صحف وآراء مجتمع

هل المطلوب “الحفر” في الجدار أم إسقاطه؟: حول مآلات الاحتجاجات الشعبية الفرنسية

عبد الله جناحي*

اختار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون المواجهة مع الشعب عبر تمرير مشروع إصلاح نظام التقاعد المثير للجدل دون تصويت في الجمعية الوطنية-البرلمان، وذلك من خلال لجوئه إلى المادة 49.3 التي تجيز لرئيس الجمهورية إصدار القوانين دون المرور على البرلمان. رغم أن التعديل الذي يقترحه لا يتحمل هذا الضجيج، فهو فقط يقترح زيادة عمر التقاعد من ٦٢ سنة إلى ٦٤ سنة، وهذا لا يمس سوى ٦٪ فقط من العاملين.

لكن رغم ذلك فقد أثار استهجاناً عارماً، واستفز العديد من النقابات التي ندّدت بـ”إنكار الديمقراطية”، داعية إلى تجمّعات جديدة، وهذا ما حدث، ذلك أن هذه المادة الدستورية في مخيال الفرنسيين مرادفة للوحشية والاستبداد وتقويض للديمقراطية الفرنسية العريقة، ودليل على أن الحكومة لا تصغي لآهات وعذابات الشعب.

لأن نظام التقاعد يعتبر حجر الزاوية لنموذج الحماية الاجتماعية الذي تعتز بها فرنسا، حيث يدفع السكان العاملون رسوم الرواتب الإلزامية لتمويل معاشات المتقاعدين، وقد حاول كافة الرؤساء المتعاقبين على الإيليزيه على مدى السنوات الأربعين الماضية بطريقة ما إجراء تغييرات على قوانين التقاعد، لكنها غالباً ما كانت تشعل غضب الشارع وتنعكس سلباً في صناديق الاقتراع.

تاريخ الاحتجاجات الشعبية في فرنسا ..

في كتاب “الحركات الاجتماعية” للمؤلفين دوناتيلا ديلا وماريو دياني، يشيران إلى أن معظم الاحتجاجات الشعبية في فرنسا تنطلق كحركات اجتماعية من قبل المهمّشين البعيدين عن صنع القرار، ويفاجئون عادة حتى الأحزاب المعارضة. ذلك أن الفاعلين في هذه الحركات الاجتماعية يحتاجون إلى حشد الرأي العام للمحافظة على قدرتهم على ممارسة الضغوط، فالحركات الاجتماعية عادة ما تستحدث أشكالاً جديدة من الفعل المخِّل بالاستقرار، متحدية الدولة فيما يخص القانون والنظام- وهذا ما شاهدناه من أحداث في الاحتجاجات الأخيرة-.

ويشير الكتاب بأن فرنسا في أواسط التسعينيات من القرن العشرين شهدت عودة “المسألة الاجتماعية” مصحوبة بتحالف”قلق” بين القطاع العام والعاطلين عن العمل والعمالة الهامشية. ففي عام ١٩٩٥ حظى إضراب العاملين في قطاع النقل العام الذي امتد لفترة طويلة، بدعم كبير غير متوقع من الرأي العام، وقد أدى إلى خروج الملايين إلى الشارع في تظاهرات تضامنية بارزة عمَّت أرجاء البلاد، وتشكيل روابط تنظيمية ورمزية مباشرة بين الحركة العمالية ومجموعات مختلفة من المنبوذين، منهم المهاجرون غير الشرعيين والعاطلون عن العمل والمشردون، علاوة على طلاب المدارس الثانوية والجامعات والنخبة المثقفة.

وانخلق ائتلاف بين “اليسار الأخلاقي” للطبقة الوسطى الذي احتشد للدفاع عن حقوق الإنسان و”اليسار الاجتماعي ” الذي حَشد العمال، وذلك في عام ١٩٩٧ عندما احتج العاطلون عن العمل ضد قانون تعويضات البطالة، وحول إدارة الصندوق إلى إدارة مركزية. وطوال عقد التسعينات نُفِذَت سلسلة من الإضرابات والمسيرات والاحتجاجات، واحتلال البلديات ومقر الحزب الاشتراكي الفرنسي ودار المعلمين.

