ثقافة

 عن سؤال الأصالة والمعاصرة

كمال اللقيس

أن تضطلع بمهمة تفكيك معضلة الأصالة والمعاصرة، معناه أن تتجاسر على سائد نمطي نال من عقولنا مقتلاً على امتداد قرون متعاقبة .

لكن التجرؤ على المعرفة يدفعنا إلى خوض مغامرة المغايرة بعد التسلح بمنهج علمي – كمعيار دقيق – في مقاربة معضلة الاصالة/ المعاصرة. لكن المقاربة مهما ادعت الموضوعية تبقى اجتهاداً.

ووسط تخبط معظم الباحثين بين جزر الماضي ومد المستقبل، يغيب سؤال الحاضر عن معادلة حركة التاريخ، وترخي الثنائيات الإشكالية بثقلها على الباحث فيتداخل التاريخ وعلم الاجتماع. الفكر والسياسة. النظرية والممارسة. الدولة والمواطن. والدين والحياة.

ثم تتزاحم الاسئلة المؤرقة: لماذا  ننهض ثم نقع؟ لماذا نبني ثم نهدم؟ لماذا لا نستخلص الدروس من التجارب السابقة؟ لماذا لا نبدع وعياً تاريخياً كتأسيس لوعي سياسي؟

لقد اصيب الناس بالإحباط العام جرّاء الانقلاب المتمادي للمُثل والقيم  بين عصور زمنية قصيرة نسبياً. لقد تاه الناس بين الإيمان بشيء في الأمس والكفر به اليوم التالي، بين الصواب والخطأ، بعد أن تساوى كل شيء مع كل شيء. بعد أن تماهى “المقدس ” مع “المدنس” فبات الصنم الهاً والإله صنماً.

هذا المخاض حوّل الإحباط إلى لامبالاة.  وأعاد الناس إلى المخزون النفسي القديم،  إلى اللاوعي التاريخي المستمر، فإفترسهم الإسلام السياسي بشقيه الشيعي والسني وسط غياب كامل للبديل الثوري . اليساري التغييري الحداثي.

وبعد، فحتام سيبقى الاستعمار ينتهك انسانيتنا وينهب مواردنا؟!

حتام ستبقى الأفكار المعلبة تتقاذفنا، فنغفو على نظام سياسي لنصحو  على نقيضه؟!

حتام سنبقى رهائن محبسين:

استلاب ديني يرخي علينا بكلكله منذ قرون. وجرح نرجسي غائر ندور معه حول شمس وهمية؟! إن ملامسة كبد الحقيقة تقودنا إلى السؤال الحقيقي. هل نحن مرضى بالآخر الغربي المتفوق؟ هل هو النقيض والمثال؟

ولكن لماذا لا نتناول السؤال بصيغة اخرى؟ ألا يمكن التعامل مع الآخر المختلف بطريقة مختلفة جذرياً؟ هل يمكن أن يغدو الآخر المتفوق موضوعاً للعلم بدلاً من أن يكون مصدراً له؟ هل تمكن دراسة النموذج بدلاً من إتباعه؟ فهذا النموذج ليس “مقدساً” او معطًى مسبقاً ناجزاً، بل نشأ في تاريخ ما، وفي واقع ما، وفي حيز جغرافي ما. هو- أي النموذج – نمط حضاري تكوّن لدى شعب له نشأته وبنيته ومصادره. فألثقافة الاوروبية – كغيرها – لها مصادرها اليونانية والرومانية، ولها مراحلها، أما قيمها فمشروطة بالمجتمع الذي انتجها. ولأن الوعي الأوروبي وعي تاريخي فقد تدرج من الإصلاح الديني إلى النهضة الى العقلانية إلى العلم بكل ميادينه.

