سياسة

منظومات السلطة والتسلط والاستقواء وتحديات استدراك المعارضة

زكي طه

رغم تبدل الاولويات على الصعيدين العالمي والاقليمي في ضوء الحرب الروسية المفتوحة والمستمرة على اوكرانيا وفيها، في أمتداد أزمة النظام العالمي، فقد خصص مجلس الأمن  الاسبوع الماضي جلسة لبحث الأوضاع في لبنان. عكس خلالها تقرير الممثلة الخاصة للأمم المتحدة، حالة “القلق من استمرار التدهور الاجتماعي والاقتصادي ومعاناة الشعب اللبناني وتآكل القطاع العام”، وشدّد على أهمية وجود “رؤية اقتصاديّة وماليّة عادلة وذات صدقية، وإدارة ماليّة سليمة، وإصلاحات ملموسة لقطاع الكهرباء، وسلطة قضائيّة مستقلة، فضلًا عن الحوكمة الرشيدة وتدابير لمكافحة الفساد، تمهيداً للاتفاق مع صندوق النقد الدولي”. وكما حذر التقرير من هشاشة الهدوء النسبي بين لبنان وإسرائيل، فإنه جدد المطالبة بإجراء تحقيق محايد وشفّاف في انفجار مرفأ بيروت، على أمل الوصول إلى الحقيقة وتحقيق العدالة للضحايا.  لينتهي بالتأكيد على حصول الانتخابات في موعدها المقرر.

لم يأت التقرير بجديد، بل كرر ما دأبت عليه  التقارير الأممية والدولية طوال السنوات الماضية. لكن القلق مرده يأس الخارج من منظومة السلطة التي تمتهن اطلاق الوعود وعدم تنفيذ أي منها، والخشية الدائمة من خطر تأجيل الانتخابات المقررة على مصير البلد، رغم معرفة الجميع في الداخل والخارج، أن حصولها سيعيد انتاج الخلل القائم والمستمر في لوحة توازنات القوى على نحو أفدح مما هو الآن.

مما لا شك فيه أن اصرار الخارج على إجراء الانتخابات، يتجدد  في مواجهة الرغبة الدفينة لدى العهد وتياره وأطراف أخرى، لعدم تجرع كأس الانتخابات النيابية. بينما يبدو راهناً أن كلاً من الولايات المتحدة وفرنسا وحزب الله المطمئن على أوضاعه، حريصون على حصولها في موعدها المقرر، كل لحساباته الخاصة وارتباطها بنتائج مفاوضات فيينا مع ايران ومفاعيلها في المنطقة.

ولأن الرهان على الاسباب القاهرة للتأجيل ليس مكفولاً، رغم تعدد مصادرها واحتمالاتها. فإن مسلسل افتعال العراقيل التي تودي بالاستحقاق الانتخابي لم يتوقف. بدءاً من تعديل القانون والطعن به وانتخابات المغتربين والـ “ميغا سنتر”، وصولاً إلى عرقلة الاجراءات الادارية وتأخير صرف الأموال اللازمة. لكن الأحدث في هذا الاطار استخدام  العهد وتياره بعض القضاء لخوض معركتهما المفتوحة لحصر التحقيق الجنائي مع حاكم المصرف المركزي، واستطراداً مع المصارف بذريعة تحرير أموال المودعين المنهوبة تحت طائلة الملاحقة والاحكام القضائية. والاستثمار فيهما على نحو يهدد مصير الانتخابات والقطاع المصرفي في آن.

ليس جديداً القول أن قانون الانتخابات يخالف على نحو صريح طموحات أكثرية اللبنانيين في التغيير. باعتباره نتاج أصعب وأدق معركة محاصصة طائفية لتقاسم المواقع وتوزيعها على التحالف الحاكم، وحصيلة مساومة عسيرة بين أركانه لضمان تحكمهم المسبق بنتائج الإنتخابات، وتكريس السيطرة المطلقة للأقوى على مؤسسات الدولة. هذا ما تؤكده سياساتها وإدارتها لشؤون البلاد في شتى ميادين السياسة والاقتصاد والاجتماع، وسط  أنغلاق كامل على الاصلاح ورفض كل ما يتصل به، باعتباره يتناقض بل يخالف طبيعتها البنوية الطائفية والفئوية.

ورغم أن احتمالات تأجيل الانتخابات لم ولن تنتهي. يستمر ضجيج المعارك بين أطراف السلطة، وسط اطمئنان قاطع بأن نتائجها لن تبدل جوهرياً في أوضاعها الراهنة. وأن الاختراقات المحدودة لها لن تغير في معادلاتها القائمة. الأمر الذي يجعل معاركها الفعلية محصورة بين أطرافها. ولذلك تستعر بينها حملات التحريض والتعبئة والتحشيد. ولأن الجميع يتلبس شخصية المخلص، فإنهم لا يتورعون عن استخدام كل ما تيسر لهم من الأسلحة والوسائل في مواجهة الآخرين.