كما احتج العاطلون في عموم أوروبا، فقد تلاقى العاطلون من فرنسا وألمانيا وإسبانيا وإيطاليا في مسيرات مناهضة للبطالة وانعدام الأمان الوظيفي في عام ١٩٩٧. وبعد عامين احتشد نحو ٣٠ ألف شخص دفاعاً عن القضايا نفسها في مؤتمر قمة الإتحاد الأوروبي. واستطاع العاطلون الفرنسيون خلال هذه الدورة من الاحتجاجات تشكيل موارد جمعية للتعبئة. لقد واجه المحتجون القضية السياسية الخاصة بالاعتراف بالعاطلين أنفسهم، محرزين انتصاراً في معركة رمزية، وذلك حينما دعا تنظيمهم إلى مقابلة الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران. بمعنى آخر، بعد كل هذه الاحتجاجات والنضالات و”الحفر” في الجدار حتى يفتحوا ثغرة للنور، حصلوا فقط على لقاء رمزي مع رئيس الجمهورية، ووعود فارغة من المصداقية.

ماذا ستفعل الحكومة الفرنسية؟ ..

الحكومة الفرنسية ستحاصر هذه الاحتجاجات، وستمارس بعض القمع والاعتقالات، وفي نهاية المطاف ستمتص النقمة والغضب باستخدام بعض الوعود، وقليل من تأجيل قرارها بتعديل قانون التقاعد.

الرأسمالية النيوليبرالية الفرنسية، شأنها شأن كل النيورأسمالية الغربية والأميركية، وحتى العربية، تهدف ليس فقط إلى تسويق الاقتصاد، بل أيضاً القضاء على تلك الحركات المضادة للرأسمالية بهدوء قبل أن تتجذّر، تتركها تصل إلى قمتها من الاحتجاجات، ثم تدريجياً تحتويها. يشير كتاب “الأسوأ لم ياتِ بعد” لپيتر فليمنغ، وهو مفكر بريطاني معاصر، بأن نجاح السياسة النفسية الليبرالية الجديدة يُمكن أن يلاحظ في نوباتها “الإيجابية”: فبدلاً من العمل بتهديدات سلبية، تعمل بمحفزات إيجابية. بدلاً من تطبيق “العلاج المر”، تقدم الإعجاب، فهي تتملق النفس بدلاً من هزها وشلها بالصدمات، تغوي السياسة النفسية النيوليبرالية الروح، إنها سياسة ذكية وودودة. وهي السياسة التي مورست مع كافة الحركات الاحتجاجية السابقة. ذلك أن النيوليبرالية الرأسمالية التي تحولت إلى عقيدة طائفية، مثلها مثل أغلب الطوائف المتطرفة، فغالباً ما ستفضل التدمير الذاتي على الاستسلام، لذلك ستواصل ممارسة الخبث والخداع لتستمر مهيمنة، لكنها لن ترجع إلى مرحلة ما قبل النيوليبرالية المتوحشة، حيث كانت الدولة حاضنة اجتماعية للطبقات العاملة والفقيرة والمتوسطة. ومع ارتفاع نجم النيوليبرالية في نهاية السبعينيات وخلال الثمانينيات، تغير دور الدولة بشكل ملحوظ لاسيما بعد أن فُتنت الدولة بالأعمال الكبرى والأسواق الحرة، فاحتقرت الحكومات فكرة الدولة الخيرة واحتفت بالأنانية بين مواطنيها. “تحولت الدولة الحاضنة إلى الدولة زوجة الأب. وزوجات الأب هن أبعد ما يكنّ عن أبناء أزواجهن”.