تأسيساً على ما  سلف. لماذا لا نزاوج بين العقل العلمي النقدي المؤسساتي الغربي وقيم مجتمعية راسخة في مجتمعاتنا منذ عصور (النخوة-الكرامة – المروءة – المعاضدة….) فنخرج بمعادلة اجتماعية قابلة للحياة؟ بدلاً من استنساخ هذا النموذج أو الدعوة إلى قطيعة معرفية كاملة معه؟

إن الهروب من مواجهة قضايا العصر وتهميش شروط الدخول إلى المعاصرة  يزيدان المعضلة تعقيداً. فالتعاطي الموضوعي مع قضايا العصر، لا يعني تبني كل ما يحمله من معطيات، ولا رفضاً للتناغم معه، بل يكرس – بالضرورة – نوعاً من التواصل والحضور من خلال آلية مختلفة لما هو سائد، عبر منهجية تخلو من الالتباسات حول مصطلحات مستخدمة في قاموسنا السياسي اليومي كالهوية والذات والآخر والتراث…

وحين ننظر إلى الذين يتمسكون بالعودة إلى الأصول، ويلحون على تطبيق الشريعة الإسلامية مهما كلف الأمر، نراهم يهملون ما هو مضيء في التراث، فيقعون في التناقض الذي يُسقط مشاريعهم التاريخية واحداً تلو الآخر. لأنهم أسرى العلاقات ما قبل الحداثية. فوعيهم لا يتجاوز حدود الدين والدم والنسب والعشيرة والطائفة ونبش الموروثات، والعيش في حدودها فهي لا تندثر وتموت، بل تتعزز وتتعمق.

إن التحول والتقدم الثقافي يشكلان فرصة تاريخية للتحاور والتواصل مع الثقافات الأخرى، فالفرد المعاصر لا يرى – بالضرورة – الاتفاق على رأي واحد وموقف واحد من مختلف القضايا الإشكالية الملحة،  لكن الإيمان بالتقدم وبقدرة الفرد على التكيف مع الأصلح وبحرية الإختلاف، هو تأكيد لدينامية وفاعلية التفكير المعاصر.

إننا كأفراد نطمح ونتوق للعيش في مجتمع معاصر تتوفر فيه مقومات الحياة المدنية. واذا أردنا ولوج المعاصرة في غياب أدنى معالم المجتمع المدني عندنا، فماذا سنفعل كأفراد معاصرين؟

علينا أن نتمتع بالإرادة الصلبة والجرأة الاستثنائية في مواجهة تيار “القطيع” الجارف، لأن تغييب الحرية، وبالتالي الديمقراطية – كضرورتين تاريخيتين – جعل إمكانية انتقال مجتمعاتنا إلى المعاصرة مستحيلة.

ان إلتباس المفاهيم في عصر ثقافة التهافت والانهيار، يفرض أسئلة ملحة تمس مستويات الحياة كلها، بما فيها المستوى الثقافي. لذا يتعين على مثقفينا إزالة كل لبس وغموص يطالان مفهوم التراث والتأسيس لمنهج يتناول هذه المسألة، ربطًا بحركة المجتمع واحتكاماً إلى الرؤية الموضوعية لسيرورة التاريخ.

من هنا يصبح حصر مفهوم الأصالة بالتراث، والمعاصرة بالآخر المتفوق طرحاً مبتوراً  وخاطئاً، ويتنافى مع النظرة العلمية التي ترد الأصالة إلى حركة الواقع بكل ما يشمل من عناصر- بما  فيها التراث – والمعاصرة، إلى استخدام المنهج العلمي في المعرفة والبحث والتفكير. وهذا يقودنا إلى الاستنتاج بأن التناقض المفتعل بين ذاتنا القومية الأصيلة – والوطنية ضمناً – وبين الحضارة المعاصرة، كان وما يزال ظاهرياً لا يطال جوهر القضية .

هذه الإشكالية في فهم ثنائية الأصالة والمعاصرة جعلت المتحجرين يتقهقرون إلى التراث، خوفًا من رياح التغيير القادمة من وراء البحار، ومركبات النقص عندهم  حالت دون الانفتاح على الآخر المتفوق. هذا الموقف الرجعي يحرمنا من الإفادة من تجربة الآخر المتفوق، فلعلنا نجد عنده ما يفتح عيوننا على جوانب من تراثنا ما كنا لنكتشفها بغير أدوات البحث العلمي الحديث. فالإنفتاح المستنير والاختيار الحر لما في التراث من عناصر قوة وقيم دافعة لحركة المجتمع، يشكلان وحدهما الركيزة الأساسية لأصالتنا، ومعهما فقط يصبح الواقع المعيار الوحيد للرفض او القبول. وبذلك تغدو أصالتنا ومعاصرتنا رهناً بموقفنا من واقعنا وموقعنا وفعلنا فيهما.

Leave a Comment