وبما أن التجارب أثبتت أن  صراعات أهل الحكم، هي أفضل وسائل التضليل للبنانيين والتعمية على أوضاعهم الكارثية والمسؤوليات عنها. كان لا بد من إعلاء رايات المعارك الانتخابية وتصنيفها على أنها حروب وجودية ومصيرية في ما بينهم وعلى حد قولهم. لذلك حضرت على نحو سافر ثقافة الإلغاء والعزل والانعزال والتخوين. بالإضافة إلى نبش الماضي بكل ما يحتشد فيه من شعارات وممارسات تمجيداً للذات وإدانة الآخر في آن. مما يسهل معه الاطاحة بكل ما هو ايجابي في تاريخ البلد أو تهميشه. كما ارتفعت وتيرة الوعيد والتهديد، وسط التنافس على مقارنة الاستحقاق الانتخابي بمعارك وحروب كانت نتائجها تدميرية على البلد وأهله.

ولأن الهيمنة والاستقواء وتكريس السيطرة الطائفية والفئوية  تُبنى وفق معادلة: “ما لنا لنا، وما للآخرين لنا ولهم”. يعتمد الأقوياء تصعيد محاولاتهم لوراثة المهزوم، واستباحة ساحات الخصوم أو محاصرتهم لاضعافهم وإخضاعهم. في موازاة السعي الدائم لجعل الحلفاء ملاحق تابعة وأدوات مسترهنة بذريعة حمايتهم أو نصرتهم. والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى.

ومع إقفال مرحلة الترشح للانتخابات، من الواضح أن أعداد المرشحين للانتخابات التي بلغت 1043، لم ولن تبدل من طبيعة ووجهة المعركة الانتخابية بين أطراف المنظومة. ولا استخفافها بأوضاع اللبنانيين الكارثية، أو بما يهدد لقمة عيشهم ومصيرهم. خاصة أن تلك القوى التي صادرت الحياة السياسية طوال عقود ثلاث، قد أحسنت استغلال واقع حال قوى الاعتراض والاستثمار فيه لمصلحتها، سواء المتحدرة من مراحل سابقة، أو التي انتجتها  انتفاضة تشرين 2019.

وما يعزز اطمئنان قوى السلطة، ليس معرفتها بعوامل ومصادر قوتها وما تمتلكه من اسلحة،  أو تبدّل الاولويات على الصعيدين الدولي والاقليمي وتراجع الاهتمام بالملف اللبناني. إنما معرفتها الجيدة بأحوال قوى الاعتراض وهشاشة تشكيلاتها وهامشيتها وحدود فاعليتها. وهذا ما أكدته ولا تزال مسارات تحضيرها للمشاركة في الانتخابات. لأن السائد هو حالة التفكك والتشرذم التي عكستها أعداد مرشحيها، التي تجاوزت عدد مرشحي السلطة اضعافاً عدة. في موازاة العجز المستمر عن التوافق على تشكيل لوائح موحدة لخوض الانتخابات، الناجم عن تضخم الأنا والفئويات القاتلة وارتفاع منسوب الطموحات غير المشروعة. أما تشابه البرامج والشعارات بين الائتلافات والتشكيلات والمنصات فلا يقدم أو يؤخر، لأنها معلقة في الفراغ بعيداً عن الواقع. هذا عدا الخلافات بينها تبعاً لاختلاف مرجعياتها الفكرية أو السياسية في السلطة والخارج، أو انتسابها للانقسامات الأهلية. أما هامشيتها المجتمعية وإدمان تجاهل اولويات ومعاناة أكثرية اللبنانيين، فإنها الوجه الآخر لانعدام صلة برامجها وشعاراتها بأوضاع الفئات الاجتماعية المتضررة وقضايا المناطق التي تترشح عنها أو باسمها.

وعلى ذلك ورغم صراعات قوى السلطة واحتدام المعارك بينها. ورغم ما تسببت به سياساتها وممارساتها من أضرار كبرى أصابت اكثرية اللبنانيين بمن فيه جمهورها وقاعدتها، فإنها لم تزل قادرة على تجاوز خيبة الأمل منها. وها هي تتحضّر لخوض الانتخابات محصنة بقواعدها الحاشدة، على نحو يمكنها من تجديد قواها وأوازنها واستعياب ما يطرأ على أوضاع بعضها من تعديلات. ولذلك ليس مستغرباً أن تمعن في الاستهانة بحقوق ودماء ضحاياها، كما في استباحة كرامتهم، عبر ترشيح وتشكيل لوائح تضم نواباً ومسؤولين فاسدين مطلوبين للعدالة، أو محكومين بتهم العمالة للعدو الاسرائيلي دون أي رادع أو وازع أخلاقي انساني أو وطني.

في المقابل لا تبدو غالبية قوى الاعتراض في وارد الاستدراك، وعياً منها لطبيعة الاستحقاق الانتخابي، وأخطار تجديد شرعية منظومة الحكم عبر صناديق الاقتراع على نحو يمكنها من تكريس تسلطها وتحكّمها بمصير البلد ومواطنيه. ولأن عدم ثقة المتضررين بقوى ومجموعات الاعتراض لم تأتِ من فراغ، فإن التحضير للانتخابات بعيداً عن المتضررين ومطالبهم وطموحاتهم، كفيل باستمرار مقاطعة أنشطة تشكيلاتها وائتلافاتها، وربما إلى مقاطعة الانتخابات برمتها. إلا أنه ورغم ضياع فرصة تعديل نتائج الانتخابات، يستمر تحدي الاستدراك تحضيراً لما بعدها لخوض معركة انقاذ البلد من المصير المحهول.

Leave a Comment