هذا هو نوع الحكومة التي حصلنا عليها في فترة رونالد ريغان ومارغريت تاتشر. هذه النيوليبرالية تسعى لمراقبة المجتمع، لكن لصالح نخبة الشركات، وعلى حساب الجميع فيما عداهم. هذه الدولة رغم محاولة محاكاتها هذه ينتهي بها الحال إلى دولة فصامية غير مستقرة، متنمرة، سايكوبيتية، العمل على الاستحواذ الكامل على المجتمع، وتمزيقه بالكامل، تمزيق النقابات، تمزيق المجتمع المدني القوي، شراء الإعلام والسيطرة عليه،،،إلخ. هذه الدولة بسياساتها العنيفة المالية والقومية التي تعتمد عليها”.

مقابل هذا نشاهد اليسار الفرنسي، والأوروبي عموماً، بل وبعض من اليسار العالمي والعربي، يركز “نضاله!” على الإصلاح من داخل النيوليبرالية، بدلاً من رفضها وإسقاطها. كتاب “الأسوأ لم ياتِ بعد” يشير إلى هذا اليسار الهجين: “هؤلاء اليساريون يكشفون فعلًا عن فداحة اللامساواة في الدخل، حيث يتحكم ثمانية من أغنى الناس في العالم بثروة تعادل ما يملكه أفقر ٥٠٪ منهم. لكنهم يقدمون “وَهْم” وجود الجانب المشرق في الرأسمالية، فالفجوة بين الأغنياء والفقراء ربما تنكمش قريباً، إذ إن أكثر الناس يتعلمون كيف تحدث اللامساواة، وصاروا يدركون أن الفجوة ليست حتمية وإنما هي نتيجة لقرار سياسي خاطئ ممكن التراجع عنه ببعض الضغط. ويستشهدون برئيسة وزراء بريطانيا

المحافظة تيريزا ماي، فطالما هي تنتقد علناً اللامساواة، فالأمور تدعو للأمل!!. فهي على الأقل “مضطرة للتظاهر بالاهتمام”. الواقع يقول عكس هذا الأمل. فمهما نشرت كبريات الصحف الأميركية والبريطانية مقالات حول اللامساواة في الدخل، والناس يدركونها، ولكن رغم ذلك، تزداد اللامساواة سوءاً.

فمنذ الانهيار الاقتصادي قبل حوالي أكثر من عشر سنوات، والذي حطم حياة الناس ونشر المعاناة، فإن ثروات فاحشي الثراء في الواقع ازدادت بدرجة ملحوظة. مؤلف هذا الكتاب يقدم رؤية مضادة لهذه الرؤية اليسارية الهجينة من أجل النجاة من الظلام والإظلام المتنامي الذي يحيط بنا. فبدلاً من التخلي عن الاحلام اليسارية المشروعة علينا أن “نستمر مخلصين لاستيائنا”، وهذا هو الكسر المطلوب. فالتشاؤم الثوري قد يمنحنا مخرجاً. علينا ألا ننصاع ولا نستسلم، حتى في أعقد الظروف. يتوقع التشاؤم الثوري أسوأ المفاجآت التي قد تنتج عن هذه الحضارة الجانحة، ورغم ذلك، يرفض عقيدة العبث التي تمارسها معنا. إن التعاسة الجمعية والتفاؤل الفردي وجهان مختلفان لعملة واحدة، والتشاؤم الثوري سيقلب هذه المعادلة -أي سيصبح التفاؤل جمعياً واليأس فردياً، فالرأسمالية النيوليبرالية تريدك أن تكون وحيداً، ولذلك فالجماعية الاجتماعية غير الموثقة هي عدوتها. التشاؤم الثوري ليس هو أيام الماضي السعيد، لكن الانحلال القادم لن يكون إلا تعديلاً متواضعاً لما هو قائم الآن. فهل تقبل بهذا التعديل/الترقيع؟.

ولقد أصاب أمير طاهري، الصحفي الإيراني كبد الحقيقة عندما أشار في مقاله في صحيفة الشرق الاوسط، ٣١ مارس ٢٠٢٣، إلى “ليبرالية” النقابات العمالية الفرنسية، واليسار الذي خلفها، يقول: “في مايو 1968، كان باستطاعة المتظاهرين في الشوارع التقدم عبر شارع فوبورغ سانت أونور، والسيطرة على “قصر الإليزيه”.

