقطيع الوقت وادارة العلاقات العامة بين اللبنانيين والخارج. وعليه، يستمر تدبير شؤون البلد وفق الممكن والمتاح، في ظل اتساع حالة الفوضى السياسية والإدارية بلا أية ضوابط دستورية أو قانونية. وسط انكفاء سائر اطراف السلطة نحو تحصين مواقعهم الفئوية، بانتظار ما ستسفر عنه معركة الحزب التي قررها منفرداً وتحميله المسؤولية عنها. وتقطيع الوقت عبر تصعيد تبادل تهم الخيانة والتآمر، خاصة في وجه كل من يعترض عليها، أو من يتجرأ ويتساءل حول جدوى ممارسات ورهانات قوى السلطة التي تضع مصير البلد على حافة الهاوية. يجري ذلك بالتزامن مع اتساع رقعة الحروب الأهلية والبينية المفتوحة والمتشابكة والمعقدة حول اوضاع ومصائر بلدان ودول المنطقة وشعوبها، بقيادة الولايات المتحدة الاميركية، التي تتولى إدارة أزماتها وحروبها المدمرة المرشحة للتمديد والتمدد، بفعل التدخل الدولي والاقليمي المستمر في مساراتها منذ عقود طويلة بشكل معلن وصريح. في وقت تفتقد فيه تلك البلدان وشعوبها إلى من ينطق باسم مصالحها الوطنية والقومية، مما يُبقي مصائرها قيد البحث وإعادة النظر بما فيها لبنان، الذي ينتظر مفاعيل هدنة غزة، هل تنقذه من خطر الحرب والدمار، أم أن اسرائيل بصدد تنفيذ تهديداتها.

وبانتظار الجواب تستمر معاناة اللبنانيين والتحديات بوجه قوى الاعتراض.

Leave a Comment