وكان بإمكانهم دخول «قصر البوربون»، مقر الجمعية الوطنية الفرنسية، وملء المقاعد الشاغرة للنواب المنتخَبين الفارين، إلا أن المتظاهرين لم يفعلوا ذلك، لأن كل ما يعرفونه هو ابتكار شعارات براقة، وحفر خنادق والتمترس بها في مواجهة عدو لا وجود له. وتعج المصطلحات السياسية الفرنسية بمصطلحات شبه عسكرية مثل القتال والحصار والمقاومة، والانتفاضة والتضامن والجبهة الموحدة والعمليات والهجمات… إلخ.

وقد يجد المراقبون من خارج فرنسا الوضع محيراً؛ لماذا تقدمون أنفسكم ثوريين بينما كل ما ترغبونه منع التغيير؟ لماذا تحاكون الديمقراطية المباشرة، بينما تتمتعون بالفعل بأعلى معدل مشاركة في الانتخابات على مستوى الدول الغربية ذات الأنظمة الديمقراطية التمثيلية؟” -الديمقراطية المباشرة هي الديمقراطية التي ترفض الديمقراطية البرلمانية.

وما يؤكد كلامنا، وكلام الصحفي الإيراني، طاهري، موقف الحزب الشيوعي الفرنسي الذي لا يزال يراهن على الإصلاح من داخل النظام الرأسمالي النيوليبرالي. حيث أعلن الحزب بأنه ” تقع على عاتق اليسار مسؤولية كبيرة في تقديم بديل حكومي والفوز بأغلبية تشريعية في حال حل البرلمان. والحزب الشيوعي يعمل بنشاط لتحقيق ذلك، ويطلق حملة لتنظيم استفتاء عام على القانون قيد الصراع” !!.

هل المطلوب “الحفر” في الجدار أم إسقاطه؟ ..

في ضوء ذلك، علينا البحث عن طرق جديدة للقضاء على النيوليبرالية والاستبداد. لدينا المثل المعروف “المؤمن لا يُلدغ من جحر مرتين”. الحركات الاجتماعية الاحتجاجية بموجاتها الكثيرة منذ ستينيات القرن الماضي ولغاية الاحتجاجات الأخيرة، بمطالباتها المشروعة السياسية والعمالية، قد لُدِغَتْ من العقرب النيوليبرالي عشرات المرات، رغم أن المحتجين، سواء العمال المنتجين أو العاطلين أو المتقاعدين أو الأقليات المهمشة، في قمة نجاح انتفاضاتهم، يحلمون، ويرددون النشيد الثوري “سنظل نحفر في الجدار، إما فتحنا ثغرة للنور أو متنا على وجه الجدار”.

لكن ولأسباب سياسية واضحة إن اقتنعت الطبقة العاملة وحلفائها، وترجّلت عن ركاب التعامل مع الرأسمالية النيوليبرالية، ستقف عجلة الرأسمالية لا محالة، لذلك عليها أن تُغير مضمون هذا النشيد إلى “سَتَّرِصْ الطبقات الكادحة وحدتها، تراكماً فوق تراكم، دون تهاون، دون تراجع، دون رضوخ لنصبح جداراً ضاغطاً ندفع بقوة من خلالها لإسقاط ذلك الجدار النيورأسمالي، وندوس عليه، ومن ثم نحطمة، وننطلق في فضاء مجتمع العدالة والحرية والمساواة. هكذا سقط جدار برلين، رغم محاولات عديدة فاشلة للحفر فيه. وغير هذا التغيير الإستراتيجي المطلوب من قبل كل قوى التغيير الحزبية والنقابية والاجتماعية، فالعقرب سيستمر يلدغ، وينتصر في كل جولة وموجة احتجاجية.

*  نشرت في  موقع “دلمون بوست” 3 نيسان 2023

Leave a Comment